لندن | البرد يتسلّل بقسوة إلى عشرات الخيم المنصوبة في تلك الساحة المحيطة بكاتدرائية «سانت بول» في لندن. خيم تمتد حول المبنى العملاق وشعارات مناهضة للرأسمالية في كل مكان على باب المبنى الشهير. تلك الكاتدرائية التي كانت قد تصدّرت العناوين قبل عقود حين احتضنت زواج الأميرة ديانا بالأمير تشارلز، تعود في هذه الأيام إلى الواجهة الاقتصادية وصار اسمها العريق مرتبطاً بنشاط «احتل لندن»، المؤيدة لـ«احتلوا وول ستريت» حيث يفترش مناهضو الرأسمالية والمطالبون بـ«العدالة الاجتماعية» ساحتها الواقعة في إحدى المناطق المكتظة في عاصمة الضباب. لم يقصد مئات المحتجين الحضور في ساحة الكاتدرائية الشهيرة، التي أغلقت أبوابها بسبب الاعتصام للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية، لكنّهم «تراجعوا» إلى ساحتها بعد عجزهم عن «احتلال» مبنى بورصة لندن الجاثم على بعد أمتار من المكان.
تراجع «المحتلون» إلى الساحة، ونصبوا خيمهم وعلّقوا شعاراتهم. بدأ الاعتصام يتخذ شكلاً ثابتاً: على كل خيمة اسم، وفي وسط الساحة منصّة صغيره يعتليها فنّانون يساريون. تحوّل درج الكتدرائية إلى مدرج للجمهور. «من هنا سيأتي التغيير». قال أحد المعتصمين. على مقربة منه، وتحديداً على الجدار الفاصل بين ساحة الكاتدرائية ومبنى البورصة، عُلقت لافتة كُتب عليها «ميدان التحرير» بالإنكليزية. «الربيع العربي»، رغم ما يشوبه من تفاصيل في الدول العربية، يكتسب مع برد لندن معنى غير مألوف. المعتصمون معجبون بنموذج الاعتصام الذي سيؤدي، بحسب رؤيتهم، إلى التغيير. «نحن معتصمون هنا، ولدينا مطالب حين تُلبّى سنغادر»، على حد تعبير أحد المعتصمين. حين تسأله عما إذا كان متفائلاً بهذا الاعتصام، يجيب: «التفاؤل ليس سؤالاً. نحن لسنا متفائلين، بل أناس لدينا مطالب وستُحَقَّق». هذا هو الإيمان بـ«التغيير»، وفق أحد عازفي البيانو المعتصمين.
مئات الشباب يعتصمون وسط العاصمة، ليكونوا جزءاً من 85 اعتصاماً مناهضاً للرأسمالية يهدفون إلى تحقيق العدالة الاجتماعية حول العالم. «احتل لندن» على غرار «احتلوا وول ستريت». قد يكون شعار «العدالة الاجتماعية» فضفاضاً، لكنّه يحمل بين طيّاته احتجاجاً غير مألوف. الناس في لندن يسيرون على مقربة من المكان غير مكترثين بما يجري، فهم أيضاً مشغولون بيوم العمل الشاق والطويل منذ الصباح حتى غياب الشمس. لكنَّ المدينة الأوروبية شهدت في العام الأخير تصاعداً في وتيرة الاحتجاجات الاقتصادية في أعقاب اتخاذ حكومة المحافظين تقليصات شملت المرافق التعليمية والحياتية، أهمّها رفع أقساط التعليم للسكان المحليين بثلاثة أضعاف، ما قلل نسبة التوجه إلى الجامعة. إحدى الفتيات من قادة الاحتجاج قالت في فيديو مسجّل إنها تعيش في عائلة، والدتها فقدت عملها، وشقيقها من ذوي الاحتياجات الخاصة، وثمة خوف يتهدد المستحقات التي تنالها. ترى أن مكانها هنا في هذا الاعتصام. يحاول جون (35 عاماً) أن يوضح بضع نقاط: لسنا ضدّ عمال المصارف، بل نحن ضد أصحاب هذه المصارف، ونحن مع الـ 99 في المئة من الناس». وحين تسأله عن حياته ناشطاً، يقول إنّ «المشكلة تكمن في أني لست ناشطاً في هذه الحركات، أنا إنسان عادي، وعندما أشعر بأنّ علي المجيء إلى هنا، فهذا يعني الكثير».
«ميدان التحرير» ليس شعاراً فحسب، فحركات الاحتجاج اليساري تنظر إلى «النموذج المصري» بعين من السعادة واكتساب التجربة. هكذا، باتت الانتفاضة المصرية نموذجاً يحتذي به الغرب قبل الشرق، وخصوصاً أنّ الثورة المصرية بدأت كانتفاضة اقتصادية تطالب بفرص العمل والعدالة الاجتماعية ومناهضة القمع، ما تحول في ما بعد إلى ثورة عارمة تطالب بإسقاط النظام القامع ورئيسه. نظام لا يعبّر فقط عن قمع سياسي، بل أيضاً اقتصادي، وجيل «الفايسبوك» هو أيضاً جيل كان ضحية للرأسمالية.
يشتدّ الليل، والناس يغادرون المكان مع انخفاض الحرارة. قد يرى المرء شعارات اقتصادية تناهض السياسات الحديثة، لكنّ الحديث المباشر عن السياسة لا يغيب عن المشهد: ما نعيشه اليوم في أوروبا ليس ديموقراطية، فأي ديموقراطية هذه حين تكون على دراية بأن ابنك سيولد لخدمة هذه المنظومة، وأنه سيولد من أجل العبودية؟ يتساءل أحد المعتصمين. اجابته تستدعي سؤالاً آخر: «وهل لاعتصام صغير كهذا أن يغير منظومة كبرى؟». يجيب الشاب: «نحن جزء من اعتصام ضخم يتسلّل إلى وعي الناس. أنا أنظر إلى النصف الممتلئ من الكأس، وأعرف أنه حتى الآن لم يصل إلى أن تكون نصف كأس. لكن حتى لو كان في قاع الكأس، فأنا إنسان لدي مطلب وعليه أن يُنفذ». البرد يشتدّ. بضع قطرات من الشتاء كفيلة لإبعاد الهواة القادمين لمشاهدة الاعتصام. لكن هذا لم يمنع المغني الصاخب على المنصة من الغناء ضدّ المنتجات التي يستهلكها المرء من «السوبرماركت» القريب. تسأل أحد الشبان الذي يبيع الكتب عن لينين: ألا تشعر بالبرد؟ هل ستغادر الاعتصام؟ لا يتردد في الإجابة: نعم، الطقس بارد جداً، لكن ما شأن البرد بالاعتصام؟