إسطنبول | فجأةً، قفزت قصّة تركية انسانية ـــــ اجتماعية غير بعيدة عن المستوى السياسي، لتطفو على سطح الاهتمام العام في البلاد على حساب أولويات سياسية حامية. القصة تعود لعام 2002، حين اغتصب 31 شخصاً، بينهم ضباط عسكريون وموظفون حكوميون، الفتاة ن.ج. على نحو جماعي، وهي تبلغ 13 عاماً. وقد صدر الحكم القضائي النهائي في القضية قبل أيام، ليقضي بأربع سنوات من السجن فقط بحق جميع المتهمين على قاعدة أن الفتاة مارست الجنس بكامل رضاها، وفق حكم محكمة التمييز التي ثبّتت قرار محكمة البداية. ومنذ ذلك الحين، يحتلّ الموضوع صدارة عناوين الصحف والتعليقات وردود الأفعال على أعلى مستوى سياسي، لكونه أحدث صدمة حقيقية في المجتمع التركي. ن.ج. فتاة تنحدر من عائلة فقيرة في ماردين في جنوب شرق البلاد المختلطة كردياً وتركياً وعربياً. وعام 2002، حين كانت في سنّ الـ13، باعتها عائلتها لـ31 رجلاً اغتصبوها مراراً، بينهم ضابط في الجيش وعدد من المخاتير وموظفون حكوميون في بلدية ماردين ومحافظتها وموظف حكومي في شركة الكهرباء ومحاسِب في مصرف تابع للدولة. وقد اتخذت القضية بُعدها السياسي بما أنّ بين المغتصبين عدد من عناصر «حرّاس القرى»، وهو تنظيم ميليشياوي كردي مسلح شبه رسمي، أسّسته وموّلته الحكومة التركية في ثمانينيات القرن الماضي ليقاتل «حزب العمال الكردستاني». وبحسب حيثيات القضية، تعرّضت ن.ج. للاغتصاب في عدد من الأماكن، بينها مبنى محافظة ماردين. وعندما اشتكت الفتاة لدى الشرطة، سلّمتها المحكمة لطبيب شرعي من دون تعيين معالج نفسي لها. وتضمّن تقرير الطبيب الشرعي أنّ الفتاة لم تقاوم مغتصبيها، رغم أنها اشتكت بنفسها لدى الشرطة بعد اغتصابها. بعدها، نُقلت الفتاة إلى إسطنبول ووُضعت تحت حماية الدولة بسبب الضغوط الكبيرة التي مارسها عليها المتهمون وعائلاتهم، حتى إن محاميها تعرّضوا للتهديدات العلنية في قاعة المحكمة أثناء الجلسات من دون أن يُتَّخَذ إجراء بحق المهدِّدين. وقد أُودعَت ن.ج. مؤسسة تعنى بالعناية باليتامى كشف مديرها أن الفتاة ـــــ الضحية حاولت الانتحار مراراً، وكانت تتعرض لنوبات بكاء مستمرة. ويروي أحد المحامين، الذين توكلوا للدفاع عنها، إرن كيسكين، الذي عاد ليتبنّى الفتاة لاحقاً، أنّها تعرّضت للإهانة حتى على يد القضاة الذين طلبوا منها مرّةً أن تصف لهم كيف تعرّضت للاغتصاب! وخلال فترة المحاكمة، بعثت ن.ج. رسالةً إلى وزير العدل في حينها، كميل جيجيك، لتشتكي النظام القضائي المتَّبع، كاشفةً، في متن الرسالة، أنّ عدداً من الفتيات يقعن يومياً ضحيّة جرائم اغتصاب من ضمن «الحرب» على الإرهاب التي تديرها الحكومة ضدّ حزب العمال الكردستاني في جنوب شرق الأناضول. لكن كان للرسالة نتائج عكسية، إذ إنّ استخدام ن.ج. لمصطلح «الحرب» أدّى إلى فتح تحقيق ضدّها. وقد تكون ن.ج. قد أخطأت في عنوان الرسالة عندما بعثتها لجيجيك المعروف بعبارته الشهيرة: إنّ المغازلة تساوي الدعارة.
وبالعودة إلى ملابسات الدعوى القضائية، ادّعى المتهمون أن الفتاة أصرّت على ممارسة الجنس معهم، وأنها هدّدتهم باتهامهم باغتصابها عندما رفضوا طلبها، فوافقوا حينها على اغتصابها! وطال الزمن بالقضية التي كانت بحاجة إلى سبع سنوات كي تصدر المحكمة المحلية في ماردين قرارها فيها، فقضت بأحكام مخففة من السجن بحق 28 من المتهمين، 5 سنوات في حدّ أقصى. وفي أول تشرين الثاني الجاري، أصدرت محكمة التمييز حكمها الذي ثبّت القرار السابق المبني على أساس أن الفتاة وافقت على اغتصابها، رغم المبدأ القضائي الذي ينص على عدم الاعتراف بالموافقة الإرادية لقاصر في مثل هذه القضايا.
وكعادتهم، صوّب رموز الحكومة سهامهم على النظام القضائي التركي، على اعتبار أنه لا يزال يمثّل العقلية الكمالية العسكرية. وفي السياق، اتهم وزير شؤون الاتحاد الأوروبي، إغمن باغيش، الجهاز القضائي في البلاد بالسعي إلى تثبيت الوضع القضائي الشاذ القائم، لافتاً إلى أن كلاً من المعارضة والجهاز القضائي «يعملان لعرقلة الحكومة في تعديل القوانين»، علماً بأن من شأن الحكم المذكور أن يسبب مشاكل كبيرة لملف عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي. لكنّ إلقاء الحكومة الملامة على الجهاز القضائي يبدو غير مقنع، بما أنّ أحد محامي الفتاة الضحية، ريحان يالشينداغ، كشفت أن القضاة الذين أصدروا الحكم الذي يثير الجدل، عُيّنوا من «المجلس الأعلى للقضاة والمدعين العامين» المؤلَّف حديثاً بعد التعديل الدستوري لـ12 أيلول 2010. وقد أثار الحكم القضائي المذكور تظاهرات عديدة لناشطين حقوقيين رأوا أن الحكومة لا تسعى كفاية لحماية النساء، في بلد تموت فيه امرأة واحدة يومياً نتيجة العنف ضدها. اليوم، الفتاة ـــــ الضحية البالغة من العمر 21 عاماً تعيش مع والدها بالتبنّي المحامي إرن كيسكين، وهي تدرس اللغة الإنكليزية، وقد خضعت أخيراً لامتحان تحضيري لدخول الجامعة ودراسة القانون.



علّقت وزيرة الشؤون العائلية في حكومة رجب طيب أردوغان، فاطمة شاهين، على القرار القضائي الذي صدر عن محكمة التمييز في 1 تشرين الأول الجاري في مسألة اغتصاب الفتاة ن.ج. ببيان مكتوب، انتقدت فيه الحُكم الذي «جرح ضمير الشعب»، مشيرةً إلى ضرورة تعديل القوانين لكي لا تُؤخَذ الموافقة الإرادية للقاصرين في الاعتبار أمام المحاكم بعد اليوم.