طهران | كالنار التي تصهر الحديد تبدو السيارات في طهران من شباك الطائرة. أضواء متراصّة تجري بين دفّتي شوارعها التي لا تنتهي. تُعدّ نفسك لتحطّ في إحدى أكثر المدن ازدحاماً بالسيارات في العالم. هذه الحقيقة الوحيدة ربما التي عليك أن تبقيها في رأسك بينما تخرج إلى المدينة، بما أنّ أبواب طهران لا تفتح لرأس مثقل بالأفكار المسبقة.
المشي في المدينة، بعيداً عن السائقين المتهوّرين، يضعك أمام الحدائق العامة ومساحات خضراء لا يستهان بها، وطبعاً أشجار الـ«شينور» التي تملأ طهران. جزء منها استحدث ضمن خطّة حكوميّة لتشجير المدينة للحدّ من نسبة التلوث فيها. لكن المهمة تبدو صعبة في طهران المحاصرة بجبال تحجب التيارات الهوائيّة التي يمكنها أن تبدّد الغمامة السوداء الناجمة عن التلوّث.
في الحدائق العامة لا يطعم الناس الحمام، إذ إن طهران لها خصوصيتها في كلّ شيء تقريباً. هنا تجد الغربان السوداء بين أغصان الـ«شينور» العالية، أو عجوزاً تجهد في تقطيع الخبز لها في الحديقة وإطعامها. الخوف من الاقتراب منها يفضح أنّك غريب، ما يجعلك تتلقّى بعض عروض التصوير في الحديقة. لكن الصورة بالحجاب تجبر المرأة على التفكير في ملحقات أخرى، أبرزها طبعاً الماكياج. فعدّة إغراء المرأة «الطهرانية» محصورة كلّها في الجزء الوحيد الذي يمكنها إبرازه.. وجهها. محاولة مواكبة الطهرانيّات في هذا المجال مهمّة مستحيلة. فكميّة الماكياج التي تضعها بعض الإيرانيّات هائلة. في تلك البقعة التي تتركّز عليها الأضواء، رموش اصطناعيّة، وعيون تغرق في الكحل وعمليات تجميل وحواجب معظمها موشومة.
لطهران، تحت رذاذ المطر، سحر يتسرّب إلى نفسك من حيث لا تدري. ربما هي تكتسبه من شبابها الذين يتواعدون على الجبال التي تحوّلت إلى متنزهات رائعة. يغنّون بصوت عالٍ ويصفّقون بفرح لا مثيل له، حتى وقت متأخّر من الليل. أو من الناس الذين ما إن يعرفوا أنّك تزور مدينتهم للمرّة الأولى حتى ينهالوا عليك بالعروض لزيارة منازلهم، أو يهدونك شيئاً، أو حتى يقترحوا أن يأخذوك في «كزدورة» لتتعرّف إلى طهران. لكن المدينة تبقى مبهمة جداً لمن يزورها زيارة خاطفة. الأمور فيها أكثر تعقيداً ممّا تتخيّل، بما أنّها لا تشبه كثيراً صورتها في الإعلام. كون المدينة إسلاميّة، فارسيّة، غير كوسموبوليتيّة، يزيد من صعوبة الأمور. فلا شيء هنا يشبه ما تراه في عواصم أخرى. وكأنّ العولمة لم تمرّ من هنا. كل شيء مصنوع خصوصاً من أجلهم. يراعي أذواقهم وثقافتهم، ومقولب حسب حاجاتهم، كذلك فإنّ احترام لغتهم الأمّ يبقى فوق كلّ شيء.
تمضية أسبوع في طهران يخلّف شعوراً بأنّ المكوث ممتد لسنة. فمن لا ينتمي إلى البلد سيواجه صعوبات كثيرة مع الإنترنت، تجعله يشعر أنّه معزول تماماً عن العالم. فالسائح الساذج لن يعرف كيف يخترق الفيلتر الحكومي للفايسبوك، بما أنّ شبكة التواصل الاجتماعيّ ممنوعة في طهران. مع ذلك كل الإيرانيين يملكون حسابهم الخاص على فايسبوك ويستخدمونه بسهولة بالغة، بما أنّهم يحمّلون برنامجاً على أجهزة الكمبيوتر يجعل دخول الفايسبوك مهمّة عاديّة. فإيران هي بلد، «كل شيء ممنوع هو مسموح». على فايسبوك تتغيّر أشكال الإيرانيات. هنا يحمّلن صورهنّ بلا حجاب، وترى بعضهنّ بملابس صيفيّة خفيفة، وأخريات لا يتوانين عن إظهار مفاتنهنّ.
زيارة طهران تهزّ الكثير من الأفكار المنمّطة عنها. في البلد الذي يشغل العالم، قلائل هم من يظهرون اهتمامهم بالسياسة. يقولون إنّهم يميلون إلى الثقافة أكثر من السياسة. لا يبالون بتصاعد لهجة التهديدات ضدّهم، أو بطبول الحرب التي تقرعها إسرائيل وأميركا إعلامياً. عندما تثير معهم الموضوع، يأخذون الأمور على عادتهم بكثير من الهدوء، ويقولون: «لا حرب أبداً، هذا فقط شدّ حبال بين الدول»، لا يهتمون حتى بمتابعة تفاصيله، إذ إنّ أحداً لن يجرؤ في رأيهم على شنّ حرب على إيران. لكنهم وغيرهم واثقون من الدور الكبير الذي تؤديه إيران في المنطقة. ففي اجتماع مع محمد زادة، أحد مستشاري وزير الثقافة والإرشاد الإيراني، ضمّ عدداً من رؤساء تحرير وسائل إعلام إسلاميّة وأوروبيّة، ترى أنّ المسلمين في مختلف بقاع الأرض ينظرون إلى إيران على أنّها «الأم الحنون» والأب الذي يجب أن يكفّ عصا المضطهدين عنهم. الصحافيون الذين ينتمون إلى أقليّات مسلمة في بلادهم يشكون لزادة الظلم اللاحق بهم، وينهون مداخلاتهم بسؤاله بانفعال «أين هي إيران؟». يكرّر زادة دوماً بصبر إجابته، ويقول إنّ إيران لا ترضى بالظلم، لكنها في الوقت ذاته لا تفضّل مجموعات على أخرى في تعاملها مع الدول، وتسعى دوماً إلى التعامل على مستوى الحكومات لحلّ الأزمات. هكذا، بهدوء وصبر، يعالج الإيرانيون أمورهم كلّها. تخرج من البلاد وتشعر أنّ هناك الكثير ممّا خفي عنك، وأنّك لم تفهم كنهه بعد. يصف أحد الإيرانيين بلده قائلاً: «إيران هي كأس كوكتيل كبير، فيه الكثير من المكونات المختلفة، ولا يمكنك أن تشعر بطعمها إلّا بعد أن تشرب عدّة كؤوس. هي بعيدة عن الكمال، لكنها أيضاً بعيدة عن الصورة التي يرسمها الإعلام العالمي عنها».



في طهران الاعتزاز باللغة الأم كبير. أهلها لا يتكلّمون بلسان غيرهم، وقليلاً ما ترى هنا لافتة أو لوحة أو إعلاناً بالإنكليزيّة. حتى الكتابات القليلة التي تراها بالإنكليزيّة، تشعر كأنّها هنا لخدمة لغتهم أيضاً. تفاجأ كيف لا تسقط منهم، ولا حتى سهواً، كلمة «هاي» أو «أوكي» أو «باي» واحدة، هي دوماً «سلام» و«خوب» و«خوداحافظ». يسجّل فقط اختراق «ميرسي» لأحاديثهم، يقولونها في بعض الأوقات بلكنة فارسية، إذ إنّك تلاحظ بسرعة أن فخرهم بلغتهم وثقافتهم كبير