«حرب السفارات»، هي التسمية التي أطلقها الإيرانيون على حملة إغلاق البعثات الدبلوماسية واستدعاء السفراء الأوروبيين من طهران. حرب يرونها جزءاً من جهود «الاستكبار العالمي» للحدّ من خسائره في المنطقة. خطوة جديدة في محاولة لجعل إيران تدفع ثمن الخسارة في العراق وأفغانستان. ارتقاء إلى مستوى أعلى من الضغوط لحمل الجمهورية الإسلامية على الجلوس إلى طاولة واحدة مع الولايات المتحدة للتفاوض على العراق ما بعد «سفر الخروج» وعلى ترتيبات في المنطقة تحفظ توازناً من نوع ما بين الجمهورية الإسلامية وبين عرب أميركا. حرب يراها الحكم الإيراني «استمراراً للحرب الإعلامية والنفسية التي رمت إلى شيطنة الرئيس محمود أحمدي نجاد والتصويب على الولي الفقيه ونزع المشروعية عن النظام». وتسمية تبدو مبررة؛ إذ في خلال ساعات فقط، أغلقت بريطانيا سفارتها في طهران وسحبت جميع دبلوماسييها منها إلى دبي، وأغلقت كذلك السفارة الإيرانية في لندن وأمهلت الدبلوماسيين الإيرانيين 48 ساعة لمغادرة البلاد. النروج تغلق سفارتها في العاصمة الإيرانية، وتستدعي كل من فرنسا وألمانيا وهولندا سفراءها من الجمهورية الإسلامية، حيث تتوقع السلطات أن تحذو جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي حذو المملكة المتحدة.
المعنيون في طهران يقولون إن الرؤية واضحة بالنسبة إليهم. الغرب يتعامل معهم على قاعدة ربط النزاعات في المنطقة، وهم بدورهم يردون وفق القاعدة نفسها. «يريدون انتزاع تنازلات تحت النار»، يضيف هؤلاء، مشيرين إلى أن ما يجري «مرتبط بما يحصل في سوريا وفي العراق، وحتى في لبنان»، في إشارة إلى الضغوط التي «أجبرت» الرئيس نجيب ميقاتي على تمويل المحكمة الدولية بهذه الطريقة. «الإجراءات التي اتخذت بحق البنك المركزي الإيراني والبنك المركزي السوري إعلان حرب اقتصادية، حتى لبنان لن يتمكن من النأي بنفسه عنها». «يعتمدون سياسة مزدوجة: أقصى ما يمكن من الضغوط، وأقصى ما يمكن من الجهود لجر إيران إلى الدخول في المنظومة الدولية»، توضح المصادر نفسها متوقعة أن «يزداد التصعيد الدبلوماسي في المنطقة كلما اقتربنا من يوم الانسحاب الكامل» من بلاد الرافدين.
المعلومات الواردة من العاصمة الإيرانية تتوقع أن يتحول مقر البعثة الدبلوماسية البريطانية إلى شيء شبيه بما آل إليه مقر السفارة الأميركية. تقول إن أي عاصمة تتضامن مع لندن لن تكون في منأى عن رد الفعل الإيراني. وهي لا تستبعد أن تثير الهجمة الغربية الجديدة ردوداً في أكثر من مكان «على أيدي أطراف من أصحاب ثقافة المقاومة من أصدقاء إيران وحلفائها»، مشيرة على وجه الخصوص إلى «تطورات دراماتيكية يمكن أن تحصل في المنطقة، في اليمن والبحرين والسعودية». ولا تستبعد المعلومات نفسها أيضاً كلمة للمرشد علي خامنئي اليوم يستعيد فيها تجربة مماثلة حصلت مع الإمام الخميني في أواسط ثمانينيات القرن الماضي في أعقاب فتوى سلمان رشدي. وقتها، سحبت الدول الأوروبية كلها سفراءها من طهران، فكان رد الإمام الراحل «اتركوهم. سيعودون إلينا مطأطئي الرؤوس». وهذا ما حصل، «كانت عيونهم تغرف من الأرض، بينما كانت الكاميرات تلتقط لهم صور عودتهم».
أوساط الحرس الثوري والتعبئة ومنظمات الطلبة ترى أن «إيران ليست مستفيدة من سفارات تعمل أوكاراً جاسوسية، وخاصة البريطانية والفرنسية والإيطالية والألمانية التي أدت دور المحرض على الفتنة في انتخابات الرئاسة الأخيرة، ودفعت نحو عدم الاستقرار ونزع المشروعية عن العملية الانتخابية التي تجري منذ ثلاثة عقود من دون أي مشاكل خاصة». وتتحدث عن «غليان في الشارع الإيراني»، وخاصة حيال بريطانيا التي «حضنت قوى المعارضة أثناء فتنة 2009. الأدلة دامغة والموظف المحلي الذي كان يعمل في السفارة حسين الرسام أكبر شاهد. كان يدير شبكة من نحو 50 جاسوساً إيرانياً لدينا اعترافاتهم، وقد أطلقناه في بادرة حسن نية، علّ وكر التجسس يتوقف عن ممارسة هذه المهمة. لكن عبثاً».
ولسخرية القدر، صادف يوم أول من أمس، يوم اقتحام السفارة، الذكرى السنوية الأولى لأول عملية اغتيال بحق عالم نووي إيراني يدعى مجيد شهرياري، تقول طهران إن لديها أدلة على أنها كانت عملية مشتركة لأجهزة الاستخبارات الأميركية والبريطانية والإسرائيلية.
وكان اقتحام السفارة هذا، ومعه قرار مجلس الشورى الإسلامي بخفض العلاقات الدبلوماسية مع بريطانيا إلى مستوى القائم بالأعمال، قد جاءا رداً على قرار بريطانيا بفرض عقوبات على البنك المركزي الإيراني. وتقول أوساط اقتصادية إيرانية إن هذه العقوبات يمكن أن تكون الأكثر أذية لإيران؛ لأن جزءاً من معاملات بيع النفط الإيراني يمر عبر لندن، ولأن المصرف المركزي المذكور له حسابات في عاصمة الضباب. فعل ورد فعل قسما الساحة الإيرانية إلى فريقين: الأول متشدد، توقع هجمة شاملة، مستقرئاً ما يحصل من زاوية شاملة تضم المنطقة ككل. والثاني معتدل توقع «كما عودتنا دائماً، أن تعود بريطانيا من الشباك كلما طردناها من الباب». الفريق الأخير نظر إلى العقوبات البريطانية على أنها عمل منفرد، ورأى أن أمام طهران حلين: «أن نجلس لنرى ما يريده البريطانيون، وهذا يعني أن لندن سترفع سقف مطالبها وتعود وتطلب المزيد، وأصلاً هذا ليس من شيم إيران. أو نوجه لها رسالة شديدة وهذا ما حصل». وقدّر أن «بريطانيا لن تقبل أن تكون كبش فداء للأوروبيين، كذلك فإنها ستخسر مادياً؛ إذ إن قيمة التبادل التجاري البيني تبلغ نحو 300 مليون دولار شهرياً لمصلحة المملكة المتحدة التي نستورد منها على وجه الخصوص المعدات الطبية، وهو ما يمكننا شراؤه من أي مكان آخر».
مصادر متابعة في طهران لفتت إلى أن هذه الهجمة تأتي قبل نحو شهرين على الانتخابات التشريعية المقررة في الثاني من آذار المقبل و«قد تكون ثغرة يحاول الغرب الدخول من خلالها للفصل بين الشعب والنظام السياسي عبر العمل على نزع المشروعية الدولية عن هذا الأخير».



إغلاق بعثات لا قطع علاقات

أعلن وزير الخارجية البريطاني وليام هيغ، أنّ القائم بالأعمال الإيراني في العاصمة البريطانية أُبلغ أمس «بأننا نطلب غلق سفارة إيران في لندن على الفور، وأنّ على أعضاء البعثة الدبلوماسية الإيرانية مغادرة المملكة المتحدة في غضون 48 ساعة». لكنه أوضح أن «هذا لا يعني قطعاً تاماً للعلاقات الدبلوماسية. إنه إجراء يقلص علاقتنا مع إيران إلى أدنى مستوى، مع إبقاء العلاقات الدبلوماسية».
وكانت وزارة الخارجية الإيرانية قد عبّرت، فور اقتحام السفارة، عن «أسفها للسلوك المؤسف لعدد قليل من المتظاهرين». وأعلن قائد الشرطة الإيرانية الجنرال أحمد رضا رادان، أمس، أن عدداً من المهاجمين أوقفوا أو جرى التعرف إليهم وسيسلمون إلى القضاء. واستدعت باريس وبرلين وأمستردام سفراءها في طهران «للتشاور»، فيما «أغلقت» أوسلو موقتاً سفارتها في إيران، لكنّ أياً منها لم تتخذ قراراً بإجلاء دبلوماسييها من الجمهورية الإسلامية.
كذلك أُغلقت المدارس الفرنسية والإنكليزية والألمانية في طهران حتى إشعار آخر، في إجراء «وقائي»، حسبما ذكرت مصادر دبلوماسية لوكالة «فرانس برس»، التي أفادت بأن وزراء الخارجية الأوروبيين قد يعمدون اليوم إلى تبني عقوبات إضافية على إيران عبر إدراج 143 شركة ومنظمة إيرانية جديدة على قائمة تجميد الأرصدة.
(أ ف ب، رويترز، أ ب)