حتى ظهر أمس، كانت الأجواء السياسية تفيد بتوجّه زعماء كتلة «البناء» (هادي العامري - نوري المالكي) نحو دعم مرشح «الحزب الديمقراطي الكرستاني» لرئاسة الجمهورية، رئيس ديوان «إقليم كردستان» فؤاد حسين. توجّه رفض الأمين العام لـ«عصائب أهل الحق»، قيس الخزعلي، وعدد آخر من «المستقلين»، التماهي معه، مُتمسِّكين بخيار مرشح «الاتحاد الوطني الكردستاني»، برهم صالح، للمنصب. في المقابل، ظلّت كتلة «الإصلاح والإعمار» (مقتدى الصدر - عمار الحكيم) على موقفها الداعم لنيل صالح المنصب الرئاسي الأول في البلاد. في موازاة ذلك، كان الثنائي الكردي يحاول لملمة شتاته. ثلاثة اجتماعات متواصلة ــ بدعم ورعاية إيرانيين ـــ هدفت إلى تقديم مرشح توافقي، لكنها فشلت في لحظاتها الأخيرة، بعد تدخّل أميركي فظّ، وثبات في موقف السليمانية إيماناً منها بمرشّحها الرئاسي.مصادر مطلعة تقول، في حديثها إلى «الأخبار»، إن «البناء» أمس كان أمام تحدّ قد يُضعف موقفه أمام «الإصلاح»، خصوصاً إن لم يَصُبَّ الأول كامل أصواته لصالح حسين، مُتحدّثة عن مسارين تفاوضيّين متوازيين: انتخاب رئيس الجمهورية، والتوافق على اسم رئيس الحكومة الاتحادية. في المسار التفاوضي الثاني، تمكّنت الكتل «الشيعية» خلال الساعات الماضية من التوافق على اسم عادل عبد المهدي. توافق فتح الباب على مخرج في ما يتصل برئاسة الجمهورية عماده: «منح النواب حرية اختيار الرئيس، ما لم يتمكن الأكراد من اختيار رئيسهم». وترافق ذلك مع دعوة النواب إلى التزام توجّه كتلهم مع هامش من حرية القرار للنائب في انتخاب رئيسه، على اعتبار أن سيناريو من هذا النوع من شأنه كسر مقولة «الكتلة النيابية الأكبر»، والدفع نحو تثبيت مفهوم «التوافق» في إدارة العملية السياسية في المرحلة المقبلة. كان الهدف من هذا «الحل» التأكيد أنه ما من «كتلة أكبر»، حتى لا يُحسب الإنجاز انتصاراً لمعسكر على آخر، وهو ما أشار إليه زعيم «التيار الصدري»، صباح أمس، بالقول إن «العراق أكبر من الكتلة الأكبر».
ضغطت واشنطن على صالح للانسحاب من السباق الرئاسي


أما المسار التفاوضي الأول، فقد رعته طهران. ثلاثة اجتماعات أمس في العاصمة بغداد بين وفدَي «الديموقراطي» (برئاسة نيجرفان البرزاني) و«الاتحاد» (برئاسة قوباد الطالباني). اجتماعات قضت بتأجيل جلسة الانتخاب أكثر من مرة. اقترب الجانبان من التوافق عبر عروضات وتنازلات متبادلة، لكن التدخّل الأميركي في اللحظات الأخيرة خلط الأوراق مجدّداً، ودفع الطرفين إلى التمسّك بمرشحيهما. مصادر سياسية رفيعة تؤكد لـ«الأخبار» أن وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، والمبعوث الرئاسي الأميركي في «التحالف الدولي» بريت ماكغورك، مارسا ضغوطات على صالح بهدف دفعه إلى الانسحاب، لكن الطلب الأميركي لم يَرُق ممثلي «الاتحاد»، الذين ما كان منهم إلا أن فضّوا اللقاء، وتوجّهوا إلى النزال البرلماني. أسباب عدة تسوقها قيادة «الاتحاد» للتمسك بمرشحها:
1- قناعة «الاتحاد» بأن منصب رئاسة الجمهورية حق طبيعي له، ولا يمكن «الديمقراطي» انتزاعه منه تحت حجة «الكتلة الكردية الأكبر» التي يتزعّمها الأخير.
2- قناعة «الاتحاد» بأن برهم صالح خيارٌ مقبول في الوسط العراقي شعبياً وسياسياً من جهة، وإقليمياً ودولياً من جهة أخرى، وعليه فإنه الخيار الأنسب لما بات يسمّى «الفضاء الوطني».
3- قناعة «الاتحاد» بأن مسعود برزاني في موقف حرج بعد إجرائه «استفتاء الانفصال» (أيلول 2017) وما تلاه من عواقب، إذ بات الرجل في موقف ضعيف مقارنة بموقفه الندّي السابق مع بغداد أولاً، و«الإقليم» ثانياً؛ لذا فإن أي مقايضة قد تعزّز من موقفه، وهذا ما لا يريده «الطالبانيون».
4- قناعة «الاتحاد» بأن جمهوره بحاجة إلى انتصار على «الديموقراطي»، من شأنه إعادة ترتيب «البيت الطالباني» الداخلي، وتكريس قناعة لدى شارعه بأن الحزب باقٍ رغم وفاة مؤسسه جلال طالباني، وحاضر في قلب العملية السياسية.
هذه القناعات، تقابلها قناعات أخرى لدى قادة «الديموقراطي» تفسر تمسكهم بمرشحهم فؤاد حسين، وقبولهم بالتوجه إلى النزال البرلماني:
1-موقف كتلة «البناء» الأولي الداعم لحسين، وتقدير «البرزانيين» بأن سيناريو انتخاب رئيس البرلمان محمد الحلبوسي سيتكرر، أي إن انتخاب حسين سيكون في الجولة الثانية (بمجموع نصف الحاضرين + 1)، وهو نصاب يمكن أن يؤمنه تحالف العامري ــ المالكي.
2-موقف طهران الرافض لكسر برزاني على رغم العلاقة المتوترة بين الجانبين، خصوصاً أن الدوائر المعنية في طهران التمست أخيراً محاولات «جدية» من قِبَل أربيل للاقتراب من طهران، والانتقال إلى مستوى جديد من العلاقة معها.
3-نتائج الانتخابات التشريعية في أيار/ مايو الماضي، والانتخابات المحلية في أيلول/ سبتمبر الماضي، التي أرست قناعة لدى «الديموقراطي» بأنه زعيم الشارع الكردي، ومن حقه أن يكون ممثله في «المركز»، ومكوناً أساسياً من مكونات «الكتلة الأكبر».
أمام التسلّح المتضاد بالقناعات، رسمت القوى «الشيعية» خطّتها على أساس «حرية الاختيار» (في ظلّ رهان «البناء» على أن فؤاد حسين كان سيفوز بالمنصب)، لكن مبادرة الأميركيين إلى ممارسة ضغوط على صالح للانسحاب دفعت الجميع إلى التصويت للأخير. فاز الرجل بالمنصب، وسارع إلى تكليف عادل عبد المهدي بتشكيل الحكومة الاتحادية المقبلة، ما إن أنهى تلاوة القسم. أحداث متسارعة أفضت إلى خروج «حزب الدعوة الإسلامية» من الحكم بعد 13 عاماً من الهيمنة عليه.