يَخرج قارئ «التقرير النهائي للجنة تقصي الحقائق النيابية حول الوضع في محافظة نينوى»، بعد تحريرها، بانطباعات شديدة التشاؤم وباعثة على القلق العميق من مستقبل الوضع في المحافظة، وفي عموم المناطق التي تحرّرت بتضحيات جسام. وإلى جانب ما ورد في هذا التقرير، فإن تحذيرات المرجع علي السيستاني، الأخيرة، التي تضمنتها الكلمة التي وجهها في خطبة الجمعة 14 حزيران/ يونيو الماضي، في السنوية الخامسة لإعلانه فتوى «الجهاد الكفائي»، من احتمال عودة تنظيم «داعش»، ونمو حاضناتها في المناطق التي كانت تحت سيطرتها، تأتي في السياق ذاته، ولم تتولّد من فراغ.لقد حذّر السيستاني القائمين على الحكم في العراق، وبلغة لا تخلو من الحدّة، من احتمال عودة «داعش» وبروز حواضن جديدة لها «بين الناقمين والمتذمرين»، ومن «عدم الإسراع في معالجة مشاكل المناطق المتضررة بالحرب على الإرهاب». وكرّر المرجع نقده لِما سمّاها «المحاصصة المقيتة»، من دون أن يصفها بالطائفية، وانتقد أيضاً عدداً من ممارسات النظام ورموزه وقواه النافذة، والصراع على مواقع النفوذ فيما بينها، في مرحلة ما بعد تحقيق الانتصار؛ حيث قال: «ولكن، بعد أن وضعت الحرب أوزارها وتحقق الانتصار المبين، وتمّ تطهير مختلف المناطق من دنس الإرهابيين، دبّ الخلاف من جديد في صفوف الأطراف التي تمسك بزمام الأمور، وتفاقم الصراع بين قوى تريد الحفاظ على مواقعها السابقة وقوى أخرى برزت خلال الحرب مع داعش تسعى لتكريس حضورها والحصول على مكتسبات معينة».
حذّر السيستاني من احتمال عودة «داعش» (عن الويب)

إن كلام السيستاني نقدي وحادّ فعلاً، ولكنه مكرّر ومعهود، ولهذا لن يكون له تأثير إيجابي بعد الآن، وما كان له منذ البداية أن يتخذ هذا الدور في دولة تصف نفسها بـ«المدنية»، وهي أبعد ما تكون عنها. فما حدث في السنوات الماضية، صعوداً حتى يومنا الحاضر، خطير، خصوصاً مع حكومة عادل عبد المهدي التي تجاوزت كل الحدود التي لم تجرؤ أي حكومة من حكومات ما بعد الاحتلال الأميركي على تجاوزها؛ فأهدرت الثروات والمال العام في مشاريع عبثية ومقلقة كخط «البصرة ــــ العقبة» النفطي، الذي يجعل النفط العراقي على مرمى حجر من حدود دولة العدو الصهيوني، ومشاريع التجارة والحقول المشتركة والموانئ والربط السككي مع الكويت، والحدود والمياه مع إيران والسعودية وتركيا، وعقود النفط الضخمة مع شركة «إكسون موبيل» الأميركية، وعقود الكهرباء الطائلة عديمة النفع عملياً، وفي سكوتها على استئثار حكومة أربيل المحلية بعائدات النفط المستخرج من «إقليم كردستان»، وبيعه مباشرةً من دون تقديم حتى الحصة الصغيرة المتفق عليها للدولة الاتحادية، والبالغة ربع مليون برميل، فيما بلغت عائدات النفط التي تستولي عليها السلطات الكردية، كما كتب الخبير النفطي العراقي حمزة الجواهري، «ثلاثة عشر مليار دولار سنوياً». وفي هذا السياق، ومن باب العلم بالشيء، نشير إلى تقرير نشرته صحيفة «فايننشال تايمز» في آب/ أغسطس 2015، قالت فيه إن الإقليم صدّر لإسرائيل نفطاً بلغت كمياته تسعة عشر مليون برميل، بقيمة مليار دولار خلال مئة يوم، بين بداية أيار/ مايو، و11 آب/ أغسطس 2015 فقط، أي في الفترة التي كان فيها عبد المهدي وزيراً للنفط، وقد غطّت تلك الكمية 77% من حاجة إسرائيل.
وبالعودة إلى تقرير اللجنة النيابية، التي شُكلت بموجب الأمر النيابي المرقم 130، بتاريخ 22 تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، نسجّل، أولاً، الملاحظات الشكلية الآتية قبل التطرق إلى مضمونه: يخلو التقرير من رقم أو تاريخ محدد (تاريخ إنجاز)، على رغم أنه وثيقة دولة مهمة. ومن الواضح أن عدد أعضاء اللجنة (43 عضواً) مبالغٌ فيه كثيراً، ويبدو أن واقع المحاصصة الطائفية فرض نفسه خلال تشكيلها، إضافة إلى سعي بعض النواب وراء الوجاهة وحب الظهور والشهرة والامتيازات، علماً أن عدد المسؤولين الذين حُقِّق معهم أو استُمِع إليهم يصل إلى نصف عدد أعضاء اللجنة تقريباً. أما اختيار النائب، ورئيس مجلس النواب الأسبق أسامة النجيفي، رئيساً لهذا الجمع الغفير من الأعضاء، فهو نقطة ضعف أخرى في قوام اللجنة. فالرجل يمكن اعتباره طرفاً من أطراف الملف موضوع التقصي، وبالتالي لا يمكن ضمان حياده التام. فهو شقيق المحافظ الأسبق لنينوى، أثيل النجيفي، المتهم على خلفية سقوط المحافظة في قبضة «داعش» خلال فترة إدارته، إضافة إلى أنه مطلوب للقضاء في قضايا فساد، فضلاً عن أنه خصم سياسي للمحافظ اللاحق، نوفل العاكوب، المتهم هو الآخر بملفات عديدة، وبين الرجلين مساجلات إعلامية حادة كثيرة. وأخيراً، فالنجيفي من الحلفاء والأصدقاء المعلَنين لتركيا ولحكومة أردوغان، وهذا ما جعل تقرير اللجنة الطويل العريض يقفز عن موضوع الوجود العسكري التركي، الذي هو احتلال فعلي لأراض عراقية، فشلت بغداد في إنهائه بالطرق الدبلوماسية، ولكنه لم يسكت مثلاً عن موضوع عناصر «حزب العمال الكردستاني» وأنصاره، إذ نصّت التوصية الـ 23 من تقرير اللجنة على «ترحيل عناصر (PKK) خارج الحدود الإقليمية، لأن وجودهم أصبح يهدد الأمن»، مع العلم أن معظم من يسميهم التقرير عناصر «PKK»، هم عراقيون من أهالي سنجار، باعتراف التقرير نفسه حين يقول في فقرة أخرى: «ومعهم عناصر أجانب»، أي إنه يعترف بأن معظمهم عراقيون، فكيف يطالب تقرير اللجنة التي يرأسها النجيفي بطرد العراقيين من بلادهم ويسكت عن وجود المحتلين الأتراك؟ الحقيقة، أن عجز القوات الحكومية العراقية عن تغطية منطقة سنجار عسكرياً، وخيانة قوات «بيشمركة البارزاني» لأهالي سنجار في الكارثة التي حدثت بعد انسحابها من القضاء، الذي كان في حمايتها، وفرارها من مواجهة عصابات «داعش»، الأمر الذي سمح للأخيرة بارتكاب مجازرها وفظاعاتها بحق الأهالي، كل هذا جعل الأهالي يبحثون عمَّن يحميهم من العصابات التكفيرية، وكان ينبغي لتقرير اللجنة أن يشير ويدين أيضاً وجود قوات الاحتلال التركية في المحافظة!
لن تتوقف لعبة شدّ الحبل قبل أن تتوقف معركة التصارع على ملايين الدولارات بين المسؤولين الفاسدين


على الرغم من كل ما تقدم، ومن باب الإنصاف، ينبغي القول إن تقرير اللجنة لا يخلو في بعض فقراته من وعي عميق بجذر المشاكل الراهنة والقديمة، التي عانت وتعاني منها المحافظة. ويمكن أن نجد الكثير من الإشارات القوية إلى هذا الوعي في التقرير، ومنها مثلاً هذه الخلاصة المهمة التي تسجلها اللجنة: «كان واضحاً أن الوضع الأمني مرتبط عضوياً بالفساد المالي والاقتصادي والإداري والخدمي، كما يرتبط الإرهاب بالفساد كوجهين لعملة واحدة»، أو في قولها: «تبين لدينا، من خلال قيامنا بالتقصي عن الحقائق في عموم المحافظة، وردود فعل الأهالي، وجود مؤشرات احتقان طائفي خطير سبّبته الممارسات السلبية، ما ساعد على تردي الوضع العام في المحافظة، وظهور ما يسمى بيعة جديدة لداعش الإرهابي واستنهاض عناصرها مرة أخرى... مع نفور واضح من التعاون مع الأجهزة الأمنية، ما ولّد انطباعاً لدى عموم المواطنين بأن المحركات التي أنتجت داعش بدأت تستعيد نشاطها وتنهض من جديد».
غير أن هذه الإشارات المهمة، وعوضاً عن أن تقود اللجنة إلى الطريق السليم لمعالجة الوضع السيئ الذي أنتجه حكم المحاصصة الطائفية، وجدناها تنصح بمعالجة الداء بالدواء، كما قال الشاعر: «ودوِاها بالتي كانت هي الداء». فالتقرير يريد معالجة سبب هذا التردي بمعالجة الخلل في المحاصصة الطائفية في المؤسسة الأمنية، بدلاً من اقتلاع هذا الأساس المتفجر بالأزمات. لنقرأ ما ورد ضمناً بهذا الخصوص في سياق شرح التقرير لأسباب الأزمة الراهنة: «عدم وجود توازن وطني في أعداد المنتسبين للقوات المسلحة والشرطة والأجهزة الأمنية» يجعل ضرورياً «فتح باب التطوع لأبناء نينوى. إذ إن عدد أفراد الشرطة في الجريمة المنظمة لا يتجاوز 23 شرطياً، وهذا نقص شديد يحول دون إمكانية تنفيذ الواجبات المهمة المكلفين إياها». والواقع، أن وجود 23 شرطياً فقط من أهالي المدينة في فرع مكافحة الإجرام أمر خاطئ قطعاً، ويؤكد أن التمييز الطائفي بلغ أقصى مداه، ولكن ما علاقته بموضوع التوازن الوطني؟ بل ما المقصود بهذا «التوازن الوطني»؟ أليست هذه الصيغة هي التعبير الخجول عن معادلة المحاصصة و«التوازن بين المكونات»، وهي الصيغة العزيزة على قلوب أهل النظام والواردة مرات عدة في دستور فترة الاحتلال الأميركي؟
إن وقفة التقرير في عدة مواضع عند تجاوزات أفراد ومجموعات تزعم الانتماء إلى «الحشد الشعبي» (أو العشائري) كان ينقصها التنويع والأمثلة وعدم الاكتفاء بذكر اسم قيادي واحد يدعى «أبو رقية» (تحسين الدراجي، الذي يتزعم فصيل «كتائب الإمام» التابع لـ«الحشد الشعبي»)، تكرر اسمه مرات عدة في التقرير، فهل هو الوحيد في هذا الميدان، أم أن هناك أسباباً حالت دون ذكر أسماء أخرى؟ لقد كرّر التقرير حقائق مريرة في ميدان الفساد المالي والإداري والأمني والقضائي، ولكن هذا الموضوع معروف في عموم العراق، ويبدو أن هناك مَن يتغاضى عنه لأسباب حزبية وطائفية. ومما ذكره التقرير، أن «بعض من يدّعون انتماءهم إلى الحشود لديهم مكاتب اقتصادية، ولديهم قوات كبيرة تبتز الدوائر وتسرق النفط وتهرّب البضائع والمواد، وتردنا أحياناً كتب رسمية من مكتب رئيس الوزراء ومركز العمليات لتسهيل نقل كميات كبيرة من السكراب والسكائر والأغنام». لكن التقرير لم يوضح حيثية هذه «الكتب الرسمية من مكتب رئيس الوزراء ومركز العمليات»، ولم يوصِ في شأنها بأي توصية فمرت مروراً عابراً.

إحدى أزقّة «المدينة القديمة»، المدمرة بالكامل نتيجة العمليات العسكرية (أحمد الربيعي ــ الأخبار)

كذلك، قفزت اللجنة أحياناً عن المشكلة الحقيقية، فذكرت جزءاً صغيراً من تداعياتها، خصوصاً عند مقاربتها لتجاوزات سلطات «الإقليم» و«البيشمركة». فقد ذكر تقريرها ضمن تجاوزات تلك القوات ما يأتي: «امتناع قوات الإقليم عن السماح بعودة بعض سكان القرى العربية في منطقة ربيعة كالمحمودية وصفية والقاهرة ودرية، وكذلك قرى منطقة الخازر، ومنها الفاطمية وشريكان وتركماز وتل أسود كبير وتل أسود صغير وحسن شامي وغيرها، وفي منطقة الشيخان وقرى دوشيفان». لنلاحظ لغة التقرير الناعمة حين يتطرق لذكر «البيشمركة» فيقول: «امتناعها عن السماح»، ولا يقول الكلمة المناسبة: «رفضها عودة السكان»، وكان الأحرى باللجنة أن تفتح هذا الملف الخطير، وتسلط الضوء على حيثياته منذ البداية، لأن المشكلة لم تبدأ مع «عدم سماح قوات الإقليم لسكان القرى العربية بالعودة إلى قراهم»، بل بدأت مع تشريد هؤلاء السكان من قراهم، فلماذا لم تفعل ذلك؟ ألا يستحق هذا الملف الذي يحتوي على حقائق عن أحداث قاسية بلغت درجة إزالة قرى عربية بكاملها من الوجود، ولا يزال سكانها يعيشون في مخيمات النازحين، بل إن بعضهم لا يزال يعيش في سوريا ولم يُسمح له بالعودة إلى دياره، أن يُفتح؟
ثمة مواضيع وعناوين أخرى كثيرة تتصف بالأهمية والخطورة لم يتوقف عندها التقرير، أو توقف عندها وقوفاً عابراً وسريعاً ومن باب تسجيل الحضور، ومن ذلك:
- المئات من طلبات عوائل المفقودين في الحرب بحثاً عن ذويهم المفقودين.
- انتشار المخدرات والمتاجرة غير الشرعية بكل شيء في تلك المناطق.
- تجاوزات الأجهزة الأمنية والقضائية ضد أهالي المحافظة.
وكم كان حريّاً باللجنة أن تعطي هذه الملفات شيئاً من وقتها الثمين، الذي بددت الكثير منه على معمعة المتاجرة بالخردة والسكراب الحديدي الذي خلّفته العمليات العسكرية، وبلغ الصراع بين أطراف الفساد أشده على ملايين الدولارات المتأتية من المتاجرة به مع دول الجوار، وانعكس ذلك واضحاً في التقرير. أما النتائج، فلم تتعدّ إعفاء محافظ الموصل السابق من منصبه، وإحالة بعض مساعديه الإداريين على القضاء، في ما يبدو تحصيلَ حاصلٍ. ولا ندري إن كان قرار إعفاء قائد عمليات نينوى اللواء نجم الجبوري، الذي يحمل الجنسية الأميركية وقد استُدعي من محل إقامته في ولاية فرجينيا قبل بدء عمليات تحرير نينوى بفترة قصيرة، ذا علاقة بهذا التقرير، أو أنه يتعلق بإحالة طبيعية على التقاعد المستحَق.
أخيراً، من الواضح أن لعبة شدّ الحبل بين أصدقاء السفارة الأميركية في بغداد، والمدافعين عن «الحشد الشعبي» الذين يتهمون نجم الجبوري بتنفيذ مخططات أميركية معادية، لا تزال مستمرة تحت الطاولة وفوقها أحياناً، ولن تتوقف قبل أن تتوقف معركة التصارع على ملايين الدولارات من سكراب الحديد بين المسؤولين الفاسدين وغيرها. أما أهالي محافظة نينوى في مخيمات النازحين والمدن المدمرة، فسيظلون يرنون بحزن وأسى إلى أنقاض مدينتهم زمناً طويلاً قبل أن تبدأ عملية إعادة إعمار حقيقية!
*كاتب عراقي