توازياً مع تهديدها بإغلاق السفارة الأميركية في بغداد، في ظلّ الاستهداف شبه اليومي لمصالح واشنطن، لا يغيب تميّز إدارة الرئيس دونالد ترامب بنهجها المتقلّب إزاء الانتشار المفرط لعسكريّيها ودبلوماسيّيها، إن كان في العراق أو حتى في أفغانستان وسوريا وغيرها من الدول. إلّا أن التهديد الأخير، والذي يجيء في أعقاب قرار هذه الإدارة خفض عديد القوّات الأميركية في العراق إلى نحو ثلاثة آلاف جندي، يمثّل الوسيلة الأحدث للضغط على حكومة مصطفى الكاظمي، لكبح «الفصائل المدعومة من إيران».في الوقت ذاته، وبينما توعّدت الإدارة الأميركية بإجراءات عقابية وصلت إلى حدّ وقف المساعدات المالية عن العراق، كان وزير الدفاع الأميركي، مارك إسبر، يجري مراجعةً لأولويات بلاده المنتشرة قواتها في أصقاع الأرض، للتأكّد من أن لديها العدد الكافي من الأفراد والموارد لتلبية أولويات «استراتيجية الدفاع الوطني» لعام 2018. انطلاقاً من هنا، لا يمكن الموازنة بين مطالب ترامب التي يبدو أنها مدفوعة بالكامل بالحسابات الانتخابية، وبين مراجعة إسبر، في حين أن كليهما يسلّط الضوء، وفق ما يرى مراقبون، على «تحدّيات» الحدّ من مهمّة «مكافحة الإرهاب». «استراتيجية الدفاع الوطني» كانت واضحة: «المنافسة الاستراتيجية بين الدول، وليس الإرهاب، تمثّل - الآن - أولوية الأمن القومي للولايات المتحدة». مع ذلك، لن تختفي مهمّة «مكافحة الإرهاب»، نظراً إلى ما توفّره من وسائل للقيام بعمل سريع ضدّ الأفراد والشبكات المتورّطة في «التخطيط أو محاولة التحريض على الهجمات ضدّ الأميركيين»، في حين لا يزال «البنتاغون» يعمل على كيفية إعادة التوازن إلى مهمّته لـ»مكافحة الإرهاب» بما يتماشى مع الأولويات الجديدة. إلا أن وزير الدفاع ألقى باللوم، أخيراً، على التركيز على مكافحة الإرهاب، في ترك الجيش أقلّ استعداداً لخوض حروب مستقبلية.
أبلغ تولر وزير الخارجية العراقي أن واشنطن وبغداد دخلتا حقبة جديدة في علاقاتهما


على أن التهديد بإغلاق السفارة لا يعدو كونه، حالياً، وسيلة ضغط، يراد منها وضع الحكومة العراقية أمام خيارات صعبة، في ظلّ اشتغال إدارة ترامب على توسيع قاعدة «نادي المطبّعين» مع إسرائيل. وفي تفاصيل ما أوردته «الأخبار» (راجع العدد 4156)، نقل الرئيس العراقي برهم صالح، عن وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، تحذيره من أن ترامب «يدرس جدّياً قرار إغلاق السفارة في بغداد، وهو جاهزٌ لتنفيذ ذلك»، وبأن قراراً مماثلاً من شأنه أن يطلق «عمليات تصفية ضدّ كل متورّط في استهداف قواتنا». في الإطار نفسه، يفيد مسؤولون تحدّثوا إلى «وول ستريت جورنال»، بأن السفير الأميركي لدى العراق، ماثيو تولر، أبلغ وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين، بأن البلدين دخلا، بالفعل، حقبة جديدة في علاقاتهما. إلا أن تولر أكّد بعد لقائه مستشار الأمن الوطني العراقي، قاسم الأعرجي، في بغداد، يوم أمس، استمرار دعم بلاده للعراق «في مجالات الأمن ومكافحة الإرهاب والمساعدة في تخطّي التحدّيات الراهنة»، وذلك في أوّل تصريح له بعد الحديث عن نيّة الولايات المتحدة إغلاق سفارتها في بغداد في غضون أشهر قليلة، ونقل السفير إلى قنصليتها في أربيل. ولفت مسؤول عراقي تحدّث إلى الصحيفة ذاتها إلى أن الإغلاق سيكون «تدريجياً على مدى شهرين إلى ثلاثة أشهر»، مضيفاً أن ذلك قد يترافق مع انسحاب القوات الأميركية من البلاد. القرار الذي يبدو مؤجلاً إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية، عَدَّه مسؤول أميركي سابق بمثابة هدية للإيرانيين: «هذا هو هدفهم الاستراتيجي الرئيس: إخراجنا من العراق».
التحذيرات المتواترة، التي لم تؤكّدها الإدارة أو تنفيها، اقترنت أيضاً بسياسة أميركية صارمة إزاء الإعفاءات من العقوبات التي أصدرتها حتّى يتمكّن العراق من استيراد مستلزمات الطاقة من إيران. وبعدما كانت الولايات المتحدة تصدر مثل هذه الإعفاءات كلّ 120 يوماً، أبلغت إدارة ترامب، بغداد، أن قرار تمديدها سيُتّخذ كلّ 60 يوماً. يضاف إلى ما سبق، تلويح واشنطن، على لسان ناطقة باسم الخارجية الأميركية تحدّثت إلى «واشنطن بوست»، بأن استمرار الهجمات يمكن أن يؤثّر على الدعم المالي الدولي للعراق، إذ لفتت إلى أن «وجود ميليشيات خارجة عن القانون ومدعومة من إيران، في الوقت الذي تحاول فيه الولايات المتحدة تأمين الدعم المالي للعراق من المجتمع الدولي والقطاع الخاص، يظلّ أكبر رادع أمام الاستثمار الإضافي في العراق».
وإذ يرجّح تقييم استخباري أميركي أن لا تُقدِم إيران على أيّ «هجوم استفزازي» من شأنه أن يحشد الدعم الأميركي لترامب عشية الانتخابات، يبدو أن صبر البيت الأبيض بدأ ينفد من عدم قدرة الحكومة العراقية على منع الهجمات التي تحمّل واشنطن مسؤوليتها لحلفاء إيران. وبعد التحذيرات، توجّه وزير الخارجية العراقي إلى طهران، في مهمّة قال مسؤولون أميركيون سابقون إنها تهدف، على ما يبدو، إلى إقناع الإيرانيين بـ»كبح الميليشيات». كما تأتي خطوة التلويح بإغلاق السفارة بعد أسابيع من زيارة الكاظمي للولايات المتحدة، والتي وصفها الجانبان بأنها «فصل جديد» في العلاقة التي توتّرت في أعقاب اغتيال الشهيدَين قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس.



طهران وتوزيع الأدوار
عقب كلّ عملية من العمليات «الغامضة» في العراق، تُفعّل، سريعاً، قنوات الاتصال بين بغداد وطهران، ليأتي الردّ الرسمي بـ»رفض» ما يجري و»ضرورة احتوائه». ردٌّ تنقسم التقديرات العراقية في شأنه بين رأيين: الأول يذهب إلى أن إيران تمارس لعبة «توزيع الأدوار»، في سياق ردّها المستمر على اغتيال قائد»قوة القدس» في الحرس الثوري الجنرال قاسم سليماني؛ وآخر يدور حول «عجز» طهران عن «ضبط» حلفائها العراقيين، ودفعهم إلى إرساء تهدئة، ولو مؤقتة، في الميدان، في ظلّ تكاثر التحدّيات التي تفرض إرساء نوع من «الستاتيكو». على أن ما يُضعّف الرأي الأخير هو ما جرى خلال زيارة قائد «قوة القدس» الإيرانية، إسماعيل قاآني، إلى بغداد، حيث طالبه رئيس الجمهورية، برهم صالح، بضرورة «وقف العمليات العسكرية»، ليردّ قاآني بأن ذلك مرهون بجدولة انسحاب قوات الاحتلال الأميركي من البلاد.