بغداد | لا مكان للعيش تحت الشمس في العراق، بل أمكنة كثيرة للموت. حادثة واحدة لوفاة عامل بـ«اليومية» بسبب الإعياء من الحرّ أثناء انتظار مَن يطلب خدماته مقابل ما يسدّ الرمق، تختصر حكاية بلد غني أعطى فيه الفاسدون أمثولةً في تحويل شعبه إلى واحد من أكثر الشعوب فقراً. قد لا يعكس الحقيقةَ كاملة، تحميلُ وِزر الفقر والجهل والأمراض للحكومات التي تعاقبت على السلطة منذ ما بعد الاحتلال الأميركي، وحدها، سواء تلك التي جاءت على ظهر دبّابة الاحتلال أو التي انتُخبت في ظلّه، أو بعد رحيله، ثمّ عودته، فالبلد كان قد نزف كثيراً قبل الاحتلال، نتيجة الحروب والمغامرات المكلفة والفساد، تحت نير صدام حسين، حتى أضحى في غاية الوهن. لكن ما هو غير مفهوم هو تفاقم هذه الظواهر في السنوات الأخيرة، وإساءة السلطات المنتخَبة إدارة الثروة بمثل ما أساء إليها «الديكتاتور» أو أكثر، بحيث امتدّت «الجلجلة» العراقية إلى هذا الحدّ.الصورة التي يعكسها العارفون بساسة العراق، هي أن الفساد يتجاوز كلّ حدود. يجري الحديث عن نهب أموال طائلة في بلد يُنتج كلّ طلوع صبح، 4.5 مليون برميل نفط، وفق إحصاءات الحكومة للعام 2020، ما يعني عشرات مليارات الدولارات سنوياً. في المقابل، تعيش عائلات كثيرة على بضعة دولارات في اليوم. يقول أحد عمّال اليوميات، المُكنّى بـ«أبو محمد»، إن يوميّته لا تزيد عن ثمانية آلاف دينار (خمسة دولارات) لا تكفي لشراء الطعام والدواء معاً، أو توفير احتياجات أولاده من مأكل وملبس وإيجار منزل. أمّا «أم إبراهيم»، فهي أمّ لخمسة أيتام، 3 منهم معوّقون، تعمل في جمع العلب المعدنية لأحد المعامل مقابل ألف دينار للكيلوغرام الواحد، وهي المُعيل الوحيد للعائلة ولا تتقاضى راتب رعاية من وزارة العمل، على رغم أنها تستحقّ راتب المعيل كونها أرملة، إلّا أن الفساد في الوزارة أبقاها خارج جدول الرواتب. من جهته، يعمل محمد جاسم حمّالاً في منطقة الشورجة منذ 5 سنوات، على رغم أنه متعلّم ومثقّف ويتقن الخط العربي كهواية، مِثله مِثل الكثيرين الذين يعملون حمّالين وهم يحملون شهادات في الهندسة والقانون وغيرهما، إلّا أنهم ليسوا من المحظيّين لكي يحصلوا على وظائف حكومية. يبدي محمد امتعاضه الشديد من حكومة لا تفي بوعود، وكلام لا يتحقّق على أرض الواقع. ويقول: «فقدْت ثقتي بالحكومة الحالية كما سابقاتها، ولا أظنّ أنه ستأتي حكومة تُغيّر الواقع، جميعهم لصوص ويتقاسمون الحصص على حساب المواطن العراقي الفقير».
يرى الخبير القانوني العراقي، طارق حرب، أن «الفساد في العراق إنّما هو مقصود وبفعل فاعل، لخلق الفوضى وإشغال الشعب عن القضايا المصيرية، خاصة أنه يتقاطع مع أطماع القوى العالمية في البلد، لما يمتلكه من ثروات». ويعتبر حرب، في حديث إلى «الأخبار»، أن «الحكومة العراقية ببساطة ليست جادّة لا في محاربة الفساد، ولا في مكافحة الفقر، وسط ضعف يعتري البنى الأمنية والسياسية والقانونية للبلد، فضلاً عن عدم وجود إحصائيات وبيانات دقيقة تشرح ظاهرة الفقر أو تُظهر مداها وأسبابها». وفي هذا الإطار، ينحصر المتوافر في إحصاءات لـ«مجلس الخبراء العراقي»، وهو تجمّع للخبراء العراقيين المستقلّين، تشير إلى أن نسبة العاطلين عن العمل في العراق تجاوزت 40 في المئة، وأن معدّل مديونية المواطن يزيد عن 4000 دولار بسبب سوء الإدارة المالية، وأن مقدار اعتمادية البلد على بيع النفط أكثر من 90 في المئة، والصادرات العراقية غير النفطية مع أيّ دولة من دول الجوار لا تزيد عن 4 في المئة من حجم التبادل التجاري.
الاعتماد المفرط في الدخل على عائدات النفط يعني، ببساطة، وهناً كبيراً للاقتصاد غير النفطي، وهذا يفسّر الأرقام العالية للبطالة. في دول الجوار الغنية، يجري حلّ هذه المشكلة بالحشو في الوظائف وإقامة أنظمة رفاه اجتماعي سخية. أمّا في العراق، فينهب الفاسدون المال ولا يتركون للناس شيئاً. ويعتقد حرب أن «كلّ الأحزاب السياسية تستغلّ إمّا جهل الناس أو فقرهم، بل تسعى إلى تجهيلهم وإفقارهم، لأنه كلّما زاد الجهل والفقر أصبح انقياد الناس لها أسهل». بدوره، يلفت الباحث الاجتماعي، ثائر السويدي، في حديث إلى «الأخبار»، إلى أن «العراق يعاني من الثُلاثي المدنّس: الفقر والجهل والمرض، منذ فترة طويلة، لكن الفقر تختلف نسبته بين فترة وأخرى تبعاً للظروف»، ملاحِظاً أن «الفقر تفاقم في السنوات الأخيرة، كما تفاقم الجهل والعزوف عن المدارس وبدائية القطاع الصحي لمكافحة الأمراض». ويشير إلى أن «العراق غني بثرواته النفطية وغير النفطية، لكن هذه الثروات تدخل إلى جيوب فئة من الفاسدين، بدلاً من توزيع الثروة كما هو موجود في دول العالم»، مضيفاً أن «الدستور العراقي كفل العيش الكريم للمواطن العراقي وأسرته، لكن النص الدستوري والقانوني شيء والواقع شيء آخر، حيث أن التطبيق يختلف عمّا هو موجود في التشريعات».
ويعزو السويدي الفشل في مكافحة الفقر إلى «الفشل في توزيع الثروات التي تستأثر بها قلّة من الفاسدين، فيما يجري استغلال الفقراء على نطاق واسع، وخاصة من الكتل السياسية، ما دام طريق الوصول إلى الراتب الشهري يمرّ عن طريق هذه الأحزاب، إذ إن تبعية الشخص لها تفتح له باب الوظيفة والخلاص من الفقر». وتصل نسبة الفساد في التعيينات إلى 92 في المئة، وفي المعاملات الرسمية المتعلّقة بالجمارك والضريبة والعقارات إلى 97 في المئة. ويعيش على خطّ الفقر 40 في المئة من العراقيين، نصفهم يقبعون تحته. أمّا الطبقة الوسطى فهي غالباً طبقة الموظّفين المنتفعين من الفساد في التوظيفات الحكومية، فيما نسبة الأغنياء لا تتعدّى 10 في المئة، وذلك بحسب إحصاءات «مجلس الخبراء». لكن الخلل البنيوي الكبير الذي يعكس الآثار العميقة لسوء إدارة الثروة هو نسبة الأمية التي تصل إلى أكثر من 38 في المئة، وارتفاع نسبة التسرّب من المدارس والجامعات والمعاهد إلى أكثر من 32 في المئة، وبلوغ معدّل انتشار المخدّرات بين الشباب 9 في المئة، وزيادة انتشار الجريمة بمعدّل 16 في المئة.