بغداد | لم تكن مسارعة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إلى رعاية «قمّة بغداد» الإقليمية الأخيرة والمشاركة فيها شخصياً، عبثاً (القمّة من الأساس مشروع فرنسي، طرحها ماكرون مع الرئيس العراقي برهم صالح في باريس عام 2019، لكنّ رئيس الوزراء آنذاك، عادل عبد المهدي، لم يمضِ فيها وفضّل العمل مع الصين، قبل أن يعيد الفرنسيون إحياءها مع مصطفى الكاظمي). فالرجل يحاول الاستفادة من الفراغ الذي سيتركه الانسحاب العسكري الأميركي من العراق بحلول نهاية العام الجاري، ولو لم يستطع ملأه كلّياً. الأهمّ من ذلك أنه يحظى، على ما يبدو، بقبول إيراني لهذا الدور، ما دامت فرنسا أظهرت في مناسبات مختلفة، بدءاً من الاحتلال الأميركي في عام 2003، تمايزها عن الأميركيين، حين كانت الدولة الغربية الوحيدة التي عارضت الغزو ورفضت المشاركة فيه. ويعتقد ماكرون أن العراق أصبح بعد عقود من الاضطراب والوهن، جاهزاً لاستقبال الفرنسيين، ومنحهم قاعدة لمدّ الجسور السياسية والاقتصادية مع دول المنطقة. وفي هذا السياق، جاء توقيع العقود النفطية البالغة قيمتها 27 مليار دولار بين الحكومة العراقية وشركة «توتال» الفرنسية، والتي تُعتبر مكسباً للفرنسيين في سعيهم إلى إيجاد مواطئ أقدام لهم في الشرق الأوسط. هم حاولوا ذلك في ليبيا، ولا يزالون يحاولون باستمرار في لبنان، إنّما النتائج كانت متفاوتة، لكون هذه المحاولات الفرنسية تصطدم بمحاولات دول أخرى تسعى إلى تثبيت نفوذها السياسي والاقتصادي في الشرق الأوسط، مِن مِثل روسيا والصين وتركيا. وفضلاً عن السياقات السياسية الأكيدة لمسألة النفط، فإن هذا الملفّ في العراق بالذات يكتسي أبعاداً سياسية مضاعفة. فهو الباب الأوسع للفساد المستشري، والذي تغلغل وتوسّع كثيراً في سنوات الاحتلال. وهو أيضاً مدار صراع سياسي بين القوى العراقية، ولكنه في المقابل يمكن أن يرتدّ عليها، كما حصل في الأزمات التي شهدها البلد في مجال الكهرباء خاصة، وجعل الكثير من القوى السياسية في موقع المتّهم. وبالإضافة إلى ذلك كلّه، يعاني هذا القطاع من شحّ مزمن في الاستثمارات ناجم أساساً عن تدخّلات خارجية (العقوبات أيام صدام حسين مثلاً)، وهو ما ولّد تعطّشاً كبيراً إلى استثمارات من النوع الذي دخلت فيه «توتال». وفي هذا الإطار، يقول رئيس «المجلس الوطني لتحسين الجودة والطاقة» في وزارة النفط، علي البكري، في حديث إلى «الأخبار»، إنه «مع هذه العقود قلباً وقالباً، شرط أن لا تشمل أيّ اتفاقيات جانبية أو خَفيّة تحت الطاولة»، مشيراً إلى أنها «ستساهم في حلّ مشكلة كبيرة تواجه الشبكة الكهربائية العراقية، وبالذات في قطاع التوليد من خلال توفير الوقود الغازي لمحطّات التوليد الغازية، ونصب وتشغيل محطّة توليد بالطاقة الشمسية تعادل ضعف توليد محطّة الدورة الحرارية بقوة نحو ألف ميغاواط». وسيؤدي التقدّم في الطاقة المتجدّدة والشمسية، حتماً، إلى هبوط أسعار النفط إلى نحو ثلث السعر الحالي خلال العقود المقبلة، وفق توقّعات الخبراء، إلى حدّ أنه يمكن أن يصبح سعر النفط معادلاً لسعر ماء الشرب، وهو ما يفرض على الدول التي لديها ثروات من الوقود الأحفوري الاستثمار في مثل هذه القطاعات.
يحاول ماكرون الاستفادة من الفراغ الذي سيتركه الانسحاب العسكري الأميركي في نهاية العام الجاري


ويوضح البكري أن العقود الفرنسية تُعدّ أكبر استثمارات لشركة أجنبية في العراق، بعد مفاوضات استمرّت أكثر من 9 أشهر متتالية، مضيفاً أنها «تشكّل مجاميع متكاملة لإنتاج النفط والغاز والطاقة المتجدّدة، واستخدام ماء البحر لزيادة الطاقة الإنتاجية لحقول النفط الخام جنوبي البلاد»، مشدداً على أن «التحدّي الكبير هو في كيفية تنفيذ تلك العقود لخلق تنمية مستدامة». وعن المفاوضات مع «توتال»، يلفت إلى أن «الشركة كانت مرنة لتحقيق مستويات إنتاج مجزية للعراق، وأنها ستبدأ بجدّية باستثمار مبدئي قيمته 10 مليارات دولار في نهاية العام الجاري»، مضيفاً أنه «لأوّل مرّة، لم تطلب الشركة المتعاقَد معها ضمانات سيادية، وهذا غريب في عالم الصفقات بين الشركات الكبرى والدول». ويشير إلى أن «المسؤولين أنفسهم يقولون إن كلّ العقود التي أُبرمت سابقاً والتي ستُبرم في الأيام المقبلة تخضع للمحاصصة، ويذهب 20 في المئة من قيمتها إلى الطبقة السياسية التي تتربّع في السلطة، من خلال اللجان الاقتصادية الموجودة لدى هذا التكتّل أو هذا الحزب أو ذاك»، متابعاً أن «الشعب لا يعلم لماذا كانت مثل هذه الحلول غائبة، وبالذات مشاريع الطاقة الشمسية، ولماذا تنبّهت حكومة الكاظمي بعد تلك السنوات الطوال إلى أننا نحتاج إلى توظيف الطاقة الشمسية لكي نحصل على الكهرباء؟ علماً أن 80 مليار دولار صُرفت على الكهرباء، ثمّ فوجئنا بوزير المالية يصرح بأن الدولة صرفت 120 ملياراً على قطاع الكهرباء. ومع ذلك ما زالت الكهرباء تنقطع ساعات طوالاً خلال اليوم». وإذ يستغرب البكري أن تأتي هذه الخطوات «في وقت يُفترض فيه أن دور الحكومة هو تصريف الأعمال حتى تشكيل الحكومة الجديدة بعد الانتخابات»، فهو يعتقد أن ذلك «ربّما يؤشّر إلى أن لدى رئيس الحكومة وعوداً قطعية باستمراره حتى بعد الانتخابات، وهو ما ستكشفه الأيام المقبلة».
أمّا عن تفاصيل العقود، فيبيّن المسؤول السابق في وزارة النفط، منتصر الإمارة، في حديث إلى «الأخبار»، أنه تمّ التوقيع بالأحرف الأولى على ثلاثة مشاريع استثمارية بين وزارة النفط وشركة «توتال»، وعقد استثماري رابع بين وزارة الكهرباء والشركة الفرنسية. والمشروع الأول هو تطوير حقل أرطاوي النفطي بما يرفع الإنتاج فيه من 85 ألف برميل إلى 210 آلاف برميل يومياً، باستخدام تكنولوجيا حديثة يتمّ تدريب الملاكات العراقية عليها. أمّا المشروع الثاني، فهو إنشاء مجمع غاز أرطاوي بسعة 600 مليون قدم مكعب قياسي لاستثمار الغاز المصاحب المحروق من حقول النفط، والذي سيساهم في إنتاج 12 ألف برميل من المكثّفات يومياً، وثلاثة آلاف طن يومياً من الغاز المسال، يتمّ ضخّه في السوق المحلية، في حين أن المشروع الثالث هو استخدام مياه البحر في عملية حقن الماء الضرورية لاستخراج النفط، وبطاقة يومية قدرها خمسة ملايين برميل ماء يومياً، وبطاقة تصميمية قدرها 7.5 ملايين برميل يومياً. والمشروع الرابع هو عقد مع وزارة الكهرباء لتوليد طاقة كهربائية نظيفة تعتمد على الطاقة الشمسية بكلفة أقلّ من نصف الكلفة المعروفة عند إنتاج الطاقة من المحطّات الحالية.