مضامين كثيرة حملتها زيارة الساعات القليلة التي قام بها قائد «قوّة القدس» في الحرس الثوري الإيراني الجنرال إسماعيل قاآني، إلى العراق، غداة محاولة اغتيال رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، بهجوم بالطائرات المُسيّرة، على ما أُعلن. ولعلّ أوّل تلك الرسائل وأبرزها تأكيد الدور الإيراني في إعادة التوازن إلى الساحة العراقية، عند المفاصل التي يهدّد فيها الإخلال بهذا التوازن، بأخذ البلد إلى منزلقات أمنية خطيرة، يمكن معرفة أين تبدأ، لكن أحداً لا يعرف أين تنتهي. وفي ضوء الطابع الخاص للعلاقة بين البلدين، لا يمكن لطهران أن تقف موقف المتفرّج على الوصول إلى مثل هذه السيناريوات
بخلاف سلفه الشهيد الحاج قاسم سليماني، ليست لقائد «قوّة القدس» في الحرس الثوري الإيراني الجنرال إسماعيل قاآني، زيارات معلَنة كثيرة إلى العراق. ولذلك، تحمل زيارته الأخيرة، ولقاؤه رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، الناجي للتوّ من محاولة اغتيال بالطائرات المسيّرة، وفق إعلان السلطات العراقية، مضامين كثيرة أهمّها تمييز إيران علاقتها بالعراق عن علاقات الدول الأخرى بهذا البلد، خصوصاً أن أواصر طهران - بغداد باتت قضية أساسية قيد النزاع بين القوى السياسية العراقية، ولاسيما في ضوء نتائج الانتخابات، وما تلاها من محاولة القوى الفائزة تصوير التصويت على أنه تَغيّر في المزاج الشعبي في شأن تلك الأواصر.
وفي ظلّ اتّجاه الوضع إلى تصعيد كبير بعد محاولة الاغتيال، وما سبقها من إطلاق الرصاص على المتظاهرين المعترضين على نتائج الانتخابات وقتل وجرح عدد منهم، تبدو إيران الدولة الوحيدة القادرة على التدخّل لإعادة ضبط العلاقة بين القوى السياسية العراقية المتنازعة، لاسيما أنها تقيم علاقة جيّدة مع مختلف الأطراف، بِمَن فيهم الكاظمي الذي ما كان يمكن أن يصبح رئيساً للوزراء لولا مباركتها في المقام الأوّل؛ وأيضاً «التيار الصدري» الذي، وإن كان يملك وجهة نظر مختلفة لطريقة إدارة العراق وحتى لعلاقة القوى السياسية المتحالفة مع طهران بها، إلّا أنه يدرك جيّداً المصالح الحيوية التي تربط البلدين، وخاصة الأمنية منها، حيث لا يجب أن يتوقّع أحد أن لا تكون إيران مهتمّة بما يحدث في العراق من تطوّرات أمنية، ولاسيما في ضوء عودة تنظيم «داعش» إلى النشاط في محافظة ديالى المتاخمة للحدود الإيرانية، والتي عبرها يتمّ نقل معظم الكهرباء المُصدَّرة من إيران إلى العراق، بما يمثّل نسبة معتبرة من استهلاك البلاد للكهرباء. على أيّ حال، الذي فتح العراق أمام إمكانيات التصعيد، هو الدخول الخارجي، الأميركي - الخليجي تحديداً، على الخطّ، لتقديم ما يجري في هذا البلد على أنه انقلاب في الميزان لغير مصلحة إيران، وهو ما لم تكن الأخيرة معنيّة بالردّ عليه، ما دامت اللعبة ما زالت محصورة بالوسائل السياسية، بما في ذلك النزول إلى الشارع، إلّا أن الأحداث الأمنية الخطيرة، ومنها محاولة اغتيال الكاظمي، وضعت العراق على طريق سريعة نحو انفلات الوضع كلياً، خاصة لو كانت نجحت محاولة الاغتيال.
لإيران مصلحة مؤكّدة في وضع هادئ في العراق، لا يتحقّق إلّا بحد معيّن من التوافق داخل «الصفّ الشيعي»


لإيران مصلحة مؤكّدة في وضع هادئ في العراق، وهذا لا يتحقّق إلّا إذا كان هناك حدّ معيّن من التوافق داخل «الصفّ الشيعي»، يمهّد لتوافق وطني أوسع. وقد تكون القوى العراقية من طرفَي الطيف السياسي ذهبت بعيداً في طريقٍ نهايتُها صدام محتوم، وخاصة داخل «البيت الشيعي»، وصارت بحاجة إلى وسيط يقرّب بينها. وحتى إذا لم يكن الكاظمي طرفاً يملك صفة الديمومة، لكونه لا يملك حزباً خاصاً، إلّا أنه يبقى جزءاً من هذا البيت، حيث نجح في حفر موقع لنفسه بالاستناد إلى الموازنة بين القوى السياسية. ولذلك، فإنه في موقع يتيح له المساهمة، إذا أراد، في إعادة ضبط الوضع على الساحة «الشيعية»، ومن ثمّ العراقية الأوسع. فالعراق يمرّ بحال من الانفلات، الذي لربّما ساهم في الوصول إليه التسرّع في القرارات من قِبَل أطراف مختلفة، ومن ضمنها بعض القوى الصديقة لإيران. ولذا، يريد قاآني إعادة ضبط الأمر، وتجنّب دخول القوى الصديقة لطهران في صراع مع الحكومة، على قاعدة أن يحافظ هؤلاء على مكتسباتهم التي حقّقوها في السنوات الأخيرة، حتى وإن خسروا في الانتخابات. وتبعاً لذلك، تندرج الزيارة في إطار التهدئة وليس التصعيد، كما حاولت جهات خارجية الإيحاء عبر وسائل إعلامها.
أمّا تباعُد زيارات قاآني إلى العراق، فلا يمكن قراءته على أنه مؤشّر إلى تراجع النفوذ الإيراني، بقدر ما هو إعادة جدولة للحضور الإيراني مع البلد الجار، يفرضها تغيّر الظروف. فخلال قيادة الشهيد سليماني لـ«قوّة القدس»، كان «داعش» في عزّ نشاطه، وكان طلب التدخّل يأتي من كلّ الأطراف العراقية، ومن ضمن ذلك الاستنجاد الشهير بطهران من قِبَل رئيس «إقليم كردستان» في حينه مسعود بارزاني، وأيضاً طلب غالبية «السُنَّة» الذين عانوا الأمرَّين تحت حُكم التنظيم، فضلاً عن الإجماع «الشيعي» على هذا التدخّل الذي تجسّد بالعلاقة الوثيقة حتى الاستشهاد بين سليماني وأبو مهدي المهندس، حيث كان الرجلان يشاركان شخصياً في المعارك الأساسية على الجبهات. لكن الوضع اختلف كلّياً بعد هزيمة «داعش»، ولم يَعُد يتطلّب حضوراً مباشراً ومستمرّاً من قِبَل قائد «قوّة القدس».
ستساهم زيارة قاآني ولقاءاته العراقية في إعادة تظهير الصورة الحقيقية للوضع في العراق، بمعزل عن نتيجة انتخابات واحدة عليها اعتراضات كثيرة، ولن يكون ممكناً من خلالها إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، لا لإبقاء الاحتلال الذي سيغادر في غضون أقلّ من شهرين، ولا لإحداث صراع «شيعي - شيعي» قد يمزّق البلد، ولا طبعاً لإعادة دوّامة الدماء التي انزلق إليها العراق خلال فترة صعود التنظيمات الإرهابية التي واكبت الاحتلال منذ مجيئه في عام 2003.