لم تَصدر عن إسرائيل على المستوى الرسمي مواقف أو تعليقات بخصوص الهجوم الصاروخي الإيراني على مدينة أربيل العراقية، مع ما للصمت من دلالات. وكما نُقل أمس عن كبار الجنرالات الإسرائيليين، «ليس من الصواب التطرّق كثيراً إلى موضوع الهدف في أربيل حيث هاجم الإيرانيون»، وفقاً لعضو لجنة الخارجية والأمن سابقاً في «الكنيست»، القائد السابق للمنطقة الشمالية في الجيش الإسرائيلي، إيال بن رؤوفين، مع أن الرسالة، بحسب المسؤول نفسه، مُوجَّهة - بالدرجة الأولى - إلى تل أبيب التي ستَحضر على طاولة البحث فيها الكثير من الأسئلة المرتبطة بتداعيات الضربة على مجمل المواجهة القائمة بين الجانبين. ولليوم الثاني على التوالي، تحاول إسرائيل، على المستوى الرسمي، حصر الحدث في إطاره الإيراني - الأميركي، ضمن سعيها للظهور بمظهر المراقب الذي يحلّل وينتظر ردّ فعل واشنطن على «اعتداء» طهران على منشآت أميركية، على رغم حرص الجانب الأميركي نفسه على نفي تعرّضه للإصابة، سواءً مادّياً أو بشرياً. وبمعزل عن كيفية التعاطي الأميركي أو الإسرائيلي مع الحدث، فإن ما جرى يُعدّ جزءاً من الحرب الكبرى بين المعسكرَين، ويمثّل إشارة إلى وجود إرادة إيرانية للترقّي في سلّم المواجهة المتصاعدة في المنطقة.ولا يغيّر من تلك الحقيقة ما ورد عن لسان وزير الأمن الإسرائيلي، بيني غانتس، من «(أنّنا) في وضع معقّد على الساحة الدولية، نواجه عدوّاً يسعى إلى تدميرنا، وهو إيران. وحتى اليوم، نلتزم بالعمل إلى جانب شركائنا وأصدقائنا في جميع أنحاء العالم. وسندافع عن أنفسنا ونزيل أيّ تهديد وجودي ماثل أمامنا، والتعامل مع العدوان الإيراني يتطلّب منا الآن مسؤولية سياسية وسلوكاً متعقّلاً وأيضاً تصميماً عملياً، وليس مجرّد آراء ودعوات على خلفيات سياسية». وتتّضح من تعليق غانتس إرادة المُضيّ قُدُماً في مواجهة إيران، ولكن بـ«سلوك متعقّل»، و«مسؤولية سياسية»، وفي الأساس، كما يرد في بداية كلامه، بالارتكاز على دعم الحلفاء والأصدقاء في العالم، في اعتراف ضمني بالقصور الإسرائيلي عن تحقيق الأهداف المرجوّة بمواجهة إيران، ما لم يكن الآخرون، وتحديداً الأميركيين، ملتزمين بهذه المواجهة.
على أيّ حال، فإن ما سيَحضر على طاولة التخطيط والقرار في تل أبيب، هو أن ثمّة ارتقاءً إيرانياً في الردّ على الهجمات الإسرائيلية المندرجة في إطار استراتيجية «الموت بألف ضربة»، والتي كان العدو وضعها موضع التنفيذ، من دون أن يقصرها على ساحات المواجهة التقليدية الإقليمية، بل خصّصها بشكل رئيس للساحة الإيرانية نفسها، كي تخدم أهدافاً تتعلّق بالإضرار بالنظام الإيراني وتأليب الرأي العام عليه، وصولاً، عبر الضربات الموضعية والمحدودة، إلى إماتته. لكن هل يكفي هذا الردّ الإيراني للجم إسرائيل ومنعها من مواصلة استراتيجية «الموت»؟ الـ«لا» هنا قد تكون كبيرة؛ إذ إن الهجوم الصاروخي على أربيل ليس إلّا محطّة في مسار، لكنه كافٍ في ذاته لدفع إسرائيل إلى التفكير قبل التخطيط لاعتدائها المقبل انطلاقاً من الساحة العراقية، المرشّحة لمزيد من الضربات الإيرانية، التي لن تقتصر، والحال هذه، على الهجمات الصاروخية. بالنتيجة، الصواريخ الإيرانية مؤثّرة، لكنها لا تنهي الحرب التي تستمدّ استمراريتها من الصراع القائم بوصفه «عداءً صفرياً»، أي أن نتيجته النهائية هي واحدة من اثنتين: هزيمة كاملة لإسرائيل، أو هزيمة كاملة لأعدائها.
تحاول إسرائيل، على المستوى الرسمي، حصر الحدث في إطاره الإيراني - الأميركي


مع ذلك، تؤكد الضربة الصاروخية الإيرانية جملة حقائق كانت موضع تحليل وتعليق، فيما تثير مجموعة أسئلة لا تزال حتى الآن من دون أجوبة. من بين الحقائق المُشار إليها أن المتغيّر الدولي المتمثّل في الحرب الروسية على أوكرانيا، لا يدفع طرفَي الصراع الإيراني - الإسرائيلي إلى الانكفاء أو الانتظار، بل يزيد الحافزية لتنفيذ أعمال «عدائية»، وربّما أيضاً الترقّي فيها درجات لم تكن مطروحة في المراحل التي سبقت الحرب. هكذا، بدأت إيران، بشكل علني، الردّ على الاعتداءات الإسرائيلية عبر استخدام الساحة العراقية، التي كانت الردود فيها محصورة ضدّ الجانب الأميركي. والواضح من البيانات الإيرانية الصادرة في أعقاب الهجوم، أن لا شيء سيمنع طهران من تنفيذ مزيد من الضربات على هذه الساحة، إن قرّرت إسرائيل من جديد توجيه اعتداءات منها. لكن ما الذي يمنع إيران من تسمية الأمور بأسمائها، عبر الإشارة إلى السبب المباشر لعملية أربيل، والذي لا يتّصل، على الأرجح، بالاعتداء الإسرائيلي قبل ما يقرب من أسبوعين بالقرب من دمشق. واحد من الأجوبة المحتملة هو أن إيران تريد إبقاء ساحات المواجهة متّصلة، بما يديم سلّة الخيارات «الردّية» على حالها من الاتّساع، في حال قرّرت إسرائيل أن تعاود اعتداءاتها.
من بين الدلالات أيضاً، والتي من شأنها أن تثقل على الجانب الإسرائيلي، حرص الجانب الأميركي على النأي بنفسه عن الحدث، والاكتفاء بالتنديد به عبر تصريحات ومواقف من دون أيّ أفعال، وهو ما يُعدّ مؤشّراً إضافياً إلى انكفاء أميركي عن المنطقة، ساهمت في مزيد من الدفع في اتّجاهه حرب أوكرانيا، إذ بدل أن تتلقّف واشنطن أيّ واقعة لتبني عليها أفعالها في مواجهة إيران ضمن الحرب الأوسع بين الجانبين، تجتهد في البحث عن أيّ باب للهروب من الواقعة، والهدف هو البقاء بعيداً عن التداعيات وعن «إحراج» ضرورة التدخّل في هذا الاتجاه أو ذاك. والنتيجة، هنا، ستكون حاضرة على طاولة القرار في الاتجاهَين المتقابلَين: إسرائيل وإيران، وأيضاً لدى أنظمة «حليفة» لإسرائيل وأميركا في المنطقة.