بغداد | يستمرّ السجال في العراق حول مقترح «الأمن الغذائي» الذي أسقطته المحكمة الاتّحادية، بعد الطعن به من قِبَل قوى «الإطار التنسيقي»، باعتبار أن الغالبية البرلمانية الحالية، ولا سيّما «التيار الصدري»، تسعى لصرف النفوذ من خلاله، ما دام تشكيل حكومة جديدة متعذّراً عليها حتى الآن. إذ إن هكذا قانون سيُتيح لها الاستفادة من إنفاق الأموال لاجتذاب المناصرين، تحسّباً لأيّ انتخابات مبكرة جديدة قد تحصل، أو أزمة طويلة تمتدّ حتى موعد الانتخابات المقبلة. وسعت هذه الأطراف إلى استغلال أزمة التوريدات العالمية الناجمة عن الحرب في أوكرانيا، وارتفاع أسعار النفط والسلع الاستهلاكية في كلّ أنحاء العالم، للدفع في اتّجاه اعتماد المشروع. وعلى رغم سقوطه بحُكم المحكمة الاتّحادية التي ارتأت أنّ حكومة مصطفى الكاظمي حكومة تصريف أعمال، وليس من صلاحياتها التوسّع في الإنفاق خارج العادة، التفّت أطراف «الثلاثي» على قرار المحكمة بطرح المشروع في مجلس النواب، حيث تجري دراسته في اللجنة المالية حالياً، لتحويله إلى قانون تحت عنوان «إنضاجه»، بعد إدخال تعديلات شكلية عليه لا تمسّ الجوهر الذي يقضي بإنفاق ما يصل إلى 17.5 مليار دولار إضافية. في المقابل، تَعتبر قوى «الإطار التنسيقي» التي طعنت في القرار الصادر عن حكومة الكاظمي، أن مشروع القانون يضيف إلى الإنفاق العادي مبالغ ضخمة لا تبرّرها أيّ أزمة، وهذا باب من أبواب الفساد. «الأخبار» حاورت عدداً من الخبراء الاقتصاديين الذين يُحسبون على معسكرات سياسية مختلفة، ومن بينهم القيادي في «كتلة النهج الوطني»، النائب السابق في لجنة الاقتصاد والاستثمار النيابية، مازن الفيلي، الذي يقول إن «الأمن الغذائي عنوان جميل، نظراً لوجود أزمة غذائية في العراق، لكن المشروع الذي طُرح من قِبَل الحكومة، والآن في مجلس النواب، لا يحظى بموافقة الجميع، وتعارضه قوى الإطار التنسيقي لأنه يثير الكثير من الشكّ والشبهة التي تدعو إلى عدم الموافقة عليه»، مبيّناً أن من بين وجوه الشبهة تلك «تخصيص 6 مليارات دولار لوزارة التجارة والبطاقة التموينية، وهذا رقم كبير جدّاً، خصوصاً أنه سيضاف إلى ما يمكن صرفه في هذه السنة في حال عدم إقرار الموازنة، حيث تصرف الحكومة حسب قانون الأول من كانون الأول من السنة الماضية، فتُضاف الستة مليارات إلى تخصيصات سنة 2021 لوزارة التجارة والبالغة 3 مليارات دولار، فيصبح الرقم كبيراً جداً».
ويضيف أن «الأمر الآخر الذي يدعو إلى الشكّ، أن قانون يعدّ وسيلة لإيجاد أبواب صرف الفائض عن الحاجة. فلدينا فائض أموال، فلماذا نضع مادة تجيز الاقتراض الخارجي؟ يجب أن تكون الحالة إحدى اثنتَين: إمّا وفرة مالية أو حاجة، ويجب اللجوء إلى الاقتراض الخارجي في حالة العجز، وليس في وقت الوفرة المالية». ويتابع أن «الصرف للمشاريع الاستثمارية وفق المادة 13 يكون على أساس المشاريع المنجزة فعلياً، لكن هذا القانون يضمن استثناء من المادة المذكورة، بما معناه إعطاء فرصة للمقاولين والمستثمرين لتسلّم أموال أكبر بكثير من المشاريع المنجزة، وهذا باب من أبواب الفساد. كذلك هناك الإعفاءات الجمركية للمشاريع الاستثمارية الجديدة، وهذا يقلّل الإيرادات غير النفطية أيضاً». ويخلص إلى «(أنّنا) مع سنّ قانون لمعالجة الأزمات المستقبلية مثل نقص الحنطة والطحين وغيرها، وتسديد ديون الكهرباء، لكن بشرط أن يكون القانون شفّافاً وواضحاً وتكون الجهة الرقابية مسؤولة عن إبرام العقود ومتابعتها، وأن تكون العقود واقعية ومناسبة ومطابقة للحاجة الفعلية وليست أكبر منها».
من جهته، لا يعتقد الباحث في الشأن الاقتصادي، نبيل جبار العلي، أن «الأمور في العراق قد تصل إلى حالة التدهور الاقتصادي». ويرى أن حاجة البلاد إلى القمح محدودة جداً، خصوصاً «أنّنا وصلنا إلى حالة الاكتفاء الذاتي من هذه السلعة لسنوات عدّة، إلّا أن الجفاف وقلّة المياه المتساقطة أو انخفاض مناسيب المياه في دجلة والفرات دفعا الحكومة إلى تقليص المساحات المزروعة، ممّا أثّر على الإنتاج المحلّي من القمح». ويشدّد العلي على أن «إدارة الأزمة الغذائية ليست محصورة في قانون الأمن الغذائي، فهناك استراتيجيات وخطط عدّة يمكن أن تتكفّل الحكومة بتبنّيها خدمة للمصالح العامة ومنها استراتيجيات متعلّقة بالزراعة وغيرها».
لكن الخبير الاقتصادي، عبد الرحمن المشهداني، يَعتبر أن «هناك ضرورة لمثل هذا القانون أو تخويل الحكومة بالإنفاق الطارئ لشراء الحبوب، لأن الأسعار ترتفع بشكل كبير، والإنتاج المحلي من القمح تراجع بحدود 50 في المئة، من 5 مليون طن العام الماضي إلى 2.5 مليون طن متوقّعة في موسم الحصاد الحالي، والعراق بحاجة إلى استيراد القمح على وجه السرعة لتأمين ما تبقّى من هذا العام، وهذا الأمر غاية في الصعوبة، لوجود دول أخرى تشتري كاش وبسرعة، ولأن الدول المصدّرة بدأت تضيّق مسألة التصدير، خاصة عندما اتّخذت الهند قبل أسبوع قراراً بوقف صادرات الحبوب بالتعاقدات الجديدة، ويمكن أن تنتهج دول أخرى النهج نفسه». وإذ ينبّه إلى أن العراق «قد لا يستطيع تأمين كامل الحصّة المطلوبة خلال الأيام المقبلة إذا ما تأخّر مثل هذا التحويل، في وقت يمرّ فيه البلد بأزمة غذاء كبيرة، ويقبع - وفق تقرير صندوق النقد الدولي - 80 مليوناً من أبنائه تحت خطّ الفقر، وهم مهدّدون بالفقر المدقع»، فهو يدعو الحكومة والبرلمان إلى «اتّخاذ خطوات سريعة بالاتفاق بين الكتل السياسية على تخويل الحكومة الصرف العاجل خارج الضوابط، حتى تشكيل الحكومة الجديدة».