خلال زيارته الأخيرة للعراق في أواخر تموز الماضي، لم يطلب قائد «فيلق القدس» في الحرس الثوري الإيراني، الجنرال إسماعيل قاآني، لقاءً مع زعيم «التيار الصدري»، مقتدى الصدر. كان الغرض من الزيارة عقد اجتماعات مع أطراف «الإطار التنسيقي» للطلب إليهم التهدئة مع الأخير، وعدم اللجوء إلى الشارع للتصعيد. ومنذ اقتحام أنصار الصدر البرلمان، تكاد لا تعثر على تصريح لمسؤول إيراني حول الأزمة العراقية، أو حتى تجد خبراً في شأنها في وكالات الأنباء الإيرانية. وإن كان ذلك لا يمثّل عدم اهتمام إيراني بما يجري في البلد الجار، نظراً إلى ما للعلاقة بين البلدَين من تأثير كبير عليهما معاً، إلّا أنه يشكل رسالة إيرانية واضحة بعدم الرغبة في التدخُّل المباشر في هذا النزاع، لقناعة الإيرانيين بأن العراقيين وحدهم هم مَن يستطيعون التوصُّل إلى حلّ للأزمة، وأن الأخيرة محكومة بسقف عدم الاقتتال، على رغم التحريض الأميركي والسعودي - الإماراتي عليه، وأن أيّاً من الطرفين لا يريد نقل العراق من معسكر إلى آخر. وبالتالي، فلا تأثير كبيراً لِما يجري على جوهر العلاقة، على رغم أن للصدر موقفاً مختلفاً عن موقف «التنسيقي» من العلاقات مع إيران ودول الخليج المجاورة، وهامش مناورة لا يحجب تأكيدَه المستمرّ فهمَ خصوصية العلاقة مع طهران، ورفضه استخدام البلد ساحة لتهديد أمنها ومصالحها. ومرّة أخرى، جدّد الصدر، عبر وفد من تيّاره قام بزيارة غير معلَنة إلى بيروت، في نفْس يوم اقتحام أنصاره مجلس النواب، أنه لا يريد مشكلة مع الطرف الشيعي الآخر، بل يبحث عن حلّ. لكن ما ينطبق على إيران في ما يتعلّق بالوساطة، ينسحب أيضاً على «حزب الله» الذي يملك علاقات واسعة مع مختلف القوى العراقية. وحتى المرجعية الدينية في النجف تُحاذر إلى الآن القيام بمساعٍ واسعة للحلّ، أو حتى اتّخاذ موقف علني ممّا يجري، قد يفسّره أيّ من الطرفين انحيازاً للآخر. وبعد أن حضر الصدر مجلس عزاء أقامه المرجع آية الله علي السيستاني ليلة السابع من محرم في النجف، سارع مكتب الأخير إلى التأكيد أن المجلس الذي يُقام سنوياً، ديني بحت، والشخصيات التي تَحضره لا تلتقي السيستاني، في ما بدا ردّاً على تقارير صحافية عن عقد اجتماع بينه وبين الصدر.
المرجعية الدينية في النجف تحاذر إلى الآن القيام بمساعٍ للحلّ


وتتمحور الخلافات بين القوى الشيعية العراقية حول الطموحات الشخصية، والرغبة في الاستئثار بالحصّة الكبرى من الحُكم من قِبَل هذا الطرف أو ذاك، أكثر ممّا تتعلّق بخلاف على موقع العراق، وفق ما تحاول السعودية والإمارات والولايات المتحدة الإيحاء به، حين تُصوِّر عبر التصريحات المباشرة، أو الحملات الإعلامية الواسعة، ما يجري في العراق في سياق اعتراض على العلاقة مع طهران. ولذلك، تُمثّل الانتخابات المبكرة الخيار الأفضل للخروج من الأزمة، إذا ما تمّ الاتفاق على قانون جديد لها، وعلى الحكومة التي ستشرف عليها، سواءً حكومة مصطفى الكاظمي كما يريد الصدر، أو حكومة مؤقّتة جديدة وفق ما ترغب فيه قوى «التنسيقي»، التي تتّهم الأولى بالانحياز في الانتخابات التي جرت في تشرين الأول الماضي، وأدّت إلى خسارتها جزءاً كبيراً من تمثيلها النيابي. لكنّ الحوار لمناقشة مثل هذه القضايا بين الجانبَين، لم يبدأ بعد؛ بالنظر إلى أن الصدر يرفض الدخول فيه وسحْب أنصاره من الشارع قبل الحصول على ضمانات بوصوله إلى نتيجة، أي قبول الطرف الآخر مسبقاً بإجراء انتخابات مبكرة تحت إشراف الحكومة الحالية، ويَعتبر زخم الشارع فرصة ذهبية لفرض شروطه.
وعلى رغم أن الانتخابات تبدو الحلّ الوحيد، إن تمّ الاتفاق على شروطها، فإنه لا ضمانة بأن لا تُفضي مرّة أخرى إلى ثلث معطّل يعيد إنتاج الأزمة نفسها، بل إن ذلك مرجَّح حصوله نظراً إلى تبعثر القوى السياسية. ومن هنا، يأتي مسعى الصدر لإحداث تغييرات في النظام السياسي، تطاول خصوصاً عُقدة رئيس الجمهورية الذي يتطلّب انتخابه في الجلسة الأولى نصاب ثلثَي أعضاء مجلس النواب، ليقوم الرئيس بعدها بتكليف رئيس حكومة جديد من الكتلة البرلمانية الكبرى. لكن ما يراهن عليه الصدر، على ما يبدو، هو تحقيق تقدُّم إضافي في الانتخابات، وخسارة خصومه، بمن فيهم رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، جزءاً من قوّتهم البرلمانية، ما يجعله في موقف أفضل لتشكيل حكومة الغالبية التي يريدها، مع مشاركة جزئية، أو حتى شكلية، لبعض قوى «التنسيقي».
بالنتيجة، لا يمكن للصدر البقاء في الشارع إلى ما لا نهاية. ففي بلد منقسم كالعراق، ثمّة حدود لِما يمكن تحقيقه عبره، فضلاً عن المخاطر الدائمة التي يمثّلها نزول شارع مقابل شارع. والزخم الذي حقّقه الصدر يحتاج إلى ترجمته إلى مكاسب فعلية في العملية السياسية على طاولة المفاوضات، وهذا يستدعي الاستجابة للدعوة التي أطلقها «التنسيقي»، حين كلّف رئيس «تحالف الفتح»، هادي العامري، التفاوض مع الصدر، أو توفير ظروف مناسبة لدخول وسيط، إقليمي على الأرجح، على الخطّ لمساعدة الأطراف على التوصّل إلى تسويات، نظراً إلى اصطفاف غالبية القوى المحلّية إلى جانب «الصدري» أو «التنسيقي».