أمام عجز السلطة المركزية منذ انتهاء الحرب الأهلية عن توفير الخدمات الأساسية للمواطن وإعادة تأهيل المرافق العامة وتطويرها، ترسَّخ الإيمان لدى الكثير من اللبنانيين أن «اللامركزية الإدارية الموسّعة»، التي طرحتها وثيقة الوفاق الوطني، غدت السياسة الوحيدة القادرة على تقديم الخدمات الحيوية للمواطن، وليس فقط تحقيق ما جاء في مقدّمة الدستور، من دون إنجازات تُذكر حتى الآن، حول «الإنماء المتوازن للمناطق ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً»، والذي يعتبره الدستور «ركناً أساسياً من أركان وحدة الدولة واستقرار النظام».إن اللامركزية، مبدأً وتصميماً، تعطي المواطن الحقّ والإمكانية لإبداء الرأي، وتعطيه مزيداً من التأثير في القرارات التي تتّخذها السلطات باسمه، من دون استشارته غالباً وليس دائماً لمصلحته. فمع تطوّر أنظمة الحاكميّة في المجتمعات الديموقراطية العريقة، تنامى دور السلطات المحلّية على حساب الحكومة المركزية في الممارسات السياسية والإدارية، وكذلك في المشاريع والمبادرات الاقتصادية والتنموية. وأضحت الديموقراطية تُعرّف بجوانب مهمّة لها باعتبارها نظام مشاركة وتعاون على كلّ أصعدة الدولة ومستوياتها، وغدت المجالس المحلّية وحدات أساسية في تحقيق هذه الشراكة. كما أن تطوّر أدوات «الحكومة الإلكترونية» وانتشارها سهّلا للمواطنين سبل التواصل مع الإدارة المركزية والإدارات المحلّية معاً، ما يُشكّل نوعاً من التفويض لهم بإنجاز معاملاتهم بطريقة تُقلّص بالمعنى الواسع وفعلياً من دور السلطة في حياة المواطنين.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

وجوب العمل بحذر في الواقع اللبناني
في لبنان، تجسّد البلديات تحديداً السلطات المحلّية، وهناك تلكؤ واضح في منحها القدرة والإمكانية على تطوير أدوات وأساليب إدارتها، بما يتناسب مع الاحتياجات المناطقية والمشكلات المهمّة المتعلّقة بالحياة العامّة.
من الضروري، بداية، التشديد على أن نقل مبادئ الديموقراطية وممارساتها القائمة على التشاركية والتعدّدية إلى السلطات المحلّية في مجالات السياسات الإنمائية والاقتصادية والاجتماعية، يحتاج، أوّلاً، إلى بناء قدراتها المؤسّساتية لأداء مهمّاتها، وإدخال مبادئ أساسية، منها: إرساء حقوقها داخل النظام الدستوري، بما فيها حقّها في الاحتكام إلى القضاء، وإشراكها واستشارتها في الإجراءات المتعلّقة بمسؤولياتها، والمواءمة بين الإشراف والرقابة المركزية عليها، بما يتناسب مع أهمّية المصالح والمشاريع المطروحة.
يقع مبدأ اللامركزية الإدارية في صميم وثيقة الوفاق الوطني، ولكن في واقع لبنان، تكويناً ومساحة، فإن اللامركزية، في حال لم تحقّق الأهداف المنشودة على كلّ الأصعدة، فهي قد تشكّل، بمفاعيلها المالية والاقتصادية، نقيضاً لمبدأ الإنماء المتوازن. إذ إن التوازن بالإنماء يقوم إلى حدّ كبير على إعادة توزيع المداخيل الضريبية، وبالتالي إعادة توزيع جزء من الثروة الوطنية بين مختلف المناطق، وذلك لمساعدة المناطق الأقلّ تطوّراً لتلحق بقافلة الإنماء على امتداد الوطن. لذا في موضوع إحلال اللامركزية، يجدر - في حقبة أوليّة قد تختلف مدّتها بين منطقة وأخرى - الوقوف على مبادئ أساسية: أوّلها مالية وثانيها مؤسّساتية.
أ - في هيكلية التحويلات المالية والعلاقات ما بين السلطات على مختلف مستوياتها
• التحويلات من الخزينة إلى الكيانات المحلّية: في ظلّ هيمنة السلطة المركزية في الواقع الحالي، يبرز، أوّلاً، موضوع التحويلات المالية الإضافية من عائدات الضرائب التي تجبيها الخزينة إلى السلطات المحلّية. ففي إطار اللامركزية يتمّ توكيل السلطات المحلّية بمسؤولية توفير الخدمات التي كانت سابقاً من اختصاصات الحكومة المركزية. لذلك، فإن الجوانب المالية لأي مشروع للامركزية تتطلّب تخطيطاً دقيقاً لكلّ ما يتعلّق بنمط هذه التحويلات وحجمها، نظراً إلى هشاشة المالية العامّة في لبنان، فقد يكون لمنظومة التحويلات الجديدة تداعيات على الخزينة والتزاماتها على مستوى الاقتصاد الكلّي، في ظلّ تفاقم العجز والدين وضغط النفقات لتمويل المرافق العامّة على النطاق الوطني.
• معايير توزيع العائدات المركزية ما بين المناطق: بالإضافة إلى الحجم الإجمالي لتحويلات الخزينة للسلطات المحلّية، تبرز أيضاً معايير وكيفية توزيع العائدات المركزية ما بين المناطق، نظراً إلى التفاوت القائم حالياً بين مختلف مناطق لبنان لجهة الثروة وحجم الاستثمارات ومرافق الإنتاج ومستوى التنمية الاقتصادية والاجتماعية ومنشآت البنية التحتية. فاللامركزية، بما يواكبها بنيوياً من «استقلال مالي» للكيانات المناطقية واعتمادها بوتيرة تصاعدية على مواردها الذاتية، قد تؤول إلى تعميق الفجوات بين هذه المناطق، وبين «العائلات الروحية» التي تشكّل غالبية السكّان في هذه المناطق. وهذا قد يولّد خطر التفكّك الداخلي ويضعف اللحمة والتماسك الوطنيّين، والذي ينبغي العمل على تعزيزهما وليس إضعافهما عبر اتّساع الشرخ المناطقي. ويجب التأكيد على أن اللامركزية لن تكون الأداة السحرية التي قد تسمح لهذه المنطقة أو تلك بالارتقاء فرديّاً، وإلى ما لا نهاية، إلى مستوى إنمائي واقتصادي واجتماعي وعمراني وحضاري وثقافي أعلى من سواها من المناطق ضمن الوطن الواحد. فتلك أهداف عصيّة المنال، إذ إن تزايد التفاوت الاقتصادي والإنمائي بين المناطق، إن حصل، سيشكّل دافعاً تلقائيّاً لنزوح أهالي المناطق الأقلّ تقدّماً، وتوافدهم إلى المناطق الأكثر ازدهاراً، سعياً وراء فرص عمل أوفر ومستوى حياة أفضل. فكيف يُمنع مثلاً أهالي عكّار (وأنا واحدٌ منهم) أو الهرمل أو الضنيّة من النزوح إلى جونية أو برمّانا أو بيروت، ولو للسكن في مربّعات عشوائية في ضواح تُستحدث يوماً بعد يوم؟ وهل من حواجز للهجرة الداخلية سوى عبر تشييد جدران تفصل بين مناطق العوز والازدهار؟ وكيف لذلك أن يحصل فيما الدستور ينصّ في مقدّمته على أن «أرض لبنان واحدة لكلّ اللبنانيين. فلكلّ لبناني الحقّ في الإقامة على أي جزء منها والتمتّع به في ظلّ سيادة القانون...».
كي يُكتب النجاح لأي مشروع للامركزية، يجب، في مراحله الأولية أن يعتمد بشكل أساسي على إعادة توزيع واسعة للإيرادات الضريبية من مناطق اليسر نحو مناطق العسر، بهدف تقليص التفاوت ما بينها. هذا ما تعتمده كندا، الدولة الفيدرالية، تحت عنوان «مبدأ التعادل» (principe de péréquation) لتوزيع أموال الخزينة المركزية بين مقاطعاتها وأقضيتها الثلاثة عشر. أما في غياب ذلك، فيمكن للامركزية أن تُشكّل بمفاعيلها المالية والاقتصادية والاجتماعية نقيضاً لمبدأ الإنماء المتوازن، القائم إلى حدّ بعيد على التضامن الضريبي بين مختلف المناطق لمساعدة الأقل إنماءً والأشدّ فقراً وتقليص فجوة الدخل ومستوى المعيشة في ما بينها.

ب - في الإجراءات المؤسّساتية
• بناء القدرات: تعاني المؤسّسات العامّة على النطاق الوطني في لبنان نقصاً في الطاقات الفنية والإدارية على المستوى المطلوب. فيغدو بمنتهى الأهمّية العمل لإيجاد الخبرات والقدرات الفنية للتوظيف في الكيانات المناطقية المستحدثة، كي لا تكون ركائزها مؤسّسات هشّة غير قادرة وغير فاعلة. فاستحداث وحدات محلّية صغيرة وعدّة، يحتاج الى مواهب وخبرات يفتقر إليها أصلاً القطاع العامّ على المستوى المركزي، وهذا سيكون من التحدّيات الجدّية لبناء القاعدة الصلبة الأساسية للامركزية المنشودة.
• وفورات الحجم والفعالية الاقتصادية: يجب الاحتراز ألّا يُشكّل صغر حجم الوحدات المحلّية المستحدثة عقبة فعليّة أمام تنفيذ وأداء واقعيّين لمشاريع البنية التحتية والتنمية المحلّية، فيغدو ذلك عائقاً أمام تأمين حاجات المواطنين. لذا وجب التقيّد بمبدأ أساسي في إطار اللامركزية، المعروف في الاتحاد الأوروبي بمبدأ «التبعيّة» (principe de subsidiarité)، وهو يقوم على تفويض مسؤوليات توفير الخدمات العامّة إلى المستوى التنظيمي والإداري الأدنى في تراتبية السلطات، أي الأقرب إلى المواطن، والذي يسمح في الوقت نفسه بتنفيذ المشروع وإدارته وتأمين خدماته بأعلى درجة من الفعالية والجدوى الاقتصادية. وهذا موضوع جوهري في لبنان نظراً إلى صغر بلدنا، مساحة وديموغرافيا، ما قد يشكّل صعوبات في تحقيق وفورات الحجم (économies d’échelle) اللازمة لتقديم الخدمات بتكاليف واقعية ومحمولة.
تتجسّد وفورات الحجم بتدنّي سعر إنتاج الوحدة الاستهلاكية مع ارتفاع الطاقة الإنتاجية. مثلاً، تنخفض كلفة نقل راكب الأوتوبيس كلما كبر حجم الحافلة وارتفع عدد الركاب. لذا تكون تعرفة الأوتوبيس أقلّ من التاكسي. كذلك الحال في الكهرباء، إذ ينخفض سعر الكيلوواط/ ساعة (وهي الوحدة الاستهلاكية) مع ارتفاع طاقة محطّة التوليد. يشكّل قطاع الكهرباء النموذج المؤلم لمعضلة وفورات الحجم في لبنان. لقد أثبتت الدولة المركزية، على مدى ثلاثة عقود، عدم كفاءتها لتأمين التيار الكهربائي بطريقة موثوقة للمستهلكين من أسر وشركات. لذا يلمع في هذه الظلمة شعاع «كهرباء زحلة» (24 على 24) لتصبح النموذج الذي يجدر الاقتداء به لتوفير الطاقة عبر لبنان، أي أن يكون لكلّ مدينة، وربما لكلّ قرية، الكهرباء الخاصّة بها، وهذا من دون أدنى شك يرتّب كلفة إنتاج أعلى من مصانع التوليد الكبرى (الذوق، الزهراني، دير عمار) العاملة على المستوى الوطني. فأي فعالية في هذا النموذج؟ وهل من يسأل عن ارتفاع التكاليف والأسعار أو يحتسب لها أو يتخوّف منها؟
ليس من المستغرب أن تغدو مسألة الفعالية والكلفة ثانوية، لا معياراً رئيساً للخيار، ففي الواقع اللبناني القائم يصبح الخيار محصوراً بين من هو قادر على تأمين السلعة، ككهرباء زحلة «المحلّية»، وبين من أخفق عقداً بعد عقد في توفيرها، كمؤسّسة كهرباء لبنان «المركزية»! إن جلّ ما يتطلّبه تقليص العجز الحالي لتوليد الكهرباء في لبنان، وهو يقارب ألفي ميغاواط، أي ما يعادل ثلاثة أضعاف طاقة محطّة الذوق الحرارية، هو استثمار بقيمة ملياري دولار أميركي، أي أقلّ ممّا تقدّمه الخزينة من دعم سنوي لمؤسّسة كهرباء لبنان! وهل من دليل أقوى على الفشل، إن لم يكن الخجل، أن لبنان اليوم في موقع استجرار الطاقة من سوريا، وهي في خضمّ حرب ضروس لم تُبقِ حجراً على حجر.

الخلاصة
يجب الحذر من إفراغ اللامركزية في لبنان من أبعادها الإصلاحية وتجسيدها لمبادئ الديموقراطية والممارسات القائمة على التشاركية والتعدّدية، لتغدو فقط طريق خلاص لتخطّي عجز الدولة، فيبرز عندها الخطر في أن تنحدر إلى مشروع لإنشاء «دويلات» قليلة الفعالية، تحلّ محل الدولة العاجزة. لذا، فإن إرساء وتطوير نظام لامركزي سليم وفعّال يحتاج إلى عمل دؤوب تحضيري يجب القيام به لتقوية القدرات المؤسّسية ودعم القاعدة المالية للسلطات المحلّية، بهدف تمكينها من أداء المسؤوليات الموسّعة المناطة بها وتوفير الخدمات العامّة وتمويلها بدلاً من الحكومة المركزية. وهذا عمل أساسي نظراً إلى ضعف القدرات المحلّية، ولا سيّما من حيث الإدارة والمعرفة. كما أن عدم توفر الموارد المالية الكافية يتطلّب بناء نظام مالي سليم يمكّن السلطات المحلّية من الحصول على التمويل لمشاريعها في أسواق رأس المال الخاصّة (ما يستلزم بناء نظام مالي وإطار اقتصادي خاصّ بالسلطات المحلّية).

* اقتصادي ومهندس، مستشار سابق في البنك الدولي