ركّز عدد قليل من محلّلي النظام النقدي والمالي اللبناني على سماته الغريبة والمتناقضة. فهذا النظام هو المسؤول بشكل واسع عن المديونية الضخمة، التي أُغرق لبنان فيها منذ عام 1994 – 1995. صحيح أنّنا نسمع من وقت إلى آخر دعوات لتخفيض قيمة الليرة اللبنانية كحلّ سحري لكلّ العلل الاقتصادية، لكن الكلفة السياسية والاجتماعية لتحرير سعر الليرة اللبنانية من نظام سعر الصرف الثابت المُدار من قِبل مصرف لبنان، ستكون مرتفعة جدّاً، لدرجة سيكون من المشكوك فيه أن تبادر أي حكومة من تلقاء نفسها وبملء إرادتها، إلى اتّخاذ مثل هذا الإجراء. ومن ثمّ إلى أي حدّ سيقف تراجع سعر صرف الليرة اللبنانية في حال امتنع مصرف لبنان عن إدارته كما فعل منذ عام 1992؟ إن مثل هذه التوقّعات والتساؤلات قد تؤدّي إلى الانهيار الكامل للنظام النقدي ونظام المدفوعات.نعتقد أن مشكلة سعر صرف الليرة اللبنانية لم يتمّ التطرُّق إليها بعد بالشكل الصحيح. والمسألة ليست في القيمة المُفرطة والافتراضية لليرة اللبنانية، لأنّ مثل هذا الارتفاع في القيمة لا يمكن احتسابه بصورة ملائمة عندما يكون الاقتصاد مدولراً بهذا الشكل الواسع، كما هو الوضع في لبنان. أضف إلى ذلك أنه ليس هناك أيّة ضمانات بأن التخفيض الحادّ لقيمة الليرة سيمنح الدفع لصادراتنا. ففي عام 1992، وعلى الرغم من تراجع سعر صرف العملة المحلّية من 850 ليرة لبنانية إلى 2800 مقابل الدولار، فإن صادراتنا لم تشهد أي تقدُّم. وهذا يؤكّد أن تخفيض سعر الصرف في اقتصاد مدولر ليس الحلّ الحقيقي، فهو يحدّ فقط من القوّة الشرائية للشرائح الفقيرة من السكّان، كما يرفع من تكاليف المعيشة ويزيد النقص العامّ في القدرة التنافسية للاقتصاد، إضافة إلى أنه يجعل النموّ صعب المنال.
تكمن المشكلة الحقيقية في بلدنا، في بنية النظام النقدي وفي استخدام الدين العامّ المُدار من قِبل مصرف لبنان، لبلوغ أهداف نقدية على حساب سلامة أوضاع الخزينة، وقد ناقشت هذه النقطة مطوّلاً، عندما تولّيت حقيبة المالية مع كلّ من المصرف المركزي وجمعيّة المصارف، لكن الآذان الصاغية كانت قليلة.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

ما يكمن في صلب مشاكلنا هو الاستخدام المتوازي وغير المتوازن لعملتين مختلفتين في اقتصادنا، مع تبنّي سعر ثابت للعملة الوطنية مقابل الدولار الأميركي، في وقت يتمّ فيه خلق فارق هائل في معدّلات الفوائد بين الودائع بالعملة الوطنية وتلك التي بالدولار، كما هو الحال أيضاً بالنسبة إلى سندات الخزينة وشهادات الايداع الصادرة بالليرة والدولار أو اليورو.
هذا الفارق الضخم غير مقبول أخلاقياً (أرباح خارقة متواصلة وغير مبرّرة من جرّاء الإيداع بالليرة اللبنانية أو الاكتتاب بسندات الخزينة بالليرة اللبنانية). هذا بالإضافة إلى قلّة فاعلية هذا الفارق من الناحية المالية. فإذا كان سعر الصرف مضموناً من قِبل مصرف لبنان، لماذا يكسب المدّخر بالليرة مثل هذه الفوائد الأعلى بكثير من المودع بالدولار، خصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار الآجال القصيرة الأمد للوادئع بالليرة أو لاستحقاقات سندات الخزينة الصادرة بهذه العملة. إنّ منح مثل هذه الفوائد المرتفعة على سندات الخزينة الصادرة يعني أنّ وزارة المالية والمصرف المركزي هما بصدد الإشارة إلى المدّخرين أو المكتتبين بسندات الخزينة بالليرة اللبنانية أن هناك خطراً عظيماً في الإبقاء على المدّخرات بالعملة الوطنية، فيما هما في الوقت نفسه يضمنان هذا الخطر بإبقاء سعر الليرة ثابتاً، مهما كانت الكلفة على الخزينة. لقد كان بالإمكان تبرير الفارق في معدّلات الفوائد لو تمّ ترك سعر صرف الليرة عائماً بحرّية ولو لم يكن المصرف المركزي يتدخّل في تأمين سعر صرف ثابت بشكل يومي متواصل.
وبينما كان معدّل خدمة الدين من مجمل النفقات يقف عند مستوى 23 إلى 25% في عامي 1992 و1993، ارتفع هذا المعدّل إلى 42.6% في العام 2002. أمّا العجز الناجم عن خدمة الدين والذي كان في حدود 50 – 60% من مجمل العجز، فبلغ 70 إلى 86% خلال الأعوام الأربعة الأخيرة. وهذا يعني بكلّ بساطة أنّه مهما كانت الجهود المبذولة حثيثة في ترشيد مختلف أنواع النفقات العامّة، فإن هذه الأخيرة لن تعود بنتائج أساسية طالما أن خدمة الدين مرتفعة بهذا الشكل الحادّ في لبنان. إنّ الحلّ هو كلّياً في يد المصرف المركزي والقطاع المصرفي بفعل الواقع القائم وهو أن كلاً من سعر الصرف ومعدّلات الفوائد يتمّ إدارتهما وضبطهما بقوّة من قِبل مصرف لبنان بالتشاور مع المصارف الكبرى في البلد.
ولكي نخرج من فخّ الدين، نحن بأمسّ الحاجة إلى خطّة لإعادة تشكيل النظام المالي والنقدي. ولا نعتقد أنه بالإمكان تغيير عاداتنا النقدية في غضون 24 ساعة. فما نحتاج إليه في هذا البلد هو التخلّص من إدماننا على بنية معدّلات الفائدة المرتفعة جدّاً (سواء في الدولار أو في الليرة)، ومن إدماننا على لعبة المقامرة «الكازينو» من خلال التحوّل من الدولار إلى الليرة، ثمّ العودة إليه بحسب ما تمليه علينا الشائعات ومزاج اللاعبين الأساسيين في السوق السياسية والمصرفية.
أمّا خطّة إعادة تشكيل النظام المالي والنقدي، فهي تشتمل على سلسلة من الإجراءات التدريجية للعودة إلى الوضع الطبيعي، ونذكر هنا أهمّها:

1ـــ وجوب توقّف النظام عن تشجيع دولرة الاقتصاد
يجب التوقّف عن تحرير الشيكات المُحرّرة محلّياً بالدولار الأميركي، وامتناع مؤسّسات القطاع العامّ عن قبول تسديد فواتير الموردين المُحرّرة بالدولار الأميركي، بالإضافة إلى عدم الموافقة على قيام شركات (مثل سوليدير) بتحرير رأس مالها بالعملة الأجنبية.
إن النظام النقدي المزدوج القائم على استخدام الدولار في معظم عمليّات التداول والإبقاء على العملة الوطنية فقط لدفع أجور القطاع العامّ أو لتمويل المبالغ الضخمة من الفوائد على الودائع المؤقّتة بالليرة اللبنانية، هو نظام يجب التخلّي عنه تدريجياً. من ناحية أخرى، يفترض بنا تشجيع استخدام الليرة اللبنانية عوضاً عن إحباط المبادرة لهذا الاستخدام بذريعة الحفاظ على الاستقرار النقدي. فلنتذكّر أنّه وحتى عام 2001 كان المصرف المركزي «يعاقب» استخدام الليرة اللبنانية بفرض احتياطيات إلزامية مقابل ودائع المصارف بالليرة اللبنانية، في حين كانت الودائع بالدولار مستثناة من هذا الإجراء. إذا ما أردنا العودة إلى العمل بالليرة كعملة المداولات الرئيسية فإنّ العديد من المودعين سيرتدّون إليها، ويتوقّفون عن الحفاظ على حسابات بالعملتين، وهو واقع يشكّل كلفة إضافية للمواطنين الذين عليهم أن يقوّموا مدفوعاتهم بالعملتين.

2ـــ جعل إدارة الدين العامّ مستقلاً عن مصرف لبنان
منذ عام 1993 والمصرف المركزي يصدر من حين إلى آخر سندات خزينة تفوق حاجات الخزينة الفعلية، وذلك حتى عندما لم يكن وضع السيولة للقطاع العامّ يحتاج إلى التمويل الفوري. والذريعة كانت دائماً الحاجة لتعقيم السيولة بالعملة الوطنية من أجل الاستقرار النقدي. إن حسابات القطاع العامّ والخزينة لدى مصرف لبنان تُظهر بوضوح أن مستوى السيولة للدولة والقطاع العامّ كان مرتفعاً بصورة مستمرّة، في الوقت الذي كانت فيه الخزينة مُجبرة على الاقتراض من المصارف بمعدّلات فوائد مرتفعة. وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ سندات الخزينة لأجل عامين والمكلفة في مجملها أصبحت مهيمنة في إدارة الدين العامّ على حساب الخزينة لأجل ثلاثة وستة وإثني عشر شهراً الأقل كلفة. وممّا لا شكّ فيه أن هذا النوع من الإدارة السيّئة للدين العامّ أفسح المجال أمام القطاع المصرفي لتحقيق أرباح ضخمة.
لذلك، لا بدّ من إنشاء جهاز مستقلّ عن البنك المركزي لإدارة الدين العامّ ومنحه استقلالاً إدارياً عن وزارة المال، كما هو الحال في دول عديدة، كما لا بدّ من تغيير أسلوب المناقصات لسندات الخزينة بالليرة وتخفيض إضافي لبنية الفوائد، على أن تقبل المصارف بالتضحية بمستوى أرباحها العالية جدّاً في ظروف حالة انكماشية كبيرة.

3ـــ فصل الرقابة المصرفية عن مصرف لبنان وإعطائها استقلالاً مالياً وإدارياً
فالحقيقية، إن المصرف المركزي بممارسة سياسة دمج المصارف المُتعثّرة بمصارف أخرى وباستعمال سندات خزينة لمنح قروض كبيرة لتسهيل عمليات الدمج، حال دون تطبيق أي عقاب على سوء الأمانة من قِبل إدارات المصارف المتعثّرة، ممّا أدّى إلى مزيد من تبخّر أموال المودعين كما حصل مؤخراً مع فضيحة بنك المدينة.

4ـــ وجوب إعادة النظر بهيكلية معدّلات الفائدة بعناية
لا شكّ في أن دولار بيروت يجب أن يحظى بهامش في الفوائد المدفوعة على الودائع فوق ما يدفع في الأسواق الغربية. لكن المسألة هي في تحديد مدى توسّع هذا الهامش. وعندما نعلم أنّ معظم الودائع في لبنان هي لآجال قصيرة وأنه يسمح لمعظم المودعين في غالبية الأحيان بسحب ودائعهم قبل الاستحقاق من دون كلفة أو وفق الحدّ الأدنى منها، يطرح السؤال، هل يجب أن يكون الهامش الذي تدفعه المصارف لكبار المودعين بالدولار أكثر من 2 إلى 2.5% فوق ما يمكن الحصول عليه في الأسواق الغربية الكبرى؟
كما هو معلوم، ظلّت المصارف حتّى وقت قريب تدفع ما يفوق الـ5 إلى 6% لجذب الودائع بالدولار. والأغرب من ذلك أن مصرف لبنان كان يقدّم هوامش ضخمة للغاية لجذب الودائع المصرفية بالدولار لتعزيز احتياطه بالعملات الأجنبية. بذلك يكون مصرف لبنان يساهم في رفع معدّلات الفوائد في البلد، أمّا بالنسبة إلى معدّلات الفوائد على الودائع بالليرة اللبنانية، فقد كانت تحدّد عادة، وبحسب الظروف، بزيادة هامش تراوح بين 6 و20% فوق معدّلات الفوائد على دولار بيروت. إن مثل هذه الإدارة النقدية تكون نوعاً من الانتحار لاقتصاد البلاد، فإلى جانب تضخيم كلفة خدمة دين الدولة، سبّبت معاناة حادّة للقطاع الخاصّ من حيث كلفة التسليفات المصرفية التي يحتاج لها، ما أدّى إلى الحديث عن إعادة جدولة بعض ديون هذا القطاع للمصارف.
لا شكّ في أن تحقيق الأرباح المصرفية هي جيّدة لسمعة السوق المالية اللبنانية، لكن في حالة لبنان، فإن هذه الأرباح بأكملها تقريباً جُمعت بواسطة سياسة قضت على إمكانية النموّ في هذا البلد وسبّبت الفوضى في ماليّته العامّة.

• نشر جورج قرم هذا النصّ في كتابه «نظرة بديلة إلى مشكلات لبنان السياسية والاقتصادية»، الصادر عن دار الفارابي - 2013

* كاتب وأستاذ جامعي، وزير المال اللبناني الأسبق


من أجل تجنّب الانهيار في المستقبل
إن الإفلات من فخّّ الدين واستعادة النموّ سوف يتطلّبان تغيّرات جذرية في الإدارة المصرفية والنقدية في بلدنا، كذلك في إدارة الدين العامّ، والخروج من النظام الحالي، باتباع مقاربة تدريجية ومصمّمة تصميماً جيّداً. وهي الخطوة الأولى لتجنّب الانهيار في المستقبل. فعندما نعتمد أسلوباً جديداً في إدارة ماليتنا، حينها سوف نتمكّن بأمان من توسيع هامش تأرجح سعر صرف الليرة مقابل العملات الأخرى وإدخال المرونة الضرورية جدّاً في نظامنا النقدي. سوف نحتاج طبعاً إلى تحديد سعر الليرة مقابل سلّة من العملات الدولية الرئيسية وليس مقابل الدولار الأميركي فقط.
ثمّة تدابير أخرى مطلوبة لتخفيف الأثر السلبي القوي للدين العامّ والخاصّ على الاقتصاد. غير أن هذه الخطوات تستلزم بدورها بناء توافق جديد في النادي المصرفي والمصرف المركزي للتخلّص من النظام الحالي المالي والنقدي المُكلف وغير الفعّال. لكي نتمكّن من تجنّب الأزمة نأمل أن لا يطول الأوان قبل أن ندرك أن الإبقاء على مستوى مرتفع للأرباح المصرفية لا يمكن أن يكون الهدف الحصري لسياستنا النقدية. إن الأرباح المصرفية جيّدة طالما نشأت عن نموّ اقتصادي حقيقي وعن دينامية وزيادة إنتاجية في النشاطات الاقتصادية. أمّا عندما يكون المصدر الحصري لهذه الأرباح ناجماً عن الإقراض المُفرط للخزينة وتكليف كلّ من القطاعين العامّ والخاصّ بأعباء كبيرة نتيجة الفوائد المُرتفعة بشكل غير واقعي، فإن هذه الأرباح التي تحقّقها المصارف تكون قاضية على الاقتصاد، وفي المدى الطويل سوف يوقع القطاع المصرفي نفسه ضحيّة هذا النظام النقدي الفتّاك الذي يولّد الأرباح المصرفية بشكل عشوائي، ويولّد كذلك مداخيل مالية عالية جدّاً لكبار المودعين في المصارف لا يقابلها أيّة زيادة في الإنتاجية في الاقتصاد الوطني.
فلنعد بالذاكرة إلى الأيّام الخوالي الجيّدة ما قبل الحرب، حين كان سعر عملتنا مُحدّداً بشكّل حرّ، وحينما كانت قيمة العملة تحدّد وفق القوة الطبيعية لاقتصادنا. في تلك الحقبة كانت الدولرة تشكّل 30% فقط من الودائع، فيما كانت جميع التسليفات المصرفية تقريباً تتمّ بالعملة الوطنية. قد تعود تلك الأيّام في حال شهد النظام المالي والنقدي الحالي غير الفعّال وغير الأخلاقي إصلاحاً في العمق بتعاون جميع الفرقاء فيه.
إن الانحطاط الذي أصاب الفكر الاقتصادي في لبنان من جرّاء الإيمان الساذج بحتميّة تخصّص لبنان ببعض الخدمات السياحية والتجارية الطابع، وبجعله على نسق إمارة مونت كارلو يعيش من الثروات المالية التي تلجأ إليه. وقد رسّخت السياسات المُتبعة في لبنان (باستثناء عهد الرئيس شهاب) هذه الذهنية التي لا ترى مستقبلاً للبلاد خارج هذا الإطار، وتجدر الإشارة إلى أن الكثير من اللبنانيين، حتى الفئات المحدودة الدخل، اعتاد أن يتّكل على ما تدرُّه حساباتهم الادّخارية في الجهاز المصرفي من فوائد عالية.
والتفكير السائد يدور حول إمكانية استقدام المزيد من القروض لتسديد ما يترتّب على الدولة من خدمة للدين العامّ بدلاً من التفكير الجدّي بالدخول في نهضة إنتاجية شاملة تسمح بزيادة فرص العمل بشكل كبير، وبالتالي، توليد مداخيل جديدة نابعة من جهد إنتاجي جماعي، التي من خلالها يمكن تسديد أصل الدين. فالحقيقة، إن من يقع في المديونية، مهما كان السبب، أكان فرداً أو مؤسّسة أو دولة، يجب أن يقوم بنشاطات اقتصادية جديدة عبر تكثيف الجهود الإنتاجية لكي يولّد المداخيل الكافية لبداية تسديد مستحقّات أصل الدين.
وإشارة الخلاص ستكون حتماً توفير إمكانية بداية تسديد أصل الدين مع قدرة الدولة على تحمّل مستوى مقبول من خدمة الدين من دون الاضطرار إلى مزيد من الاستدانة لتغطية أعباء خدمة الدين.