إن لبنان بلد صغير بمساحته، كبير بقدراته، وإن الاستثمار بهذه القدرات والطاقات في شكل صحيح يتطلّب مقاربة جديدة للاقتصاد الوطني ونظرة حديثة للإنتاج في مختلف قطاعاته والتزاماً كاملاً بهذا التوجّه كمجتمع وكدولة. فالمنافسة أصبحت عالية وجودة المُنتج اللبناني هي الضمانة لاستهلاكه ولزيادة إمكانيّات الإنتاج وحجم التصدير. كما إن قوّة الأوطان الحقيقية لا تقاس فقط بإمكانيّاتها العسكرية، إنّما أيضاً بقيمها الإنسانية والمجتمعية، بما في ذلك المصداقية المعنوية، وباقتصادها الحقيقي ونموّه المستدام ومدى تأقلمه مع التطوّر والتحديث.
فالاستقلال لا يُستكمل والسيادة الوطنية لا تأخذ كامل أبعادها إلّا عند تحرّر الاقتصاد الوطني وتحوّله من اقتصاد استلحاقي إلى اقتصاد مُنتج، وذلك بإعادة التوازن بالتدرّج إلى أرقام المالية العامة، وبين الاستيراد والتصدير، سلعاً وخدمات، ومن خلال تنشيط حركة الإنتاج في مختلف القطاعات وعلى مساحة الوطن.

51.9 مليار دولار

هو مجمل حجم الإستهلاك في عام 2016 وفقاً لإدارة الإحصاء المركزي وهو يتجاوز الناتج المحلي الإجمالي البالغ 51.5 مليار دولار في العام نفسه. وينقسم الاستهلاك بين استهلاك منزلي بحوالى 45.6 مليار دولار واستهلاك عام بنحو 6.3 مليار دولار


إن الاقتصاد اللبناني، وعلى رغم طابعه الريعي منذ تسعينيات القرن الماضي، يتمتّع بإمكانيّات مادية لتطويره وتحديثه وتحويله إلى اقتصاد مُنتج، ولزيادة حجمه، إضافة إلى قدرته العالية على مواجهة الصدمات والأزمات.
يفترض الاقتصاد المُنتج قبل كل شيء ثقة المستثمرين التي يمكن الاستحواذ عليها بشكل فعّال ومستدام، لا سيّما في لبنان، عند تأمين الأسس التالية:
• أوّلاً: الأمن والأمان والاطمئنان.
• ثانياً: الاستقرار السياسي، والاستقرار الاقتصادي، والاستقرار الاجتماعي للعمل في المؤسّسات المُنتجة.
• ثالثاً: تأمين بيئة ملائمة للأعمال.
• رابعاً: القضاء الفعّال الذي يحمي الحقوق ضمن القوانين والأنظمة المرعية الإجراء، وبأسرع وقت ممكن. يقول مونتيسكيو إن «العدالة لا ترتبط بالأحكام فقط، إنّما أيضاً بسرعة إصدارها»
• خامساً: تطوير البنية التحتية الضرورية للنموّ من طرقات، وكهرباء، وإنترنت، ومياه...
• سادساً: خلق الحوافز المالية المتعدّدة، وفي بعض الحالات، الحوافز الجمركية وغيرها، بما يؤمّن ميزات تفاضلية للمُصدّر اللبناني من أجل منافسة البضائع الأجنبية كالتركية مثلاً.
• سابعاً: تعديل بعض الإجراءات التي تعيق التصدير أو تزيد من كلفة الإنتاج.
• ثامناً: تحديد القطاعات الإنتاجية التي يمكنها أن تطوّر من قدراتها التنافسية، بغية رعايتها وتسهيل زيادة إنتاجها كالخضار والفاكهة والأدوية والمجوهرات والمفروشات والثياب والمعدّات المنزلية والحليب واللبن ومشتقّاتهما.
• تاسعاً: تحفيز توسعة رساميل المؤسسات، لا سيّما الكبيرة والمتوسطة الحجم، ممّا يزيد من الخبرات ويطوّر المؤسسات على أصعدة عدّة، ويساهم بضبط المصاريف العامة، ويخفّف من كلفة التمويل وبالتالي من كلفة الإنتاج، ويحسّن من القدرات التنافسية لمنتجات هذه المؤسّسات في السوق المحلّية وفي الأسواق الخارجية عند التصدير
• عاشراً: إنجاز الإجراءات التطبيقية اللازمة للمباشرة بوضع قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص موضع التنفيذ، والذي أقرّ في7 أيلول/ سبتمبر 2017، لا سيّما في مشاريع بنية تحتية ذات طابع استراتيجي مثل الكهرباء بما فيها الطاقة المتجدّدة، والنفط والغاز، والنقل بما فيه شبكة قطارات، والمياه بما فيها السدود والصرف الصحي، وتكنولوجيا المعلومات بما فيها الاتصالات. بما يسمح للمصارف التجارية ومصارف الأعمال وشركات التأمين وإعادة التأمين بلعب دور محوري في هذه الشراكة من خلال المساهمة برأسمال الشركات المتخصّصة بهذه المشاريع وبتمويلها.


• حادي عشر: تفعيل الشراكة مع دول اليوروميد (حوض البحر المتوسّط) بغية الاستفادة من خبراتها الفنية في الاستثمار والإنتاج والتسويق.
• ثاني عشر: الاستثمار في التعليم لتخريج كوادر وعاملين متخصّصين مُنتجين، ممّا يعني تشجيع ربط التعليم بسوق العمل.
• ثالث عشر: الاستثمار في اقتصاد المعرفة وتأمين مناطق تخصّص لهذا القطاع الواعد، تكون قريبة من بعض الجامعات التي يمكنها تطوير ذاتها في هذا المضمار.
• رابع عشر: تفعيل دور المرأة ليس فقط لاعتبارات إنسانية وأخلاقية واجتماعية، إنّما أيضاً لأن للمرأة دوراً محوريّاً في الحركة الاقتصادية، يساهم مباشرة في زيادة النمو الاقتصادي حجماً وتنوّعاً.
ولقد اعتبر صندوق النقد الدولي في مؤتمره السنوي في واشنطن خلال تشرين الأول/ أكتوبر 2017 بأن تفعيل دور المرأة في الحياة الاقتصادية يفترض أن يكون من أولويات الحكومات لمواجهة البطالة وزيادة الإنتاج وتحسين المستوى المعيشي للمجتمعات، لا سيّما تلك التي لا تزال في طور النمو.
• خامس عشر: مكافحة الفقر والتخلّف المفترض أن تكون من أولويّات إعادة بناء الدولة ومن الأهداف الاقتصادية الاستراتيجية للحكومة، فتتوسّع قاعدة الطبقة الوسطى التي هي الرافعة الرئيسية للتنمية المستدامة وللاقتصاد المُنتج والمؤنسن، وتزداد مناعة الوطن اقتصادياً وقدرته على مواجهة التحدّيات وعلى تحمّل وامتصاص الصدمات.
• سادس عشر: معالجة ملف الكهرباء في شكل نهائي وكامل من خلال إنجاز الخطط والمشاريع التي أقرّتها الحكومة عام 2010. وقد أجرى البنك الدولي دراسة حول هذا الموضوع منذ سنوات أظهر فيها بأن التأخير في تأمين الكهرباء رسمياً ينعكس سلباً على النمو الاقتصادي بما يتراوح بين 1 و1.5% سنوياً، وذلك علاوة على تأثيراته لناحية التلوث البيئي.
• سابع عشر: إرساء الأسس اللازمة لقواعد الحكومة الإلكترونية في إدارات الدولة ومؤسّساتها كافة، ومن ضمن خطّة شاملة للإصلاح الإداري بغية تبسيط إنجاز المعاملات وتسريعها تزامناً مع تطبيق اللامركزية الإدارية، لكن اعتماد الحكومة الإلكترونية يتطلّب تأمين الإدارة السليمة وإمكان اتخاذ القرارات اللازمة، وإقرار الموازنة العامة وانضباط المالية العامة، والحوار المستدام بين المسؤولين بحثاً للأفضل، والمستندات والأرشفة.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

• ثامن عشر: مكافحة الفساد بكل أشكاله وعلى مختلف المستويات واعتماد آليات واضحة تكرّس الشفافية في القطاعين العام والخاص، إذ لا نمو اقتصادي حقيقي ومستدام من دون مكافحة الفساد ومن دون تحقيق قدر عالٍ من الشفافية والحوكمة الرشيدة.
• تاسع عشر: مكافحة التهرّب الضريبي بكل أشكاله، بما يحسّن من إيرادات الخزينة اللبنانية بنسبة عالية ويؤمّن حدّاً أدنى من العدالة أمام القانون الذي يعتبر التهرّب الضريبي بمثابة جريمة مالية (القانون رقم 44 الصادر بتاريخ 24 تشرين الثاني/ نوفمبر 2015).
استناداً إلى كلّ ما تقدّم، نجد أن إطلاق الاقتصاد المُنتج والمؤنسن يفترض إزالة المعوقات واتباع مسارات حديثة وخلّاقة بغية تحقيق جزء إضافي وهامّ من النمو المستدام.
بذلك، نحدو باتجاه الاقتصاد الحقيقي، المتوازن مناطقياً وقطاعياً، المبدع والمؤنسن فتزداد الصادرات ويتقلّص الاستيراد، ويخفّف العجز التجاري بشكل مطّرد، ويزول الخلل في ميزان المدفوعات بالتدرّج، ويكبر حجم الاقتصاد وتتعاظم الثروة الوطنية، وتتحسّن أرقام المالية العامّة المفترض أن تبقى ضمن ضوابط محدّدة.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

علينا إذاً إعادة بناء اقتصادنا على أسس حديثة ومتينة، والاستفادة من ميزات لبنان التفاضلية بعد أن نحدّد هذه الميزات، لا سيّما المستوى العلمي المتقدّم، والموقع الجغرافي، ومرونة النظام الاقتصادي الحرّ، وفعالية النظام القضائي.
وعلينا أن نثق بالمستقبل لأنه واعد لاعتبارات عدّة، خصوصاً أن التوافق السياسي سترافقه إرادة صلبة للإصلاح ولتغيير الذهنية لناحية مقاربة موضوعية للاقتصاد الوطني والمالية العامة.
وكما قال ألبرت آينشتاين «لا يمكن اجتراح حلول ناجعة باعتماد أسلوب التفكير نفسه الذي أنتج المشاكل أو كان مسبّباً لها».
إنها معركة مصيرية ليتحرّر اللبناني من التبعية الاقتصادية، بعد أن تحرّرت أرضه، وبموازاة تحرّره السياسي، فتتدعّم ركائز الاستقلال وتتوطّد السيادة الوطنية وتأخذ الحرّية مضمونها الاجتماعي المتّصل بالكرامة الإنسانية.
وعلينا ألّا نخاف، لأن المعركة التي نخسرها مسبقاً هي تلك التي لا نقوم بها، كما قال فاتسلاف هافيل، رئيس سابق لجمهورية تشيكيا.

* رئيس لجنة القضايا الاقتصادية في المجلس الاقتصادي والاجتماعي