كلّ سنة، يستعدّ عدد كبير من الطلّاب في لبنان لمغادرة البلاد بهدف استكمال التحصيل العلمي في الخارج، وذلك بالطبع بعد أن يكونوا قد اصطفوا على أبواب السفارات لأشهر قبل الحصول على «التأشيرة». ليس هذا سوى مظهر واقع مفروض على الشباب اللبناني منذ عقود، إذ يُدفَع قسم كبير من جيل لترك وطنه بكثافة، بهدف تحقيق طموحات استكمال التحصيل العلمي والتخصّص في الدراسات العليا، وبالطبع محاولة توفير فرص عمل في الخارج، أو (ربّما) تحسين الشروط للعمل في لبنان، في ظلّ هذا النزف البشري المُتعاظم. لقد شهدت هذه الحركة ازدياداً لافتاً في السنوات الأخيرة، إلّا أنها باتت موضع تساؤل نتيجة التغيّرات الكبيرة التي يشهدها العالم والأزمات الاقتصادية والسياسية في الغرب تحديداً. فما هي أفق هذه الحركة، وما سيكون الانعكاس على واقع الشباب في لبنان؟
وجهة الطلاب؛ الأقطاب عديدة ومختلفة
تشكّل الدول الأوروبية، ولا سيّما فرنسا، الوجهة الأهمّ للطلاب في لبنان، وذلك لأسباب عدّة أهمّها النظام التعليمي وتشابه المنهج بين الجامعة اللبنانية والجامعات الفرنسية الرسمية (نظام LMD)، ما يسهّل عملية الانتقال دون عقبات تذكر (كمعادلة الشهادة أو خسارة أعوام دراسية مثلاً)، خصوصاً أن هذه العملية باتت منظّمة بشكل سهل نسبياً عبر موقع CampusFrance الرسمي التابع للجهات الفرنسية، وبات الطلاب يتناقلونها كثيراً ويكتسبونها ممّن سبقهم. أضف اللغة والكلفة المقبولة نسبياً للتحصيل العلمي في فرنسا (خارج العاصمة باريس وعدد من المدن كستراسبورغ مثلاً).
أنجل بوليغان ــ المكسيك

من الوجهات المعروفة أيضاً، الولايات المتّحدة الأميركية والمملكة المتّحدة، وهما في غالبية الحالات تمثّلان وجهة طلاب الجامعات التي تعتمد النظام الإنغلوسكسوني (كالجامعة الأميركية في بيروت والجامعة اللبنانية الأميركية)، وذلك نتيجة سهولة التبادل الأكاديمي كما اللغة.
الجدير بالذكر، أن وجهة الطلاب إلى روسيا عادت لتتصاعد في الآونة الأخيرة بعد أن تراجعت لفترة (لكنها لم تتوقّف بالمطلق)، خصوصاً مع عودة برامج المنح الدراسية وتصاعد وتيرتها بالتزامن مع الصعود الاقتصادي والسياسي لدول الشرق وعدد من دول أوروبا الشرقية (مثل بلاروسيا). واللافت في السياق نفسه، بداية بروز توجّه طلابي نحو الصين التي سطع نجمها في العلوم والتكنولوجيا والصناعة، وذلك عبر تقديم عدد من المنح. وأيضاً يوجد توجّه طلّابي نحو كوبا لدراسة الطبّ بشكل رئيس.

أسباب الرحيل معروفة
إنّ أسباب هجرة الشباب والطلاب في لبنان، كما أسباب تضخّمها في الآونة الأخيرة، معروفة وقد تُختصر بأزمة النظام اللبناني واقتصاد البلاد المتهاوي بنحو خطير، ولا سيّما في السنوات الأخيرة، ما ينعكس تكبيلاً لتطوّر التعليم والعلم في لبنان، ولا سيّما في الجامعة اللبنانية الرسمية، التي تتعرّض لتدمير مُمنهج منذ سنوات، لمصلحة الجامعات الخاصّة التي تدرّ الربح لبعض رجال المال والمصارف عبر القروض والفوائد، وتحصر التعليم في طبقة معيّنة من الطلاب وتحرم الفئات الأكثر ضعفاً وأقلّ دخلاً. أضف إلى ذلك، أنّ الدراسات العليا، ولا سيّما في علوم المادة والطبيعة، تعاني من قيود ضخمة نتيجة شحّ التمويل البحثي وغياب التكنولوجيا الضرورية في لبنان، ما يفرض على أطروحات الدكتوراه، في أحسن الأحوال، أن تكون ضمن برامج تعاون مع جامعات الدول المتقدّمة. وفي الوقت نفسه، يدفع هذا الضعف طلاب الماجيستير نحو الغرب لتنفيذ مشاريع التخرّج في مختبرات أكثر تطوّراً وإيجاد أطروحات دكتوراه مموّلة كلّياً.
إنّ الانخفاض المخيف لفرص العمل في لبنان، بما يعنيه ذلك من تدمير لآفاق الشباب ببناء حياة كريمة ومستقرّة في وطنهم، يدفع إلى البحث عن مسارات الهجرة لتأمين الحاجة إلى عمل وراتب، وتحقيق دور اجتماعي ومعنوي يطمحون إليه (ما لا يقلّ أهمّية عن الراتب والرعاية الاجتماعية والصحّية). وما زاد من حركة هجرة الطلّاب في الفترة الأخيرة، الإغلاق شبه الكامل لفرص الهجرة إلى الغرب بحثاً عن عمل بعد التخرّج من الجامعات اللبنانية، وهذا دفع الكثير من الشباب إلى الالتفاف على هذه القيود عبر الرحيل المبكّر والتخرّج من جامعات غربية لزيادة فرص إيجاد عمل في تلك البلاد. وعلى الهامش، لا يمكن الإنكار أن عدداً لا بأس به من الطلاب يسعى للرحيل إلى الخارج هرباً من الضغط الاجتماعي واليومي في لبنان، الناتج من ارتفاع كلفة الحياة، في ظلّ غياب البنية التحتية والخدمات والتنظيم والأمن والأمان، كما تفكّك العلاقات الاجتماعية والإنسانية، ما يؤدّي إلى القلق والتوتّر المستمرّ، كما الأمراض الجسدية والأزمات النفسية والاجتماعية.

هل يشكّل الرحيل حلّاً جذرياً؟
إنّ استمرار حركة الرحيل بشكلها الحالي وسهولتها النسبية ووتيرتها المرتفعة، بات موضع تساؤل وشكّ بعد أزمة 2008 الاقتصادية في الغرب، وما نجم عنها من انعكاسات سلبية في القطاعات كافّة. فإذا اعتبرنا أن الهجرة حلّ مطروح لفتح الأفق أمام مستقبل الشباب، فإنّ أحد أبوابه أغلق بُعيد الأزمة، وهو باب الهجرة بحثاً عن عمل في الغرب.
اليوم، بعد تطوّر الأزمة وتفاقمها في ظلّ غياب أي حلّ جذري من منطلق ليبرالي، بدأت النيران تلتهم القطاع الأكاديمي والتربوي. هذا الانعكاس السلبي للأزمة، الذي يؤدّي إلى تقييد التطوّر العلمي في الغرب وتكبيله، سينعكس بالضرورة على حركة هجرة الطلاب من لبنان ومختلف الدول المماثلة، وقد بدأ ذلك بالظهور عبر خفض عدد الاختصاصات التي يحقّ للطالب أن يترشّح إليها عبر موقع CampusFrance في مرحلة الماجيستير مثلاً (من 10 اختصاصات إلى 7)، وبالطبع قد يستمرّ هذا التقييد بنحو مباشر أو غير مباشر، في ظلّ طروحات السلطة الفرنسية الآخذة برفع معايير وشروط انتساب الطلاب إلى الاختصاصات، كما بزيادة شروط فتح الاختصاصات وفقاً للعدد. ومن جانب آخر، إنّ خفض تمويل البحوث سينعكس بالضرورة صعوبة في إيجاد منح لأطروحات الدكتوراه، ما سيدفع عدداً مهمّاً من الطلاب اللبنانيين إلى العودة إلى البلاد من دون تحقيق كلّ طموحاتهم في التحصيل الأكاديمي، ومن الممكن أن يؤدّي ذلك إلى خفض التعاون المشترك بين جامعات لبنان وجامعات الغرب، بما قد ينعكس على عدد أطروحات الدكتوراه المشتركة المرجّح أن تنخفض في هذه الحالة.
وفي جوانب أخرى، إنّ ارتفاع نسب البطالة في الغرب، وتراجع فرص العمل، سينعكسان سلباً على فرصة استقرار المغتربين في هذه البلاد، ولكن الأخطر يكمن في صعود الحركات القومية واليمينية المتطرّفة، كمظهر من مظاهر الأزمة الاقتصادية والسياسية الغربية، ما يمكن أن يؤدّي إلى تقييد أكبر لحركة الهجرة.

خلاصة
إنّ الأسباب المذكورة آنفاً، تنذر بأنّ منفذاً من منافذ الشباب في لبنان بات مهدّداً بالإغلاق، وهذا أحد أوجه الارتباط الدائم للاقتصاد اللبناني بالاقتصاد الغربي، وتأثّره السلبي به، حيث إنّ تراجع فرص الهجرة سيتزامن مع ارتفاع نسب البطالة في لبنان بشكل رهيب، كما ارتفاع نسبة انغلاق الأفق وبالتالي اليأس، وما يتبعه من أزمات اجتماعية ونفسية ستؤدّي إلى تفكّك المجتمع وتدميره بشكل أكبر. ووفق عالم النفس السوفياتي ألكسندر لوريا «إذا انهارت صورة المستقبل أو الهدف الماثل أمام العين والعقل، ينهار عقل الإنسان ويتخبّط نشاطه، فيسود عالمه التفكّك والفوضى العاطفية والفكرية».
تكشف مسألة هجرة الطلاب وآفاقها جانباً من الجوانب المظلمة للمنظومة المتناقضة في لبنان، أي النظام اللبناني الرأسمالي التابع، القائم على مراكمة الثروات في يد قلّة قليلة على حساب المجتمع بأكمله، والريع مقابل تدمير القطاعات المُنتجة، وتصدير الشباب والطاقات البشرية مقابل استيراد كلّ شيء آخر... ولا تبدو الخيارات كثيرة في ظل الأزمة القائمة اليوم، فإمّا التغيير نحو النقيض الاقتصادي والسياسي الذي يقوم على التوزيع العادل للثروة والاقتصاد المُنتج، وعلى بناء دولة قوّية قادرة على تأمين العلم والدور والقيمة لأبنائها، وإيجاد فرص العمل وتوفير الأمان والرعاية الاجتماعية والخدمات لشعبها، وإمّا المزيد من التفكّك والفوضى والانهيار.


رفع رسوم التسجيل على الطلاب الأجانب في فرنسا
في إطار سياسات تكبيل حركة الهجرة بهدف التعلّم، نشرت صحيفة «لو موند» الفرنسية يوم الاثنين 19 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي تقريراً بعنوان «جامعات: على الطلّاب الأجانب أن يدفعوا أكثر»، ولخّصت فيه استراتيجية رئيس وزراء فرنسا الحالي إدوار فيليب «الجذّابة للطلّاب الأجانب»، التي أعلنها خلال اللقاء الجامعي للفرنكوفونية، والتي تقضي برفع رسوم التسجيل الجامعية السنوية على الطلّاب خارج الاتحاد الأوروبي من 170 يورو إلى 2770 يورو لمرحلة الإجازة، ومن 243 يورو إلى 3770 يورو لمرحلة الماجيستير، ومن 380 يورو إلى 3770 يورو لمرحلة الدكتوراه. وعبّر فيليب عبر حسابه على تويتر عن «ثورية» استراتيجيّته التي «ستجعل جاذبية فرنسا قائمة على الخيار الحقيقي والرغبة الحقيقية والامتياز بدلاً من شبه المجّانية» على حدّ قوله، ثمّ أضاف في تغريدة لاحقة أنّ «الطالب الأجنبي الثري يأتي إلى فرنسا ويدفع الرسوم نفسها التي يدفعها الطالب الفرنسي الأقل ثراءً، الذي تقطن أسرته في فرنسا منذ سنوات وتعمل وتدفع الضرائب. هذا غير عادل». مضيفاً هاشتاغ بعنوان «أهلاً بكم في فرنسا». إنّ هذه السياسات المُجحفة والمصحوبة بشعارات متناقضة مع حقيقتها، لا تعبّر إلّا عمّا كان متوقّعاً: إفلاس النيوليبرالية والمركز الغربي، وتفاقم أكبر للتناقضات، وكسر نمط العلاقات التي سادت إبّان حقبة العولمة، وضغط وانفجارات اجتماعية أكبر في دول الأطراف التابعة.