تأسّست إنستغرام عام 2010، كمنصّة إلكترونية تقدّم خدمات مُتخصّصة لمشاركة الصور الشخصية ومقاطع الفيديو القصيرة، مع منح المستخدمين فرصة استعمال تقنية معالجة بعض مكوّنات الصور (ما أصبح يعرف اليوم بالفيلتر) وتعديلها. بداية، استهدفت المنصّة مستخدمي أجهزة الآيفون، ثمّ انتقلت لتقديم نسخة لحاملي الأجهزة التي تعتمد أنظمة التشغيل «أندرويد»، وبعدها انتقلت المنصّة لتقديم نسخة تستهدف مستخدمي الحواسيب التي تعتمد نظام التشغيل «ويندووز». عام 2015 انتقلت إنستغرام لتقدّم خدمة تحميل صور مُتعدّدة (أكثر من صورة في آن واحد)، بالإضافة إلى خدمة الرسائل القصيرة، وخدمة الإنستا ستوريز التي تُمحى تلقائياً خلال 24 ساعة. ويقدّر عدد مستخدمي المنصّة، ابتداءً من حزيران/ يونيو 2018، بنحو مليار مستخدم شهرياً وفق بيانات شركة ستاتيستا العالمية، وهي تُعَدّ اليوم من التطبيقات الأكثر نموّاً في العالم، وتأتي في المرتبة السادسة بعد كلّ من فايسبوك، ويوتيوب، وواتساب، وتطبيق ميسنجر لفايسبوك، وWechat. تقدّم إنستغرام خدماتها بـ49 لغة، تستثني العربية، ويمكنها استيعاب نحو 95 مليون صورة يومياً، ونحو 4.2 مليارات كبسة على زر الإعجاب في اليوم (تعود هـذه الأرقام إلى عام 2016، وتجمع المصادر المختلفة على أنها تخطّت حالياً عتبة 100 مليون صورة في اليوم الواحد). استحوذ فايسبوك على هذه المنصّة عام 2012، في صفقة قُدِّرت بنحو مليار دولار، وكانت إنستغرام، في حينه، بلا أي عوائد مادية وفقاً لـ«وول ستريت جورنال» (Raice, 2012 & Ante)، لترتفع قيمة الشركة نحو 35 ضعفاً عام 2014 وفقاً لمحلّلي «سيتي بنك»، ولتكمل منحى الارتفاع العمودي، وصولاً إلى نحو 100 مليون دولار بحلول عام 2018 (وفق تقديرات «بلومبرغ»).
يعتمد نموذج إنستغرام، تماماً كفايسبوك، على بيع مساحات إعلانية لتحقيق أرباح، هو بذلك يبني على قاعدة مستخدميه الآخذة بالاتساع. ففي الربع الأوّل من عام 2018، قُدِّرت العوائد المالية لإنستغرام من الإعلانات بنحو مليارَي دولار تمثّل 15% من إجمالي عوائد الإعلانات لشركة فايسبوك، التي تُقدَّر بنحو 13 مليار دولار، وفقاً لتقديرات نشرها موقع «recode»، نقلاً عن أحد المحلّلين الماليين Andy Hargreaves، الذي توقّع أن تصل النسبة إلى نحو 30% من عوائد الإعلانات لفايسبوك، وما نسبته 70% من إجمالي مصادر الدخل المُستجدة للشركة بحلول عام 2020.

بالأرقام

2
مليون مُعلن تقريباً يستخدمون إنستغرام للترويج لأعمالهم


25
مليون حساب تقريباً هي لشركات حول العالم


200
مليون مستخدم يزورون حساب أحد الشركات المُعلِنة يومياً


60%
من الناس يعتبرون أنهم يكتشفون مُنتجات جديدة عبر إنستغرام


3/1
من الإنستا ستوريز هي لحسابات الأعمال


أمام هذا المشهد، تصبح منصّة إنستغرام حالة نموذجية لمستقبل الشركات الرابحة بالدرجة الأولى ولأشكال جديدة من علاقات العمل. بداية، هي، كغيرها من شركات التطبيقات الحديثة نسبياً، تُعَدّ من النماذج الرأسمالية المُنتجة لقيمة مضافة من دون المرور بعلاقات إنتاج تقليدية. فرأس المال، هنا، يُستخدم لإنتاج سلعة مُحدّدة كخدمة التواصل عبر الصور. وهذا يحتاج لبناء أداة تقنية - منصّة إلكترونية - قادرة ومتمكّنة من إنتاج هذه السلعة واستهلاكها على المستوى الكلّي. بمعنى آخر، يمكنها استيعاب مئات الملايين من المستخدمين. في هذه المرحلة يمكننا الحديث عن علاقات عمل تقليدية بين أفراد يبيعون قوّة عملهم الإبداعي مقابل بدل، بغضّ النظر عمّا إذا كانوا عاملين بعقود ثابتة (وهذا مُستبعد كثيراً) أو بعقود استشارية كمتعاقدين مستقلّين.
لكن، في اللحظة التي أصبح فيها التطبيق مُتاحاً للعموم، يمكن ملاحظة شكل من علاقات العمل غير التقليدية، تقوم بين تطبيق إنستغرام والمستخدمين، والأفضل تسميتهم مُنتِجي المحتوى (الصور ومقاطع الفيديو والمحادثات القصيرة والإنستا ستوريز، وأخيراً، قنوات ما يعرف بتلفزيون إنستا)، إذ يقوم هؤلاء المنتجون بتمكين التطبيق الإلكتروني من تحقيق قيمته الاستخدامية (أي الجدوى منه) وتعظيم قيمته التبادلية (أي قيمته السوقية). وهذا ما يمكن ملاحظته مع تعاظم قيمة إنستغرام من مليار إلى 35 مليار دولار في سنتين.
من بين جموع المستخدمين، يمكن ملاحظة ثلاثة أشكال من مُنتِجي المحتوى:
المستخدمون بشكل عام، وهؤلاء كأقرانهم على منصّة فايسبوك، ينتجون محتوى بهدف تشاركه مع دوائرهم الاجتماعية، وقد يستخدمون معايير إنستغرام كاستعمال الوسومات مثلاً. يشكّلون الشريحة الأكبر، وهم منتجون ومستخدمون في الوقت نفسه، أو ما أصبح يُسمّى بالإنكليزية بالـProducers. فهؤلاء ينتجون ويستهلكون صوراً ومقاطع فيديو أنتجها أقرانهم.
مع الوقت، تمكّن قسم من هؤلاء من تجميع قاعدة متابعين مُلتزمة، أي تتفاعل مع المحتوى الذي ينتجه عبر الكبس على زر الإعجاب أو التعليق. ما أتاح ظهور فئة مختلفة من بين المستخدمين، التي أصبحت تعرف اليوم بالمؤثّرين الاجتماعيين (Influencers) الذين يُنتجون محتوى يتمكّنون من استبداله ببدل نقدي. وقد أصبح لهم عالمهم الخاصّ ووسائل تواصلهم وتمكينهم الخاصّة، وهم يتعاطون اليوم مع إنستغرام كالوسيط الذي يمكّنهم من بيع خدمة أساسية، وهي التأثير في الخيارات الاستهلاكية لغيرهم من المستخدمين. ونظراً لمحورية هذه الفئة، سنتوسّع لاحقاً (في الجزء الثاني من هذا المقال) في عالم العمل الخاصّ بالإنفلوينسرز.
أمّا الفئة الثالثة من المستخدمين، فيمكن تعريفها بكونها تتشكّل من مجموعة من الوافدين (يشكّل المحترفون جزءاً مهمّاً منها) إلى المنصّة، بهدف الاستفادة من فرصة الولوج المجّاني لسوق متنوّع ومتشعّب، يضمّ مليار مستخدم (ومُستهلك مُحتمل) من مختلف الأذواق والمناطق والأعراق، ومن دون أي عوائق قانونية أو جغرافية. هنا، نجد مصورين/ات، عارضي/ات الأزياء، مقدِّمي/ات خدمات جنسية، منتجي/ات مواد إباحية، مدرّبي/ات عل المهارات الحياتية، شركات ورجال وسيّدات أعمال، بالإضافة إلى الصحفيين/ات. مع هذه الفئة، يمكننا تسجيل بعض الملاحظات. فمع بداية تحوّل إنستغرام إلى وسيط يحلُّ مكان مؤسّسات تقليدية عدّة، فهو أصبح وكيل أعمال عارضي/ات الأزياء، ويمكّنهم من التعاطي المباشر مع المعلنين، ويعطيهم فرصة القفز عن الحاجة لوكالات التسويق التي تفرض عليهم عقوداً احتكارية قاسية في الكثير من الأحيان. وهو أيضاً وسيط مهمّ وآمن لمقدّمي الخدمات الجنسية (من الضروري الإشارة إلى أن الموقع لا يسمح بذلك، ولكنّ هؤلاء يستخدمونه منصّةً دعائية تُمكّن المستهلك من الاطلاع على الخدمات المُتاحة والوصول إليه عبر منصّات أخرى مُتخصِّصة). الملاحظ على سبيل المثال، أن الكثير من العارضين والعارضات يستخدمون المنصّة لنشر موادهم (بما يتلاءم مع معايير إنستغرام التي تفرض قيوداً على نشر مواد العُرِي) مع تقديم فرصة التواصل عبر طرف ثالث كموقع باتريون (Patreon) الذي يتيح للمستخدم رعاية عارضيهم بأقلّ كلفة مُمكنة. فعلى باتريون يمكن المستخدم شراء حقّ الوصول إلى محتوى إبداعي (صور - فيديو - ستوريز) ابتداءً من دولار واحد في الشهر، وصولاً إلى اشتراكات شهرية قد تصل إلى مئات الدولارات. ويمكن القيام بتقديم «هدايا» من بين لوائح لمنتجات يُحدِّدها العارض/ة، ويمكن شراؤها عبر موقع أمازون. كذلك يمكننا ملاحظة أثر هذه الظاهرة على عموم المستخدمين الذين يدفعون نحو هذه الخيارات اقتداءً بنماذج «ناجحة» في هذا المجال، مثل Scarlette Vixen Miss الكندية، التي تمكّنت من تسجيل دخل سنوي تخطّى 50 ألف دولار، عبر نشر صور قدميها فقط، وأصبحت مضرب مثل على المنصّة وأحد أبرز المؤثّرات في مجالها. هنا أيضاً، يمكن ملاحظة جانب مُظلم لإنستغرام، هو المرتبط باستخدامه وسيطاً لتغيير شكل صناعة الخدمات الجنسية في العالم، التي تشهد تطوّراً نوعياً مع التطبيق (قد نتطرّق إلى هذا الموضوع في مقال منفصل)، حيث يُدفع منتجو المحتوى إلى تقديم أي شيء لإرضاء المستخدمين والحصول على بدل نقدي. وكما في معظم الحالات، لا يمكننا تحييد عامل الاستغلال الذي تتعرّض له النساء تحديداً في هذه الصناعة. وقد دفعت هذه الظاهرة إدارة إنستغرام إلى اتخاذ تدابير عدّة لمنع الموقع من التحوّل إلى منصّة وسيطة للخدمات الجنسية بالمعنى العريض للكلمة.

* باحث في علم اجتماع العمل والتكنولوجيا