في أيار/مايو الماضي، حوّلت الحكومة اللبنانية العقد الموقّع مع شركة «J&P Avax» اليونانية، لإنتاج الطاقة في معمل دير عمار-2، من عقد أشغال إلى عقد BOT لمدّة 20 عاماً.يعود المشروع إلى عام 2013 عندما فازت الشركة بمناقصة لبناء معمل إنتاج طاقة بقدرة 569 ميغاواط بقيمة 470 مليون دولار. لتبدأ لاحقاً رحلة الانتكاسات: نشب خلاف حول مصدر تمويل المشروع (عبر سندات خزينة أو بقروض خارجية)، وتطوّرت الأمور إلى أن عُلِّق تنفيذه لعدم وضوح الجهة المُفترض أن تسدّد الـ TVA، وإن كانت هذه الضريبة مُحتسبة ضمن السعر الذي فازت الشركة على أساسه أم لا... بالنتيجة، أدّى سوء إدارة الملف إلى ترتيب أعباء مالية على الخزينة العامّة، بعد أن لجأت الشركة إلى المحاكم الدولية ورفعت دعوى ضدّ الدولة اللبنانية للمطالبة بتعويضات عن تأخّر الأشغال.
اليوم، تبرز تساؤلات عدّة حول شكل العقد الجديد ومضمونه. فالشركة اليونانية لم يعد بإمكانها تنفيذ العقد كونها تعاني من تعثّر مالي دفعها إلى التخلّي عن مشاريع عدّة في العالم. لكن في لبنان الوضع مختلف؛ دخلت الشركة في عملية لبيع أصولها وتحويل أجزاء من العقد إلى شركة حديثة المنشأ، لتكون الجهة المموّلة والمنفّذة لدير عمار-2!
فهل يجوز الاستمرار في التعاطي مع شركة هي غير الشركة التي فازت بالمناقصة أساساً؟
هل يجوز لمجلس الوزراء تغيير صيغة العقد الأساسي وشروطه؟ ألا يتحوّل إلى عقد رضائي يمنح الشركة امتيازاً من دون العودة إلى مجلس النواب كما تُلزم المادة 89 من الدستور؟
لمَ لم تطلق مناقصة جديدة؟وعلى أي أساس تمّ تقييم عرض الشركة واعتباره الأوفر طالما لم يوجد منافسون لها؟

صفر مخاطر وأعباء!
يُحدّد العقد سعر الكيلوواط/ ساعة بنحو 2.95 سنت (من دون سعر الفيول). وعلى مدار 20 عاماً، ستقوم الشركة ببيع الطاقة المُنتجة في المعمل إلى مؤسّسة كهرباء لبنان.
في المبدأ، يجدر بهذا السعر أن يشمل كلّ عناصر الاستثمار التي تُحدّد الجدوى الاقتصادية، بما في ذلك المعدّات (كلفة التحويل)، والصيانة والتشغيل، والأرض، والفيول... وهو ما يظهر بأنه سعرٌ منخفض. إلّا أن تفنيد تفاصيل الاستثمار يقود إلى خلاصة وحيدة: السعر المعروض يحقّق هوامش عالية من الأرباح.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

كيف؟ وفقاً لشروط العقد، لن تتحمّل الشركة تكلفة الأرض والفيول، وهما العنصران الأغلى في عملية إنتاج الطاقة. فالمعمل سيُبنى على أرض تملكها الدولة وستُمنحها للشركة مجّاناً طوال فترة العقد باعتبار أن المشروع هو استثمار عامّ، وكذلك ستؤمّن الدولة الفيول وتدفع ثمنه!
عملياً، تتيح هذه الشروط استرداد رأس المال المُستثمر خلال فترة قصيرة مقارنة بالمشاريع العاملة وفق تقنيات مشابهة. بمعنى آخر، سيستعيد المستثمرون 520 مليون دولار (470 مليوناً ثمن بناء المعمل في فترة قصيرة، مضافاً إليها، ومن دون أي تبرير، مبلغ 50 مليون دولار ستحصل عليها الشركة اليونانية لقاء سحب دعوى التحكيم الدولي)، وبما أن العقد سيمتدّ لـ20 عاماً، وهي فترة طويلة، فإن الإيرادات المُحقّقة خلالها، بعد استرداد كلفة الاستثمار، ستنطوي على ربح شبه صاف.
يُظهر هذا المسار أن كلفة الشراكة مع القطاع الخاص باهظة جدّاً وتتحمّلها الخزينة ودافعو الضرائب. وهو عكس ما يروَّج له داعمو الشراكة عن أنها نموذج يتيح تقاسم المخاطر بين الدولة وشريكها الخاص ويخفّض العجز ويقلّص الإنفاق. فطالما أن الدولة ستمنح الشريك الخاص أرضاً لبناء المعمل عليها، وتشتري له الفيول لتحويله إلى طاقة في المعمل، ومن ثمّ تشتري منه الطاقة المُنتجة لتبيعها إلى المشتركين وتحصّل منهم ثمنها، وتتحمّل وحدها مخاطر الهدر التقني في الشبكات المُتهالكة واحتمال تخلّف مشتركين عن الدفع، في حين لا يقوم الشريك الخاص سوى بتحويل الفيول إلى طاقة يبيعها للدولة بسعر يحقّق له الربح. كيف يكون تقاسم المخاطر، وكيف يخفّض العجز؟

أين المخرج؟
إذا كانت الشراكة مع القطاع الخاص أمراً لا مفرّ منه وفق «فلسفة سيدر» و«رؤية ماكينزي» بحجّة النهوض بالبلاد، فمشروع دير عمار-2 لا يمثّل النموذج الصالح لذلك ولا يُحدث الإصلاح المنشود.
فقط وجود إدارة استباقية شفّافة للعقود الخاصّة يمكن أن يحدّ من التبعات المُكلفة؛ بمعنى لو تمّت إدارة الملف بجدّية منذ البداية، لكان بالإمكان إجبار الشركة على مباشرة التنفيذ ومن ثمّ إيجاد حلول لموضوع الـ TVA، أو فسخ العقد ببساطة وإجراء مناقصة جديدة وعدم هدر الوقت وتكبيد الدولة خسائر بملايين الدولارات. أمّا حالياً، فتتطلّب حماية المصلحة العامّة، وحفظ دور الدولة كسلطة قرار ومرجعية لا كشريك تجاري، وسلوك طريق الإصلاح، اعتماد مبدأ المناقصات العمومية وفق نظام تنافسي واضح وشفّاف، يسمح بالحصول على أفضل المعايير التقنية وأفضل الأسعار، ويحدّ من المخاطر والأعباء.

* باحث في مجال الطاقة