لم تعد الحقائق قابلة للطمس. لا تمرّ الأرض اليوم في حركة مناخية دورية، بل يوجد تأثير واضح خلقه الإنسان في نمط إنتاجه، الذي ساد خلال مئتي عام مضت. الحياة الإنتاجية القائمة على الاستغلال المُفرِط للطبيعة والإنسان في خدمة الربح ورأس المال، أدّت إلى سيادة نمط اقتصادي يفرِّط في استهلاك الوقود والفحم الحجري بكمّيات هائلة لتوليد الطاقة اللازمة للحياة، من تدفئة ونقل وصناعة وإنارة وغيرها. وكذلك يفرِّط في قطع الغابات للتوسّع الزراعي وإنتاج الخشب وتوسّع العمران، وتربية الماشية في مزارع مولّدة لانبعاثات كثيفة من الغازات الدفيئة. لم يبحث الإنسان عن وسائل عيش مُستدامة تحفظ البيئة وتؤمّن استمرارية الحياة لسبب وحيد هو السعي وراء الأرباح الكبيرة لكبرى الشركات المتحكّمة بالاقتصاد العالمي، إذ إن أكبر شركة منها مسؤولة عن إنتاج 70% من الانبعاثات.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

المشكلة تكمن في أن الذين سيدفعون تبعات التغيّرات المناخية هم الدول النامية والشعوب الأكثر فقراً فيها، وليس أولئك الذين يتسبّبون بالجزء الأكبر من الانبعاثات، سواء الدول الكبرى أو الطبقات الاجتماعية الأغنى حول العالم. فارتفاع مستوى البحار سيحوّل مدناً كاملة في بنغلادش وأندونيسيا وجزر المحيط الهندي إلى مدن غارقة تحت سطح البحر. سيتحوّل عشرات الملايين من البشر إلى لاجئين. أمّا التصحّر فهو يتمدّد في القارة الأفريقية تحديداً، ويترك تداعيات كبرى على عشرات الدول من الأكثر فقراً في العالم، وسيحوّل أهلها إلى لاجئين مناخيين أيضاً. أمّا الظواهر المناخية المتطرِّفة، من حرّ وصقيع وفيضانات وأعاصير وغيرها، فستطاول الجميع، لكن مئات الملايين لن تكون لديهم أدوات المواجهة المادية الكافية في هذه الحالة. على العكس من ذلك، ستبقى الولايات المتّحدة والدول الأوروبية بمنأى نسبي عن هذه التغيّرات، وهي لديها الموارد الكافية للتعاطي معها، بما يضمن الأمن الاجتماعي فيها. ولعلّ خوف الدول الأوروبية اليوم، وسبب اهتمامها النسبي بالمقارنة مع الولايات المتّحدة في مكافحة الاحتباس الحراري، يكمن في حذرها من موجات اللجوء التي ستتسبّب بها هذه الظواهر المتطرّفة، وتحديداً التصحّر في منطقة شمال أفريقيا. فكما انعكست عليها الحروب والأزمات في المنطقة لناحية ارتفاع أعداد اللاجئين إليها، وأيقظت فيها مارد الفاشية العنصرية اليوم، ستنعكس أيضاً تداعيات الاحتباس الحراري الذي سيتسبّب بموجات هجرة متجدّدة.
كما أشرنا في الجزء الأوّل من هذا المقال إلى صعود تيّار الإنكار من جهة، وتيّار الحلول الفردية للأزمة البيئية الملحّة من جهة أخرى، يبرز تيّار سياسي قوي يريد تعمية هوية المسؤول الفعلي عن الأزمة البيئية، وإلقاء اللوم على الآخرين، ووضعهم في موقع المسؤولية أيضاً بهدف استغلال الأزمة سياسياً لمحاصرة دول صاعدة منافسة ووضع العوائق في طريق تقدّمها وتدفيعها تكاليف أكبر من حصّتها الحقيقية من مسبّبات الأزمة. فمع صعود الصين والهند وعدد من الدول النامية الأخرى مثل أندونيسيا والبرازيل وباكستان وغيرها، والتي توجد فيها أعداد سكّانية ضخمة، ودخولها نادي الدول الصناعية والمُنتجة، ازداد إنتاجها الفعلي من الغازات الدفيئة وتخطّى بعضها دولاً صناعية كبرى أخرى. وبالفعل إذا أخذنا كمّية الانبعاثات الكلّية التي تنتجها كل دولة، تحتلّ الصين اليوم المرتبة الأولى وتليها الولايات المتّحدة الأميركية على المستوى العالمي. لكن هل هذا هو المعيار الصحيح والعادل لتحديد المسؤوليّات، ومن يجب أن يتحمّل ماذا؟
في الواقع، هناك أربعة معايير أدقّ من هذا المعيار المُسطّح العام.

70%

من انبعاثات الغازات الدفيئة في العالم ناتجة عن عمل شركة واحدة من كبرى الشركات المتحكّمة بالاقتصاد العالمي


المعيار الأوّل، يقول بأن نسبة الانبعاثات يجب أن تقاس بالنسبة إلى الفرد وليس بالمجموع العام، إذ لا يمكن تقييد دول يبلغ عدد سكّانها مئات الملايين، أو مليارات بحالة الصين والهند، ومقارنتها بدول لا يصل عدد سكّانها إلى ربعها أو عُشرها مثلاً. وعند احتساب معدل الانبعاثات بالنسبة إلى الفرد، تأتي بعض دول الخليج العربي في مقدّمة الترتيب، ومعها الولايات المتّحدة الأميركية وكندا في مقدّمة اللائحة، فيما تأتي الصين وبعض الدول الأوروبية في منتصفها تقريباً.
المعيار الثاني، يرتبط بالتراكم التاريخي الذي حقّقته كل دولة في بثّ الانبعاثات، إذ تقوم بعض الدول الرأسمالية بهذه العملية منذ نحو مئتي عام بعد انفجار الثورة الصناعية في أوروبا وانتقالها إلى أميركا، أمّا الدول النامية فلم تدخل إلى نادي الانبعاثات سوى منذ عقدين على الأكثر، وبالتالي لا يمكن محاسبتها على ما تنتجه اليوم، بل على مجموع ما بثّته كل دولة تاريخياً كي لا يصار إلى استعمال هذا المعيار كمعوّق فعلي للدول النامية التي تدخل حديثاً إلى التصنيع والنموّ الواسع. وهذا المؤشّر يضع دول الغرب الصناعية، وعلى رأسها الولايات المتّحدة وبريطانيا، في مقدّمة الترتيب.
المعيار الثالث، هو معيار طبقي داخل كل دولة وعلى مستوى العالم، فالانبعاثات سببها الرئيسي نمط عيش استهلاكي معيّن عند فئة محدّدة من الناس تقوم على البذخ والصرف والسفر وشراء ما له وما ليس له حاجة من طعام فائض وملبوسات وسيّارات ذات محرّكات كبيرة ويخوت وغيرها، وبشكل مفرط، فيما يعيش آخرون على استهلاك ما يسدّ رمق جوعهم. الفئة الأولى هي المسؤولة الفعلية عن كمّيات الانبعاثات الكبرى، فيما الآخرون يدفعون الأثمان فقط لا غير.
المعيار الرابع، يقوم على احتساب كمّية الانبعاثات التي أنتجها البلد، يضاف إليها ما يستورده من سلع صُنعت على أراضي دول أخرى. هذا يعني على سبيل المثال أن معدل انبعاثات بريطانيا اليوم تدنّى عمّا كان عليه قبل ثلاثين عاماً، لكن ذلك حصل ليس بسبب تغيّر أنماط الاستهلاك، بل لأن جزءاً كبيراً من صناعاتها انتقل إلى خارج الحدود وصار متمركزاً في الصين أو الهند، لكنه ينتج للسوق الداخلية البريطانية، وهذا يعني أنه يجب احتسابه ضمن الانبعاثات التي ينتجها البريطانيون، لا الصينيون أو الهنود، لتصبح بالتالي معدّلات الدول الغربية من الأعلى على مستوى العالم من حيث مسؤوليّتها عن الانبعاثات، التي أدّت إلى خلق مواد الاستهلاك النهائية التي استعملت على أراضيها. وبالتالي يرتبط هذا المعيار فعلياً بنمط الحياة الاستهلاكي لكل مجتمع وما ينتجه من تلوّث وغازات دفيئة على مستوى الكوكب.
ومع اعتماد هذه المعايير الأربعة، تبرز فعلياً الفئة المسؤولة عن تدمير الكوكب اليوم، وهي الفئة التي يجب أن تتحمّل مسؤولية إنقاذه أيضاً. الدول الرأسمالية الكبرى هي الأكثر تلويثاً بقيادة الولايات المتّحدة، وتحديداً الفئات الثريّة داخلها، فيما لا تزال حصّة الدول النامية وشعوب العالم الأخرى هامشية في مسار تدمير الحياة على سطح الأرض، على الرغم من أنها هي من يدفع أعباء تداعياته السلبية.
يظهر الجدول المرفق حصّة الفرد من الانبعاثات في الدول الكبرى، ويظهر أيضاً توزّع تلك الانبعاثات بين الطبقات داخل كل مجتمع، حيث توفّرت معلومات إحصائية عن ذلك، وقد أعدّته منظّمة «أوكسفام» ونشرته على موقعها. إذ جرى تحديد معدّل الانبعاثات للفرد عند الطبقة الغنية (10% الأكثر ثراءً)، والمتوسّطة (50% التي تليهم) والفقيرة (40% الأفقر)، وتظهر الدراسة بشكل واضح أن المنحى ذاته موجود في كل الدول المشمولة بالدراسة، إذ تتحمّل الطبقة الأغنى القسط الأكبر من الانبعاثات داخل كل دولة، وبنحو عشرة أضعاف من الفئات الأفقر. كما تظهر أن الطبقة الغنية الأميركية هي الأكثر تدميراً للكوكب وبأضعاف عدّة عن الطبقات الغنية في الدول الأخرى، وعن المعدّل العام في بلادها. أمّا على صعيد المعدّل العام، فالولايات المتّحدة وكندا في الريادة، فيما لا تزال الدول النامية الصاعدة، قياساً إلى عدد سكّانها، في مؤخِّرة الدول الملوّثة بين الدول الصناعية الكبرى.

الدول الرأسمالية الكبرى هي الأكثر تلويثاً وتحديداًالفئات الثرية داخلها


تبيّن دراسة «أوكسفام» توزّع المسؤوليّات ودرجاتها، على الرغم من أنها لا تأخذ المنحى التاريخي التراكمي الذي يزيد من مسؤوليّة الفئات نفسها. فأثرياء العالم الذين ينامون على ثروات متراكمة متوارثة هم الأكثر تلويثاً، فيما الفقراء يدفعون ثمن جريمة لا يد لهم فيها. نظام الاستهلاك والربح السريع واللامساواة والفروقات الطبقية المتزايدة هو نفسه نظام تدمير البيئة وتدمير الكوكب، مهما حاولت فعله تيّارات الإنكار والحلول الفردية وتحميل المسؤولية للآخرين. أمّا في لبنان، فعلى الرغم من غياب الدراسات الدقيقة حول هذه المسألة، إلّا أن مسؤولية النظام والمسؤولية الطبقية عن التلوث وعن الانبعاثات لا تخرج عن المنحى الدولي العام. نحن دولة لا قطاع نقل عام فيها، حيث تكاد تغرق بأعداد سيّاراتها، وكهرباؤنا مُنتجة من المازوت الأكثر تلويثاً، سواء في القطاع العام أو في المولّدات الخاصّة الموازية. ووسط استمرار طمر النفايات في الجبال والشطآن، وطمر المسؤولين رؤوسهم في الرمال، لا بدّ من دق نفير الخطر البيئي، والبحث بسياساتٍ وبضرائب بيئية تحمي الطبيعة وتعود بالنفع على الميزانية المُتهالكة في الوقت نفسه.
تظهر اليوم طروحات جديدة وجدّية على مستوى العالم من أجل العدالة البيئية من منطلقات مُرتبطة بمسألة اللامساواة والعدالة الاجتماعية، لتطرح ضرورة تغيير المسار، سواء لناحية فرض الضرائب البيئية على كبار المستهلكين والملوثين، أو لناحية الطروحات الأكثر جذرية باتجاه التغيير الشامل لبنية المجتمع والنظام الاستهلاكي الرأسمالي غير المُستدام، وبلدنا ليس استثناءً.