سامي عطالله
* مدير المركز اللبناني للدراسات


نانسي عز الدين
* باحثة في المركز اللبناني للدراسات

تراجعت الصادرات اللبنانية في السنوات القليلة الماضية من 5 مليارات دولار عام 2012 إلى 3.9 مليار في 2017. وقضى هذا التراجع على بعض المكاسب التي حقّقتها الصادرات بين عامي 2000 و2011، عندما ارتفعت خمسة أضعاف في تلك الفترة. إلّا أن الصادرات، على الرغم من تراجعها، ما زالت متنوّعة بشكل جيّد. تفيد الإحصاءات أن لبنان صدّر 1147 منتجاً من 15 قطاعاً إلى 172 دولة في عام 2017. وبالمقارنة مع الدول العربية والدول الأعلى دخلاً، يعتبر سجلّ لبنان في إنتاج العديد من المنتجات وتصديرها إلى العديد من الأسواق مثيراً للإعجاب، لا سيّما في غياب سياسة صناعية. فعلى سبيل المثال، صدّرت كوستاريكا في عام 2017 نحو 824 منتجاً إلى 108 بلدان، فيما صدّرت كرواتيا 1052 منتجاً إلى 130 بلداً، والأردن صدّر 895 منتجاً إلى 157 بلداً.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

ولكن، صحيح أن التنويع جزء أساسي من التطوير الصناعي، إلّا أنه ليس كافياً. وما يبدو أنّه الأهم للاقتصادات من أجل تحقيق نموّ وإجراء تحوّل بنيوي، هو صناعة منتجات أكثر تطوّراً، بما يفسح المجال أمام وظائف أفضل ونموّ أكثر استدامة. وبناءً على عمل البروفيسورَين رودريك وهاوسمان من جامعة هارفرد، لا تنمو الدول وتصبح ثريّة من خلال إنتاج المجموعة نفسها من المنتجات، بل من خلال الانتقال إلى نشاطات إنتاج جديدة مبتكرة ومتطوّرة ومعقّدة عبر مراكمة القدرات والمعرفة. وهذا بالضبط ما يجدر بالمرء التفكير به عند السعي إلى تطوير القطاع الصناعي وتعزيز صادراته.

موقع لبنان على مؤشّرات التعقيد الاقتصادي
يمكن تفصيل التعقيد الاقتصادي لأيّ بلد من خلال مؤشرَين: عدد المنتجات المختلفة التي يصدّرها بلد ما (أي التنويع)، ومدى انتشار المُنتج (أي عدد الدول التي تصدّره). وفي حين أن المؤشر الأول واضح لا يحتاج إلى شرح، إلّا أن الثاني أكثر دقّة. فعلى سبيل المثال، المنتجات التي تتطلّب صناعتها بعض المعرفة/ القدرة تُصدّر إلى العديد من البلدان في العالم وتعتبَر أقل تعقيداً. ومن هذه المنتجات الخشب وبعض منتجات الأغذية الزراعية. في المقابل، يتمّ تصدير المنتجات التي تحتاج إلى معرفة متقدّمة ودراية إلى بعض الدول في العالم وتعتبر أكثر تعقيداً. وتتضمّن مثلاً الآلات والمعدّات الكهربائية. وستتمكّن الدول، التي تتمتّع بمعرفة ودراية وإنتاجية أكثر تنوعاً، من صناعة المزيد من المنتجات الفريدة لتحسين مكانتها في السوق العالمية.
إذا نظرنا إلى موقع لبنان لجهة التعقيد الاقتصادي، نلاحظ أن صادراته عند مستوى أدنى مائل إلى المتوسّط. وبعيداً من ظاهر الأمور، من المهمّ الإشارة إلى ما يلي:
أولاً، بناءً على مؤشّر التعقيد الاقتصادي، حقّقت الصادرات اللبنانية مكاسب لجهة تطوّرها بين عامي 1995 و2014، ولكنّها بدأت منذ ذلك الحين بالتراجع مقارنة بدول أخرى. وحالياً، يحتل لبنان المرتبة الستين بين 130 بلداً لناحية تعقيد الصادرات.
ثانياً، استطاع لبنان أن يصدّر 38 من أصل 100 منتج أكثر تعقيداً إلى العالم عام 2017، بقيمة تصدير تجاوزت 100 ألف دولار لكلّ منتج من هذه المنتجات. وتشمل هذه المنتجات الآلات ومنتجات الصناعات الكيماوية مثل آلات إنتاج المطاط أو البلاستيك ومكابس ضغط الاشتعال الدولية ومضخّات الهواء أو التفريغ.

إمكانات التصدير غير المستغلّة
في حين تشكّل الآلات والمنتجات الكيماوية 24% من الصادرات اللبنانية، فإن 1.5% فقط منها تُعتبر منتجات عالية التعقيد. ويؤشّر إنتاج هذه السلع المصنّعة إلى أن البلد لديه قدرة معيّنة ودراية تسهّل عملية التطوير والابتكار.
تقدّر إمكانات التصدير التراكمية وغير المستغلّة لكلا القطاعين - الآلات والمواد الكيماوية - بنحو 300 مليون دولار. وتحوز الصادرات الفعلية للآلات على 36% فقط من الإمكانات الإجمالية مقابل 50% للمواد الكيماوية. وتشمل المنتجات ذات الإمكانات الأعلى غير المستغلّة أجهزة التوليد (إمكانات غير مستغلّة قدرها 75 مليون دولار)، والسوبرفوسفات (20.4 مليون دولار)، والمحوّلات (20.8 مليون دولار)، وحمض الفوسفور (18 مليون دولار)، والموصّلات الكهربائية (17 مليون دولار)، وآلات المخابز (13.7 مليون دولار)، والأصباغ (10 ملايين دولار).

300 مليون دولار

هي القيمة التقديرية لإمكانات التصدير التراكمية غير المستغلّة في قطاعي الآلات والمواد الكيماوية


يتمتّع قطاع الآلات بأعلى الإمكانات غير المستغلّة، تبلغ قيمتها 205 ملايين دولار تتوزّع في أنحاء العالم. والإمكانات الأعلى موجودة في السعودية (25 مليون دولار) تليها عُمان (15 مليون دولار) والجزائر (13.8 مليون دولار) وبنغلاديش (13.6 مليون دولار) ومصر (13.5 مليون دولار) ونيجيريا (9.3 مليون دولار). غير أن ثمّة إمكانات غير مستغلّة أيضاً في أكثر من 28 بلداً موزّعاً على: 8 بلدان في الشرق الأوسط و7 في أوروبا و7 في أفريقيا وبلدان في أميركا الشمالية وبلدان في آسيا الوسطى.
تحتفظ المنتجات الكيماوية بإمكانات غير مستغلّة تبلغ قيمتها 92 مليون دولار. وتقدّم صادرات هذه المنتجات فرصة لتنويع النطاق الذي يمكن أن تبلغه الصادرات اللبنانية من خلال اختراق أسواق مثل بنغلاديش والبرازيل وهولندا. ولكن تبقى أكبر الإمكانات غير المستغلّة للمنتجات الكيماوية في بعض الدول العربية - السعودية (16.9 مليون دولار)، ومصر (4.8 مليون دولار)، والكويت (2.4 مليون دولار). ولكن هناك فرصة أيضاً مُتاحة في غرب أفريقيا (ساحل العاج 3.2 مليون دولار، وغانا 2.7 مليون دولار، ونيجيريا 2.4 مليون دولار)، وأوروبا (هولندا 2.8 مليون دولار، وبلجيكا 1.7 مليون دولار، وإسبانيا 1.4 مليون دولار)، وآسيا (بنغلاديش 7.3 مليون دولار، والهند 2.3 مليون دولار، وإندونيسيا 1.6 مليون دولار) والولايات المتّحدة (3.5 مليون دولار)، والبرازيل (2.7 مليون دولار)، وبلدان أخرى.

الصناعات اللبنانية بحاجة إلى دعم واسع
لا تكمن أهمّية هذه المنتجات في أننا نقوم بتصديرها حالياً فحسب (ويمكننا ربّما أن نعزّز صادراتها)، بل أيضاً لما لذلك من آثار على التحوّل الهيكلي داخل القطاع. بمعنى آخر، يمكن لتحسين إنتاج هذه المنتجات أن يمهّد الطريق لتصنيع منتجات معقّدة أخرى، لا سيّما في مجال الآلات والمعدّات الكهربائية ومجال الصناعات الكيماوية، من خلال مراكمة القدرة والخبرات. بمعنى آخر أيضاً، إن ما يعطي هذه المنتجات جاذبيتها هو قيمتها الاستراتيجية بالنسبة إلى القطاع. واستناداً إلى دراسة للمركز اللبناني للدراسات (حيث المنتجات المصدّرة مترابطة بناءً على قدراتها)، يمكن أن يؤدّي تحسين المنتجات المعقّدة المنتجة حالياً إلى إتاحة الفرصة لإنتاج 21 منتجاً جديداً في مجال الآلات والآلات الكهربائية، وكذلك في أربعة مجالات في الصناعات الكيماوية و«الحليفة». وهذه المنتجات هي آلات مختبرات للتدفئة وموزّعات سائلة وآلات لصناعة مشتقّات الحليب والأسمدة الكيماوية وآلات الحصاد والأدوية المعلّبة وغيرها.

استطاع لبنان أن يصدّر 38 من أصل 100 منتج أكثر تعقيداً إلى العالم عام 2017، بقيمة تجاوزت 100 ألف دولار لكلّ منتج


يجب أن يشكّل هذا النوع من التحليل الأساس لوضع سياسة صناعية تركّز على تطوير المعرفة المطلوبة لهذه القطاعات الفرعية المُحدّدة من أجل الاستفادة من إمكاناتها. ويعتبر التنويع نحو إنتاجات معقّدة، عملية طويلة تتطلّب دعم الصناعات القائمة لتبلغ أقصى إمكاناتها وتراكم المعارف والقدرات الإنتاجية لتسهيل المزيد من الابتكار والتنويع نحو منتجات «مشابهة». وتحتاج الصناعات اللبنانية إلى دعم واسع لتتمكّن من بلوغ هذه الإمكانات وتعزيز الابتكار والتطوير.
تقف التكاليف المرتفعة للإنتاج حجر عثرة أمام تقدّم القطاع الصناعي في لبنان، ولكن الصناعيين يواجهون مجموعة واسعة من التحدّيات الأخرى التي يمكن معالجتها. وبالفعل، وعلى الرغم من قدرة لبنان العالية على الابتكار وتوفّر العلماء والمهندسين، يفتقر هذا البلد إلى الدعم في مجال البحث والتطوير وإلى إنفاق الشركات عليه وتعاون الجامعات والقطاعات المختلفة فيه، وكذلك شراء الحكومة المحدود لمنتجات التكنولوجيا المتقدّمة. لذلك ينبغي أن يركّز دعم ابتكار القطاع على تسهيل البحث والتطوير والوصول إلى التكنولوجيا الجديدة.
يتمتع قطاع التصنيع في لبنان بإمكانات تصدير جدية، تبرهنها القدرة الإنتاجية الحالية والدراية الفنية. لذلك يجب أن تتعاون الحكومة مع جمعية الصناعيين اللبنانيين للاستفادة من هذه الإمكانات، بدلاً من تجاهلها. وعلى الرغم من أن ذلك سيكون عملية طويلة، إلّا أن الدعم يجب أن يسهّل استراتيجياً تراكم المعرفة والقدرات ونقلها وأن يضمن المزيد من الابتكار والتعقيد في الإنتاج.
ترجمة لمياء الساحلي