دخلت السيّدة ذات القامة الممشوقة والأناقة الباريسية إلى القاعة الصغيرة. وجاءت جلستها بجانبي في الصفوف الخلفية. كان ذلك في عام 2005، في هونغ كونغ، خلال اجتماع منظّمة التجارة العالمية. كانت مجموعة من أربع دول أفريقية قد دعت إلى تلك الندوة للحشد والتعاطف حول قضيّتها العادلة. وزراء وناشطون من منظّمات مجتمع مدني وفلّاحون اجتمعوا على قلب واحد: إنهاء الظلم العالمي الواقع على تلك الدول الفقيرة. كان الشرير في تلك القصّة هو الولايات المتّحدة الأميركية. فهي تطالب الدول النامية بشطب كل أنواع الدعم للزراعة. ولكنّها تقدّم دعماً سخيّاً لـ15 ألف مزارع أميركي يمكّنهم من إغراق السوق العالمي بقطن زهيد الثمن، ليحلّ محل القطن الذي يعتمد عليه بالكامل اقتصاد أربع دول أفريقية، وهي بنين، ومالي، وبوركينا فاسو وتشاد. الضحايا بالملايين، تراجعت مستويات معيشتهم وخصوصاً المزارعين.
صارت القضية رمزاً لتغييب العدالة في التجارة الدولية بسبب صلف وتعنّت الدول الكبرى.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

كلّما تكلّم أحد المدافعين عن القضية، نظرت - تارة بحماس وتارة بعينين مملوءتين بالدموع - إلى السيّدة الجالسة بجانبي. وكانت تبادلني النظرات المتعاطفة. كشفت بطاقتها أنها كريستين لاغارد، وزيرة تجارة فرنسا آنذاك.
ما تعلّمته من تلك الاجتماعات هو أن ممثّلي الدول المتقدّمة هم ليسوا ممثّلين لبلادهم - بل هم ممثّلو الشركات العملاقة، التي تسعى لتعظيم أرباحها ولو على حساب البشر والبيئة. لذا بدا وجودها في تلك الجلسة متعارضاً مع كلّ ما تمثّله.
وبالفعل، بحث قصير أشار إلى أن السيدة بدأت عملها كمحامية مدافعة عن الاحتكارات حتّى وصلت إلى منصب رئيسة مجموعة بيكر وماكنزي للاستشارات والمحاماة، أحد رؤوس الحربة لعولمة الشركات العملاقة.
ظلت صورتها المتعاطفة في قلبي حتى عام 2011، حين تولّت رئاسة صندوق النقد الدولي، في لحظة يموج بها العالم بنداءات التغيير، بقيادة دول عربية ثارت طلباً للحرّية والعدالة الاجتماعية. كان العالم المُتقدّم يحاول الخروج من أزمة طاحنة تسبّب فيها النموذج الاقتصادي السائد.
هل أتفاءل بتولّيها المنصب قياساً إلى نظرتها المتعاطفة التي خبرتها أم أتشاءم بناءً على سيرتها الذاتية؟

الصندوق يتجمّل
بعد عام 2008، تدهورت سمعة المؤسّسات الثلاث المنظّمة للاقتصاد العالمي، أي صندوق النقد الدولي، البنك الدولي ومنظّمة التجارة العالمية. وامتنعت معظم الدول النامية عن الاقتراض من صندوق النقد، الذي ضربته الأزمة في مقتل: فهو المتهم الأوّل، إذ أنه المنوط بحفظ استقرار الاقتصاد العالمي والتنبّؤ بالأزمات المالية والنقدية، وقد فشل فشلاً مبيناً في كلتا المهمتين.
هبّت لاغارد لاستكمال تبييض سمعة المؤسّسة التي ترأستها، بعد تغيير طفيف أعطى للصين وللسعودية وزناً نسبياً أكبر - في حصص الدول التي تشارك في التصويت على قرارات الصندوق، لكنّه لا يغيّر موازين القوى. استكملت المؤسّسة النقدية العالمية مجموعة من الدراسات أهّلت لمراجعات فكرية: خطاب جديد عن أضرار اللامساواة، وعن أهمّية فرض الضرائب على الأغنياء، وعن أهمّية النموّ الودود للفقراء، وعن أهمّية الحدّ الأدنى للأجر. وعن الأدوار التي يجب أن تلعبها البنوك المركزية في تنظيم أسواق المال والنقد، وعن أهمّية عجز الموازنة في حفز النموّ الاقتصادي.
كلّ تلك كانت من قبيل هرطقات الاقتصاديين اليساريين البائدين. صارت أبحاث الصندوق تدعو إليها. ولكن اتسعت الهوّة بين الأقوال والأفعال.
من وجهة نظر النظام العالمي المأزوم، نجح الصندوق في تخطّي النظرة السلبية إلى دوره، بقيادة لاغارد. وفق التقرير السنوي للصندوق 2018، وإلى جانب مضاعفة حصص الدول الأعضاء، في عام 2016، بلغت محفظة قروض الصندوق 182 مليار من حقوق السحب الخاصة (1 ح. س. خ= 1.4 دولار أميركي)، يستفيد منها 40 مشاركاً خلال الفترة من تشرين الثاني/ نوفمبر 2017 ولخمسة أعوام. إضافة إلى ترتيبات الإقراض الثنائية لـ40 من الدول الأعضاء، بمبلغ 310 مليارات من حقوق السحب الخاصّة. كما تضاعفت القروض غير الميسّرة خلال عام 2009 ولامست 20 ملياراً، إلى أن وصلت إلى أعلى مستوى لها بين عامي 2012 و2015، وناهزت المئة مليار لتنخفض مجدّداً إلى نحو 40 مليار ح. س. خ خلال السنوات الأخيرة. مصائب المقترضين عند الدائنين فوائد.

لاغارد تتحدّث عن مصر
حين وقفت لاغارد في شرم الشيخ تدعو مصر إلى الاقتراض منها في عام 2015، مندِّدة بالفساد وبالنموّ غير القائم على خلق الوظائف ولا يتوخّى المساواة، عادت صورتها الأولى إلى قلبي لتزاحم عقلي.
لم تنعكس المراجعات الفكرية سوى قليلاً على السياسات التي دفع بها الصندوق في برامجه مع الدول التي عادت مضطرة إلى الاقتراض من الصندوق. وألحظ أن تلك المراجعات انعكست على توصيات الصندوق إلى الدول المتقدّمة أكثر منها تلك المقدّمة إلى الدول النامية. هل هذا بسبب ما قاله لي أحد كبار الموظّفين في أحد تلك المؤسّسات الدولية من أن أفضل طواقم الخبراء تذهب إلى الدول المتقدّمة - أصحاب أكبر الحصص في تمويل الصندوق؟ لا مكان للجزم هنا. ولكن ما لا يستطيع عقلي إغفاله هو ما حدث في حالة اليونان.
رفض الصندوق مع شركائه في الترويكا - الثلاثي المؤلّف من الصندوق والاتحاد الأوروبي والبنك المركزي الأوروبي - إسقاط أي قدر من ديون قديمة، ومارس من الوعيد على الحكومة اليونانية ما اضطرها في النهاية لقبول اتفاق أدّى إلى انكماش الاقتصاد وفقدان ملايين الوظائف، وتقشّف مالي في الإنفاق الاجتماعي مثل تقليص المعاشات والأجور الحكومية من أجل توجيه الموارد إلى سداد القروض. وتكرّر البرنامج في إسبانيا وإيرلندا والبرتغال وقبرص.
دافع صندوق لاغارد عن نموذج هشّ متحيّز للبنوك وأصحاب الثروات، معرّض للأزمات المالية ومدمّر للبيئة


ولكن، لعلّ مصر مختلفة، فأزمتها طفيفة عارضة مقارنة باليونان، كما أن الربيع العربي ربما لفت النظر إلى خطأ مساندة أنظمة لا تتوخّى العدالة الاجتماعية والحوكمة الرشيدة. ألم يوافق الصندوق في عام 2011 على برنامج توسّعي قدّمته مصر - والفضل يرجع إلى سمير رضوان وزير المالية آنذاك وللثوّار المطالبين بالعدالة الاجتماعية في الشارع - يقضي بزيادة العجز في الموازنة العامّة من أجل التوسّع في الإنفاق الاجتماعي وزيادة الضرائب على الأغنياء. لعلّ الآتي خير؟
لم تمر سوى أشهر على خطبة لاغارد في مصر، حتى تمّت إدانتها في فرنسا في عام 2016، بتهمة الإهمال (في الحفاظ على المال العام)، حين وافقت وقت عملها كوزيرة المالية بتعويض بملايين اليوروهات من الخزانة العامّة لصالح رجل أعمال. ولكن نظراً إلى وظيفتها الدولية المرموقة، قرّرت المحكمة عدم فرض أي عقوبة عليها.
لا عقوبة فلا عواقب. بقيت لاغارد على رأس الصندوق لفترة ثانية. وبعد ذلك بشهور، وافقت على قرض لمصر.
وتصادف بعد ذلك بشهور أن التقيت السيّدة في واشنطن في اجتماعات البنك والصندوق، في اجتماع ضمّ المئات من منظّمات المجتمع المدني حول العالم، كانت الأسئلة عن دور المؤسّستين في مكافحة التهرّب الضريبي عبر الملاذات الضريبية. وكانت إجاباتها على الأسئلة الناقدة ذكيّة واعتذارية (على عكس رئيس البنك الدولي الذي بدا غير ملمّ - أو غير مبال). الناس ليسوا أشراراً بالكامل أو أخياراً بالكامل... هكذا حدثت نفسي وقتها.

مصر تتحدّث عن لاغارد
ولكن سرعان ما توالت الإحباطات في مصر. تأخّر صندوق النقد في نشر وثيقة القرض المصري عن المدى الزمني الذي تقرّره قواعد الشفافية الخاصة به. وذلك بسبب استثناء في حال اعتراض الحكومة (المصرية - في هذه الحالة) على نشر كلّ تفاصيل تعهّداتها. وتكرّر هذا التأخير في نشر أكثر من تقرير متابعة تنفيذ البرنامج خلال السنوات الثلاث الماضية، كما تكرّر حجب معلومات مهمّة. ولكن الأهمّ من غياب الشفافية، كان فحوى تدخّلات الصندوق في البرنامج المصري، وجوهر توصياته هو الإحباط الأكبر. تناقضت عناصر البرنامج مع ما دعت إليه رئيسته.
بدأ الصندوق بإجراء عنيف، فرضه على الحكومة، عَصَفَ بتطلّعات المصريين نحو حياة أكرم وأكثر عدلاً، هو تعويم كامل للجنيه، في وقت كان الاقتصاد هشّاً بفعل سنوات من عدم الاستقرار السياسي، ما أدّى إلى هروب مليارات الدولارات خارج البلاد. فقد الجنيه ما يقرب من نصف قيمته، خسارة فاقت توقّعات الصندوق. يتوقّع أن يكون خمسة ملايين مواطن قد سقط فقيراً بعد ستر. وحتى الآن لا تنشر الحكومة بيانات بحث الدخل والإنفاق لعام 2017، والتي تظهر تطوّر أرقام الفقراء والجوعى.
ولم يبالِ الصندوق بمصدر النموّ الآتي بالأساس من قطاع البترول والغاز قليل التوظيف والسريع في تحويل أرباحه إلى الخارج. بينما جاء التوظيف في الأساس من القطاع غير الرسمي حيث العمل أسوأ من العبودية (فقر وانعدام أمان).
أمّا البطالة، فإذا نظرنا إلى بطالة الشباب بين 15-29 سنة، فقد بلغت 22.9%. واحد من كل 4 متعطّلين من الذكور يحمل شهادة جامعية أو أعلى. وبين الإناث هي ست من كلّ عشر متعطّلات. أفضل العقول علماً لا تجد عملاً. وواحد من كلّ خمسة متعطّلين لم يجد عملاً خلال السنوات الثلاث الماضية. لعل تلك الأرقام تنكأ أسئلة عن طبيعة النموّ.
كما أصرّ الصندوق على خفض الإنفاق العام على ما من شأنه أن يحفّز الطلب الكلّي (الأجور وشراء الحكومة للسلع والخدمات)، وهو ما أدّى إلى عزوف خرّيجي الطبّ مثلاً عن التوظّف في الحكومة، نتيجة لعجزهم عن تقديم خدمة مناسبة في غياب الأدوات والأدوية اللازمة، إضافة إلى الأجور الهزيلة.
وعلى الرغم من عامين من التقشّف، بلغ الدَّيْن العام (داخلي وخارجي) 5509.3 مليار جنيه، وبلغ في كانون الأول/ ديسمبر 2018، نحو 102% من الناتج المحلّي الإجمالي (آخر بيانات متاحة هنا و هنا). وبلغ حجم الطروحات السنوية من أذون وسندات خزانة نحو أربعة أضعاف ما كان عليه في عام 2011/2012. إضافة إلى تردّي هيكله لتقصّر آجال السداد، إلى أقل من عام ونصف عام في المتوسط، واعتماد أكبر على الدَّيْن الخارجي، في بلد تنقصه الموارد الدولارية. واستمر نزيف الاستثمارات وتحويل الأرباح إلى خارج البلاد، في النصف الأول من عام 2018/2019، وفق البنك المركزي.
الخلاصة، بقيت وصفة الصندوق بقيادة لاغارد نسخة مكرّرة من الوصفة التي سادت منذ بدايات التسعينيات، والتي أدّت في روسيا ودول شرق أوروبا ودول أميركا اللاتينية إلى البطالة وتفاقم الفقر واللامساواة. دواء قديم ثبتت قلّة فاعليته، أو لنقل أنه يشفي الأعراض ولا يشفي المرض. دافع صندوق لاغارد عن نموذج متحيّز للبنوك وأصحاب الثروات، معرّض للأزمات المالية ومدمّر للبيئة.

* صحافية، وباحثة من مصر



من ثمارهم تعرفونهم
خرج النظام العالمي من الأزمة الاقتصادية الممتدّة منذ عام 2008، بخارطة طريق، لم يلتزم بها الصندوق. فقد ظلت وصفاته تؤمّن أرباحاً خيالية للقطاع المصرفي ولحاملي أوراق الدَّيْن الحكومية. وظلّت تفرِّط في استخدام أدوات السياسة النقدية على حساب السياسة المالية، أي الاعتماد على سعر الفائدة المُرتفع وزيادة الدَّيْن العام بدلاً من زيادة الضرائب على الأغنياء. وظلّ مدراء البنوك العالمية يحصلون على مرتبات ومكافآت خيالية. وظلّت ثروات أغنياء الدول المتقدّمة والنامية تتراكم في الملاذات الضريبية. واليوم فيما العالم مقبل على أزمة اقتصادية جديدة، لا يستخدم الصندوق الحلول التي يقترحها باحثوه.
هذه هي اللحظة التي تتولّى فيها لاغارد رئاسة البنك المركزي الأوروبي. لحظة ركود وبطالة بل وجوع في أوروبا. حكّام القارة متمسّكون أكثر من أي وقت مضى بالسياسات النيوليبرالية، على الرغم من فشلها في إنعاش الاقتصادات الأوروبية. وها هم يستعينون بإحدى الحرّاس المخلصين للنظام القديم. فهل تنجح حاملة أدوات الماضي في إنقاذ أكبر جار وشريك اقتصادي لمصر وكثير من الدول العربية؟ القلب والعقل على إجابة واحدة هذه المرّة: القلق من المستقبل.