يسرّني أن أرحّب بكم في هذا المؤتمر الرفيع المستوى لمجموعة السبع، المُخصّص لمناقشة السنوات الخمس والسبعين المقبلة من نظام بريتون وودز... وهو ليس إلّا مؤشّراً على الثقة. منذ 75 عاماً، افتتح كلّ من جون م. كينز من بريطانيا، وهاري دكستر وايت من الولايات المتّحدة، وبيار مانديس - فرانس من فرنسا، ما نراه اليوم «العصر الذهبي» للتعدّدية والتعاون. اللافت، أنّ مؤتمر «بريتون وودز» أتى سابقاً السلام، بعد أن كان يُنظر إلى التعاون الاقتصادي شرطاً مُسبقاً للسلام. أمّا اليوم، للأسف، فنحن بعيدون عن هذا الجوّ، إذ تواجه التعدّدية أزمة كبيرة. ومع ذلك، تتمتّع مؤسّسات «بريتون وودز» بمرونة ملحوظة، بفضل التزام قادتها المتعاقبين – والعديد منهم موجودون هنا – ومتانة تاريخهم.هذه الأصول لا تقدّر بثمن، ونحن جميعاً، ربّما، مقتنعون بذلك. ولكنّنا أيضاً ندرك أن الوضع الحالي غير مستقرّ. فإلى أين نحن ذاهبون؟ السيناريو الأسوأ يكمن بانهيار النظام، وهو ما يفرض العودة خطوة إلى الوراء مع ظهور الحمائية والثنائية. هناك سيناريو آخر واعد، يفترض بنا أن نكافح من أجله، ويتمثّل بالخروج من هذه الأزمة بشكل أقوى، عبر إعادة بناء الحلول المشتركة. لذلك، يمكننا التباهي بإنجازين رئيسيين، مع الاعتراف بأن لكلّ منهما تحديين أساسيين، وهو ما سنناقشه اليوم:
بفضل المؤسّسة الدولية، بما فيها صندوق النقد الدولي، نجحنا بالاستجابة للأزمة المالية الكبرى. إلّا أننا نواجه اليوم تحدّيات بشأن السياسات النقدية وحماية الاستقرار المالي.
دعمنا بنحو كبير التطوّر الهائل للعولمة، إلى جانب كلّ من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ولكنّنا نواجه تحدياً كبيراً اليوم، ينبثق من التشكيك في التجارة الحرّة والتطلّعات التي تحيط بمسائل عامّة عالمية، بدءاً من التغيّر المناخي والشمول والاندماج الاجتماعي.

أ - تحدّيان بعد إدارة الأزمة المالية الكبرى

1- السياسات النقدية بعد عشر سنوات
لا يوجد أدنى شكّ في أنّ السياسات النقدية أدّت دوراً أساسياً في التغلّب على الأزمة المالية الكبرى، ويعود ذلك إلى الابتكارات والتعاون، وهما عاملان لم يكونا بارزين خلال أزمة الثلاثينيات. مع ذلك، يواجه هذان العاملان تحدّيات متناقضة. فمن ناحية تصاعدية، يخضعان للطلب المتزايد باستمرار، ومن ناحية أخرى انحدارية، يتعرّضان للنقد بسبب معدّلات الفائدة المنخفضة المستمرّة منذ فترة طويلة والسياسات التي لا تستند إلى أي معايير.
من المهمّ بالنسبة إلينا اليوم أن نعيد التذكير بثلاثة مبادئ:
لا يمكن السياسات النقدية أن تفعل كلّ شيء، ولا يمكنها أن تقوم بالمعجزات. وكذلك لا يمكنها أن تصلح الضرر الناجم عن الشكوك التي تلقيها الحمائية، ولا يمكنها أن تحلّ أيضاً مكان الإصلاحات التي تقود إلى نموّ طويل الأجل ولا محل سياسات مالية معزّزة للنموّ.
في الاقتصادات المتقدّمة الرئيسية، تُقاد السياسات النقدية من خلال تفويض محلّي يضمن استقرار الأسعار وإدارة الطلب المعاكس. فهذه السياسات لا تستهدف أسعار الصرف. وهذا هو التناقض المُثمر للسنوات الأخيرة: التعايش بين سياسات «مركّزة محلّياً» تؤدّي إلى بيئة نقدية «تعاونية عالمية».
يجب تنفيذ السياسات النقدية باستقلالية تامّة عن القوى السياسية، ولكن باستقلالية أيضاً عن الضغوط القصيرة الأمد والمصالح الاقتصادية الضيّقة


لهذا الغرض، يجب تنفيذ السياسات النقدية باستقلالية تامّة عن القوى السياسية، ونأسف لاضطرارنا إلى تكرار ذلك. وأيضاً باستقلالية عن الضغوط القصيرة الأمد والمصالح الاقتصادية الضيّقة. لذلك، نستند إلى مؤشّرات السوق، لكن من دون الاعتماد على السوق، ويتضمّن ذلك عدم الاعتماد حصرياً على توقّعات التضخّم المُستندة إلى معايير السوق. نحن نعتمد على البيانات، وأقول ذلك بشكل خاصّ إلى البنك المركزي الأوروبي، إذ سنقيِّم البيانات الاقتصادية الفعلية في اجتماعات مجلس الإدارة المقبلة، وسنتصرّف وفقاً لها عندما يلزم الأمر.

2- قضايا الاستقرار المالي والأزمات
في ما يتعلّق بقضايا الاستقرار المالي، مرّ نظام «بريتون وودز»، منذ نشأته، بالعديد من الاضطرابات والأزمات، بما فيها الانهيار شبه التامّ في عام 1971. اليوم، بعد انقضاء عقد على الأزمة المالية الكبرى، لا يزال يتعيّن علينا تحديد مستقبل نظامنا النقدي الدولي الحالي، أو «اللانظام» كما يصفه كثيرون.
اليوم، سنناقش مخاطر الاستقرار المالي الناجمة عن نموّ التدفّقات والأصول المالية عبر الحدود. ففي خلال السنوات القليلة الماضية، كانت تدفّقات رأس المال الدولي وافرة للغاية، وأسهمت في تغذية الفقّاعات المحلّية وزعزعة استقرار النظم المالية العالمية. إلّا أن هذه التدفّقات معرّضة أيضاً «للتوقّف المفاجئ» في الأوقات العصيبة. في الواقع، أدّى الارتفاع الهائل لتأثيرات العدوى المرتبة عن التدفّقات المالية عبر الحدود والأسهم وتقلّب أسعار الأصول، إلى تطوير وجهة نظر صندوق النقد الدولي حيال تدفّقات رأس المال، من كونها وجهة تحرير أصلية إلى وجهة مؤسّسية أكثر واقعية.

تراجعت اللامساواة بين بلدان الشمال والجنوب، إلّا أنها تزايدت داخل البلدان نفسها، وحالياً تطالبنا الأجيال الشابّة بضمان حماية الكوكب


والأهمّ من ذلك، وجود حاجة لتعزيز الأدوات التي تجنّبنا الوقوع في الأزمات وتجنّبنا المخاطرة المُفرطة. يجب أن يتركّز خطّ الدفاع الأول عن الاستقرار المالي على سياسات اقتصادية كلّية سليمة وحكيمة. وهذا هو السبب وراء أهمّية تعزيز رقابة صندوق النقد الدولي الثنائية والمتعدّدة الأطراف.
ولكن لا يمكن الوقاية أن تغطّي كلّ المخاطر. لقد عُزِّزَت «شبكة الأمان المالي العالمية» خلال السنوات القليلة الماضية بفضل قدرة صندوق النقد الدولي المتزايدة (باتت موارده الإجمالية تبلغ نحو 1.3 تريليون دولار أميركي حالياً، ويفترض العمل للمحافظة عليها في المستقبل)، وبفضل الاتفاقيات المالية الإقليمية التي طُوِّرَت في أوروبا وآسيا، وشبكات التبادل بين البنوك المركزية. إلّا أن تغطية «شبكة الأمان المالي العالمية» لا تزال ناقصة وغير كافية: عملياً، انخفضت موارد صندوق النقد الدولي الإجمالية من 4% من الالتزامات الخارجية العالمية في عام 1980 إلى أقل من 1% خلال هذا العام. وبالتالي، على التنسيق بين مختلف طبقات «شبكة الأمان المالي العالمي» أن يكون أكثر فعالية في حال حدوث أزمة نظامية. وهناك مجال للاستفادة أفضل من الأدوات الاحترازية، وفق ما اقتُرِح في تقرير مجموعة العشرين الذي يتناول الإدارة المالية العالمية.

ب – تحدّيان جديدان بعد توسّع العولمة

1- التجارة الدولية والاستثمار الأجنبي المباشر
اسمحوا لي الآن بالانتقال إلى التجارة الدولية والاستثمار الأجنبي المباشر. مع مرور الوقت، أسهم كلّ من التجارة العالمية والاستثمار الأجنبي المباشر في نموّ الإنتاجية والازدهار. لكن لا تزال هناك الكثير من التشوّهات المهمّة في صلب نظام التجارة الدولية، وهو ما تُظهره اختلالات موازين التجارة العالمية. ويعود ذلك، على سبيل المثال، إلى نموذج النموّ بالصادرات الذي تقوده آسيا، وإلى أنظمة أسعار الصرف المُدارة في معظم البلدان الناشئة، بحيث أصبحت القضايا التجارية متداخلة مع اعتبارات أخرى، مثل تزايد اللامساواة، والأضرار البيئية، والأمن وغيرها... وهذه المشكلات حقيقية، وتشرح جزئياً أسباب عودة الحمائية، التي لا تحلّ أياً من هذه المشكلات، وكذلك الثنائية التي لا تستطيع حلّ مشكلة الاختلالات التجارية الثنائية، ولا الاختلالات في الموازين التجارية العالمية.
على التعدّدية المُتجدّدة أن تكون أكثر فعالية، أقلّه في ثلاثة أمور: أوّلاً، في ما يتعلّق بالتجارة، وافقت مجموعة العشرين، من حيث المبدأ، على أن هذا الإجراء ضروري لتحسين أداء منظّمة التجارة العالمية. وبالتالي، هناك حاجة ملحّة اليوم لتحقيق تقدّم ملموس من خلال رزمة إصلاحات تتعلّق تحديداً بآلية تسوية النزاعات. كذلك تحتاج منظّمة التجارة العالمية إلى تقوية نطاق مبدأ المعاملة التفاضلية وتوسيعه، وينبغي لها مواصلة دعم تحرير التجارة، حتى في قطاع الخدمات المتخلّفة عنه. ثانياً، نحتاج إلى فهم الاختلالات بموازين التجارية العالمية لمعالجتها بنحو أفضل، خصوصاً أنها باتت تشكّل 40% من مجمل الناتج المحلّي العالمي، وهو رقم قياسي يتجاوز أربع مرّات ما كان عليه في بداية التسعينيات. وأخيراً، يجب الأخذ بالاعتبار المصالح العامّة الجديدة في الاتفاقيات الدولية.

2- المصالح العامّة العالمية والتنمية
تشكّل المصالح العامّة العالمية، ولا سيّما التغيّر المناخي والاندماج الاجتماعي، مصدر قلق بالنسبة إلى الجميع: فمن الناحية السياسية، تخلق توقعات متزايدة، ومن الناحية الاقتصادية تولّد عوامل من خارج القدرة النظامية على الضبط. من هنا، يؤدّي تفاقم العجز حيال هذه القضايا إلى تزايد الآثار التخريبية على النظم الاقتصادية والمالية والاجتماعية، وارتفاع كلفة الرعاية الاجتماعية، ولا سيّما في البلدان النامية. الحقيقة المُبسّطة أننا قلّلنا من أهمّية هذه القضايا لفترة طويلة. لقد كان «إجماع واشنطن» سليماً من الناحية الاقتصادية، لكن ضعيفاً على الصعيد الاجتماعي. وفي الواقع، لا يمكن تحقيق الاستدامة في أيّ شي من دون اقتصاد قوي. غالباً ما كان يُنظر إلى العولمة على أنها أفادت الشركات الكبيرة بنحو رئيس، وجنّبتها دفع الضرائب، انطلاقاً من كونها طبقة مزدهرة ومتحرّكة عالمياً وتحقّق نموّاً سريعاً في دخلها. من حسن الحظ أن اللامساواة بين البلدان تراجعت، ولا سيّما بين بلدان الشمال والجنوب، إلّا أنها في المقابل تزايدت داخل البلدان نفسها. وحالياً تطالبنا الأجيال الشابّة بضمان حماية الكوكب.
لقد تحقّق الكثير خلال السنوات الأخيرة. على سبيل المثال، أسهمت مؤسّسات «بريتون وودز» في التقليل من معدّلات الفقر على المستوى العالمي: منذ عام 1990، انخفض عدد الأشخاص الذين يعيشون في فقر مدقع في جميع أنحاء العالم بنحو 1.1 مليار شخص. ولكن لا يزال هناك الكثير ممّا ينبغي لنا فعله. في هذا السياق، يمكن مؤسّسات «بريتون وودز» أن تؤدي دوراً رئيساً من خلال التركيز على كفاءاتها الأساسية، ولا سيّما المراقبة والمساعدة الفنية والإقراض، ومن خلال تطوير أدوات جديدة لتحليل القضايا الشائكة العالمية مثل التغيّر المناخي والرقمنة وانعدام المساواة. يجب أن نهدف إلى تحسين التنسيق بين مؤسّسات «بريتون وودز» وغيرها من المنظّمات الدولية، بما فيها هيئات الأمم المتّحدة. وبالنظر إلى عدم كفاية التنمية الاقتصادية المُحقّقة في إفريقيا وجزء من جنوب آسيا، تبرز حاجة إلى مراجعة المساعدات التنموية وآلية عملها. ويمكننا قول الأمر نفسه في ما يتعلّق بالتغيّر المناخي، بحيث إن الوصول إلى تنسيق أقوى بين هيئات الأمم المتّحدة ومؤسّسات «بريتون وودز» كفيل بتوفير إطار مالي كلّي لتقييم المخاطر والسياسات على غرار «شبكة الأمان المالي العالمي».

■ ■ ■

اسمحوا لي بأن أختتم حديثي بكلمات للرئيس روزفلت خلال خطابه الافتتاحي في مؤتمر «بريتون وودز» في عام 1944، حين قال: «الأمراض الاقتصادية شديدة العدوى. والصحّة الاقتصادية لكلّ بلد تهمّ كلّ جيرانه القريبين والبعيدين. لهذا السبب، إن الأشياء التي يفترض بنا القيام بها، علينا أن نقوم بها. وهو ما لا يحصل إلا بالتنسيق فيما بيننا». لا شكّ في أننا بغالبيتنا متفقون على ذلك: العالم اليوم بحاجة إلى وئام جديد بدلاً من حالة التنافر القائمة. وعلى هذا الوئام أن يكون مبدأً توجيهياً للسنوات الخمس والسبعين المقبلة. لذلك، أتطلّع قدماً إلى نتائج المناقشات اليوم، آخذين هذه المبادئ بالاعتبار.

* الكلمة الافتتاحية لحاكم المصرف المركزي الفرنسي، فرانسوا فيليروي دي غالو، في مؤتمر مجموعة السبع، باريس، 16 تموز/ يوليو 2019.

* حاكم البنك المركزي الفرنسي