لماذا صمدنا كل هذا الوقت؟ وكيف تسنى لنموذج اقتصادي قائم على استقطاب أموال غير المقيمين من تجاوز عوامل قصوره الذاتي؟ لنعاين أولاً المعادلة المعروفة التي حكمت أداء هذا النموذج في العقود الثلاثة الماضية: فوائد مرتفعة تستدعي تدفقات تفوق حاجات الاستهلاك والاستثمار. وبسبب ضخامة هذه التدفقات اضطر المصرف المركزي إلى استيعاب الجزء الأكبر منها، من خلال سحب السيولة الإضافية وكبح التضخم، أي إنه نقل عبء الودائع الزائدة من المصارف التجارية إلى الدولة، قبل أن تقوم السلطة النقدية مؤخراً بنقل الخطر إلى المصارف عبر الهندسات المالية وفي مقابل أرباح فورية طائلة. أما المؤشر الأبرز على تكاليف هذه المعادلة فنجده في ارتفاع معدل الفائدة إلى ما يعادل ضعف متوسط النمو الاقتصادي تقريباً في السنوات الماضية (بلغ متوسط النموّ الاسمي في السنوات 1997-2018 نحو 5.86% مقابل 11.3% تقريباً لمعدلات الفائدة المدينة، ويقدر المتوسطان بـ4.2% و8.1% على التوالي منذ عام 2011).
لا نملك إذاً، نموذجاً اقتصادياً، بل نموذجاً نقدياً عالي الكلفة وغير مستدام ويشدنا بقوّة إلى الأسفل. صحيح أن يد العون كانت تأتي من رحم الظروف الاستثنائية فتنتشلنا من جديد، لكنها كانت تزرع في رؤوسنا وهماً بأن النموذج صلب بما فيه الكفاية، وقادر على الاستمرار، ولا داعي للمساس به.

إخفاقات
لم يكن مسار هذا النموذج المأزوم تلقائياً، بل أحاطت به إخفاقات وعناصر فشل متعددة. وأول هذه كان سياسيّاً، ويتعلق بعجز نظام التعدديّة السياسيّة عن إقامة إدارة متوازنة ورشيدة وقادرة على اتخاذ القرارات الصحيحة.
كان دور الديمقراطية التوافقية المفترض بعد سنوات من الحرب الأهلية تأمين الاستقرار الداخلي، وتحقيق التوازن بين الطوائف، وتمكين عجلة الدولة من الدوران على نحو يلبي حاجات المواطنين الأساسية ويرفع معدلات النمو ويعيد بناء الاقتصاد على أسس حديثة.
فإذا سلمنا جدلاً بأنّ نظام التوافقية كان محلّ قبول، فإن قواعد عمله لم تكن كذلك، وهي لم تتسم أيضاً بالوضوح والاتساق المطلوبين، بل كانت تعمل في اتجاهين متباينين؛ مركزي ولا مركزي. في القضايا ذات المدى الوطني والتي تمس مصالح اللبنانيين كافة، كانت المركزية هي الصفة الغالبة على اتخاذ القرار، وهذا يشمل قطاعات حيوية ومشاريع كبرى كالكهرباء والاتصالات والصحة والسدود وغيرها، حيث نشأت مساحة واسعة للمساومة والتفاوض والمقايضة ذات الإيقاع البطيء والممل بين «ممثلي» الجماعات المناطقية والفئوية والطائفية. مساومات على حساب المال العام أحياناً، وبما لا يتناسب مع المصلحة العامة في معظم الأحيان. وتُعدّ سوليدير نقطة انطلاق هذا المسار والتاريخ المرجعي لبدء التفاوض على مصير الاقتصاد اللبناني ونقله لاحقاً من الإعمار إلى الأزمة.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

في المقابل، برزت مركزية مفرطة في كل ما يتعلق بالمشاريع والاستثمارات ذات الطابع المحلي والتي تتعلق بجماعة أو منطقة كبناء المدارس والطرقات والمستشفيات في الأقضية والمحافظات، حيث انحصر القرار بأيدي قلة قليلة أُطلقت أيديها في أن تفعل ما تشاء من دون مساومات تذكر، ما تسبب بانحرافات واسعة وانحيازات كبيرة في توزيع الموارد العامة.
وبحصيلة هذا التجاذب بين اللامركزية على المستوى الوطني والمركزية على المستويات الأدنى، اتسعت الفوارق بين الفئات، وانتشر الظلم الاجتماعي ومعه الاحتقان في الطبقات الشعبية الدنيا والوسطى. وحصل تمركز هائل في الثروة وتضاءل الاهتمام بالقطاعات والخدمات العامة والمشاريع ذات القيمة المضافة الوطنية والتي لا تخدم التقاسم المذكور، وصارت المشاريع المحليّة قليلة الجدوى أو التي تخدم فئات من دون أخرى تسير بخطى سريعة وواثقة، فيما تتعثر وتؤجل مراراً وتكراراً المشاريع الكبرى الأكثر أهمية، بسبب فشل المساومات بشأنها حيناً وصعوبة استيعابها داخل نظام المحاصصة حيناً آخر.
ولم يكن لمنظومة المحاصصة هذه بوجهيها الوطني/اللامركزي والمناطقي/المركزي، أن يكتب لها الحياة، لولا امتلاك كل جماعة دولتها العميقة المتمثّلة في مجلس هنا وصندوق هناك ووزارة هنالك، ولولا مضاعفة الإنفاق العام مرات عديدة زيادة عما هو مطلوب، ولولا إطلاق حبل الفساد والهدر على غاربه. وقد شكلت طبقة القيادات الإدارية الجديدة التي اجتاحت القطاع العام بعد الحرب الأهلية آلة التقاسم الثمينة وصلة الوصل بين المجتمع السياسي من جهة والموارد العامة المالية والبشرية بل وحتى الرمزية من جهة ثانية.
أمّا الإخفاق الثاني فكان فشل نخبة ما بعد الطائف في استعادة التركيبة الاقتصادية التي كانت موجودة قبل الحرب الأهلية، سواء بنسختها الشهابية أم ما بعد الشهابية. لم تفلح هذه الطبقة في بناء نظام اقتصادي ليبرالي يستعيد ما سمي أسطورة لبنانية، وعطّلت بالمقابل فرصة قيام نظام اقتصادي مغاير ما بعد ليبرالي ذي أسس اجتماعية. والمفارقة نفسها برزت بخصوص القطاع العام، الذي لم يُعطَ دوراً واضحاً في التركيبة الجديدة للاقتصاد، بل تعرض لإدانات صريحة لأسباب آيديولوجية أو اعتباطية، لكن الفراغ الذي خلفه لم يُملأ لا بخصخصة واسعة النطاق ولا باللامركزية الإدارية ولا بالشراكة بين القطاعين العام والخاص. لقد تقلصت مهام الإدارة العامة، ومع ذلك تضخّم حجمها، وخصوصاً مع قيام إدارة رديفة كان الهدف الأساسي من استحداثها التهرب من مبدأي الكفاءة والاستحقاق، واستخدامها في صيانة توازنات السلطة ومعالجة اختلالات نظام غير متوازن بطبيعته ويحتاج دائماً إلى ضبط من خارجه.
ولم تقف حكاية اختلال التوازن عند هذا الحد، بل امتدّت عواقبه إلى السلطتين النقدية والمالية، والى الطريقة التي تُوزع فيها اعتمادات الموازنة بين وزارات محظية وأخرى مهمشة، وبسبب أزمة الدين العام والهدر والفساد فقدت السلطة المالية الحكومية استقلالها تدريجياً، فيما تعاظم استقلال السلطة النقدية وازداد دورها وصارت لها اليد الطولى في تحديد القطاعات التي يجب أن تحظى بالرعاية، وطرق الدعم وكلفته وتوزيعه، بل إنها تمكنت بفعل قوتها من تمرير الفائض المالي الناتج عن العمليات المالية والمصرفية وتمويل الدين العام إلى فئة قليلة العدد من اللبنانيين، من خارج منطق المحاصصة.
أخفقنا أيضاً في وعي تعقيدات الجغرافية السياسية وطاقاتها الكامنة والخفية، فجرى الرهان ـــ ولا سيما في التسعينيات ـــ على أنّه يمكن التموضع في تقاطعات إقليمية ظرفية ومتقلّبة، والحصول مع ذلك على مكاسب دائمة من خلال الاستثمار فيها. وفي سياق ذلك، كان الرهان على مؤتمر مدريد وعلى تسوية الصراع مع العدو و"السلام" معه، ثم على المال النفطي الآتي من بوابة الشام على متن التفاهمات والعلاقات العربية ـــ العربية، ثم على المؤتمرات الدولية، قبل الاضطرار إلى اللجوء للأسواق المالية التقليدية والخضوع لشروطها الصعبة. وبدا أنّ الرهان على استقرار الصفائح الجيوسياسية رهان رابح، وخصوصاً فيما أغدقه على لبنان من فرص عُدَّت إيجابية، ومن ضمنها خصوصاً طوفان التدفقات المالية الذي قاربت قيمته 120 مليار دولار في السنوات التسع الأخيرة ونحو 285 مليار دولار منذ عام 1993.
هذه المكاسب سرعان ما تلاشت عند تحرك الصفائح المذكورة، بدءاً من حرب العراق الثانية، ليتوالى بعدها دفع الأثمان مع قطع الحدود البرية مع سوريا والداخل العربي، وانخفاض التحويلات من دول الخليج لأسباب اقتصادية وسياسية، والعقوبات الاقتصادية... وصار واضحاً أن الاقتصاد المفتوح والهشّ الذي بنيناه والنموذج النقدي الذي تقوقعنا فيه لا يتناسب البتة مع موقعنا في منطقة تعج بالصراعات والانقسامات والاستهدافات الخارجية. لقد بنينا اقتصاداً قائماً على فرضية الاستقرار الشامل والطويل الأمد والعميق في إقليم لم يعرف مثل هذا الاستقرار طوال تاريخه الحديث.

… وأخطاء
وفي سياق ذلك، اتُخذت قرارات خاطئة عمّقت أثر الإخفاقات المذكورة أو تسببت فيها. وعلى رأس ذلك الاعتماد في تمويل «برنامج طموح للإعمار» على الخارج وليس على الداخل، وعلى الديون لا على الادخار الداخلي أو الاستثمار الخارجي المباشر. وبدلاً من تبنّي خطط طويلة الأمد للاستثمار العام وتطوير البنى التحتية، اخترنا البرامج المكثفة والمعجّلة والقصيرة الأمد ذات التكاليف الباهظة والتمويل الزائد، فنفد التمويل قبل تحقيق الحدّ الأدنى من البرامج المخططة، ولم تتحقق معدّلات النموّ المرغوبة، وكانت كفاءة بنيتنا الأساسية من الأقل في العالم.
ولأن الأسواق المالية بطبيعتها قصيرة النظر، فقد تمكنّا من إعادة تمويل ديوننا مراراً وتكراراً بالعملات الصعبة من خلال طرح سندات للاكتتاب في الأسواق الخارجية وبقيم تزداد باطراد. لقد اعتقد دائنو الخزينة في الداخل والخارج أنهم إذ يكتتبون بسندات اليوربوندز بدلاً من سندات الخزينة، فإنهم يستجلبون مزيداً من الثقة والأمان ويتخلّصون من مخاطر سعر الصرف... لكن فات هؤلاء الدائنين أن خطر الصرف يرتبط ارتباطاً وثيقاً بأداء الاقتصاد في بلد نام وغير منتج. فإذا كان المكتتبون بالسندات المحررة بالليرة اللبنانية معرضين لخطر انخفاض سعر صرفها الناتج مثلاً عن نقص السيولة بالدولار، فإن نقص السيولة نفسه سيضعف قدرة الدولة على إعادة تمويل ديونها الخارجية وتسديدها عند الاستحقاق، وبذلك يكون انهيار سعر الصرف والتعثّر عن السداد وجهان لخطر واحد!
والمشكلة أن الانهيار المالي غالباً ما يكون سريعاً أو يأتي دفعة واحدة، فالأسواق كما تبيّن التجارب لا تولي اهتماماً كافياً بالصعوبات التي يمكن أن تمرّ بها الدولة على المدى الطويل، ولا تبدي ردود فعل إلّا عند الوصول إلى حافة الهاوية، ويتراءى للعيان خصوصاً نضوب في العملات الصعبة وصعوبة تمويل العجز في ميزان المدفوعات. حينها، كما في وضعنا الراهن، تُفقَد الثقة ويتسارع الانهيار، وصولاً إما إلى الامتناع عن الدفع، أو إلى فقدان السيادة الاقتصادية على يد صندوق النقد الدولي أو غيره.
في النتيجة، سجّل النموذج اللبناني مؤشّرات لا ينبغي أن تجتمع معاً، وهي تثبيت سعر الصرف، وارتفاع الأسعار، ومضاعفة معدلات الفائدة، ومضاعفة أكلاف الإنتاج وضغط معدلات الأجور إلى ما دون معدلات الإنتاجية، فيما كان بإمكاننا أن نحذو حذو بعض الدول الأوروبية التي واجهت تحدّي توحيد العملة في منطقة اليورو، من خلال خفض أكلاف الإنتاج، ثم خفض الأسعار، وأحياناً خفض معدلات الفائدة، والهدف من ذلك كما فعلت ألمانيا، كان تعزيز قدرتها التنافسية من خلال خفض سعر الصرف الحقيقي، بعد أن صار متعذراً عليها التأثير على سعر صرف العملة الموحدة.
الاقتصاد المفتوح والهشّ الذي بنيناه والنموذج النقدي الذي تقوقعنا فيه لا يتناسب البتة مع موقعنا في منطقة تعج بالصراعات والانقسامات والاستهدافات الخارجية.


أمّا الخطأ الأبرز، فكان ترك مقاليد القيادة الاقتصادية والمالية والإدارية في أيدي طبقة بيروقراطية وغير منتخبة، تضم كبار المديرين والمصرفيين والمقاولين ورؤساء مجالس الإدارة وبضعة مسؤولين في المؤسسات العامة والسلطتين النقدية والتنفيذية. لم تملك هذه الطبقة ما يكفي من الحسّ الاجتماعي والسياسي للتبصر بعواقب أفعالها، وفي كل مّرة كان يتناقض فيها هدف اجتماعي أو اقتصادي مع هدف نقدي، أُعطيت الأولوية لهذا الأخير، مثل اعتماد سياسات نقدية انكماشية على نحو شبه متواصل في العقود الثلاثة الأخيرة، بدعوى لجم التضخم ومن دون الاهتمام بآثارها الضارة على النمو والتشغيل والبطالة.
لماذا ارتكبت كل هذه الأخطاء؟ لأن رهاناتنا وقراراتنا في التسعينيات خصوصاً، كانت تخدم مصالح نادٍ ضيق من متخذي القرار. فهمّشت المناطق والفئات الاجتماعية والاقتصادية غير الممثلة في هذا النادي، وأهملت قطاعات منافسة كالصناعة والزراعة والتعليم والصحة والمعرفة. وللسبب نفسه تقلّصت حصّة الأجور من الناتج إلى واحدة من أقل النسب العالمية، وتعاظمت مكاسب المتعاملين بالفوائد والمضاربين العقاريين ومحتكري الاستيراد إلى ما يقارب ثلث الناتج أو يزيد.

هل من مخرج؟
ما نحتاج إليه هو خطة إنقاذ تبدأ بإجراءات فورية لمنع اكتمال الانهيار أو تخفيف كلفته، وتنتهي بقلب الطاولة الاقتصادية والمالية والنقدية رأساً على عقب، ودفن نموذج أثبت بما لا يدع مجالاً للشك عقمه وتخلفه وظلمه.
ومن أجل ذلك، علينا رسم سياسات مالية معاكسة تماماً لتلك التي أثبتت فشلها وخطورتها طوال العقود الثلاثة الماضية، وإصلاح القطاع العام وتطهيره وإلغاء الإدارة الرديفة أو تضييق نطاق عملها، وتشكيل طبقة جديدة من القيادات الإدارية على قاعدة الكفاءة والاستحقاق، تكون بمثابة منطقة عازلة بين السياسيين من جهة والإدارة من جهة ثانية. على أن يترافق ذلك مع إصلاح القطاع الخاص أيضاً وتخفيف تشابكه مع الطبقة السياسية وتعريضه لاختبار المنافسة وإخضاعه لشروط الحوكمة..
وبالنسبة إلى الرصيد المتبقي من العملات الصعبة في الداخل أو التي يمكن استدعاؤها من الخارج، فلا بد من تخطيط استعمالاتها على نحو يتناسب مع الأولويات ويلبّي الحاجات الحيوية، مثل تكوين مخزونات استراتيجية من السلع الأساسية، وتمويل الحاجات الاستثمارية الملحة.
وينبغي أيضاً الاستفادة من القيود غير المباشرة المفروضة على التحويلات لخفض معدلات الفائدة الدائنة والمدينة خفضاً ملموساً، وإجراء هندسة مالية ضخمة ومدروسة ومتوازنة لمصلحة الدولة لتقليص الدين العام وتخفيف خدمته، على أن يستعمل جزء من الوفر المتحقق من هذه الهندسة في استيعاب التبعات الاجتماعية للأزمة، تتضمن مثلًا استحداث برامج مؤقتة لضمان البطالة التي ستتضاعف أرقامها، وزيادة موازنات دعم الأسر الأكثر فقراً وتوسيع قاعدة المستفيدين منها، وحماية القيمة الحقيقية لتعويضات نهاية الخدمة في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي (يمكن مثلاً استبدال جزء من سندات الخزينة التي يحملها الصندوق بـ«حصص» في بعض الشركات والمؤسسات التابعة للقطاع العام). وعلى العموم، يجب أن تكون متطلبات الأمن الاجتماعي والبشري في هذه المرحلة الانتقالية الصعبة والطويلة هي معيارنا الرئيسي في وضع السياسات وتحديد الخيارات ومواجهة استحقاقات ما بعد الانهيار الذي لاحت بوادره، ونأمل أن لا تكتمل فصوله.