مع تخفيض «موديز» الأخير لتصنيف لبنان الائتمانيّ، يجب أن نقارب أدوار وكالات التصنيف في الأسواق الماليّة اليوم ولا سيّما في الأزمات الحادّة. وبعد الأزمة العالمية عام 2008 برز هذا النقاش إلى الواجهة، بالأخص على شكل أسئلة كان أبرزها: هل تقوم وكالات التصنيف الائتماني بدورها بشكل صحيح؟وأين مكمن الخلل الذي أوصل الأسواق إلى هذه الحال؟
هل فعلاً هنالك تضارب مصالح عند وكالات التصنيف الائتمانيّ؟
ولكن في خضمّ هذه التساؤلات ضاع سؤال مهمّ هو: هل تلعب وكالات التصنيف الائتمانيّ دوراً أوسع من تصنيف الدين والمنتجات الماليّة؟
وقبل أن نتمكّن من الإجابة عن هذه الأسئلة علينا أن نستعرض دور وكالات التصنيف الائتمانيّ في ثلاث أزمات، سابقة على أزمة عام 2008، حيث كان لكلّ واحدة منها طابعها الخاص.

مقاطعة «أورانج»
في كانون الأول من عام 1994 أعلنت مقاطعة «أورانج»، في ولاية كاليفورنيا، إفلاسها. شكّل هذا الإفلاس صدمة في أسواق المال الأميركيّة المستقرّة في حينه، وتوجّهت الأنظار بالدرجة الأولى إلى أمين صندوق المقاطعة، روبرت سيترون، وإلى وكالات التصنيف الائتمانيّ بالدرجة الثانيّة. وكان سيترون قد عمد إلى تجميع رأس مال ضخم من صناديق المدارس والمؤسسات المختلفة التابعة للمقاطعة (قيمته بين 1.5-2 مليار دولار) وعبر سندات (بقيمة 12 ملياراً)، وضعه في محفظة استثمار، عمد إلى توجيهه لشراء مشتقّات مالية تضارب على انخفاض معدّل فائدة سندات الرهن العقاري. ولكن ما حصل هو أنّ رهان سيترون فشل وارتفعت معدّلات الفائدة بسبب رفع المصرف الفيديراليّ الفائدة ثلاث مرّات في عام واحد بين 93 و94، فترتّب على المقاطعة دفع مبالغ ضخمة لسداد "احتياط عقود المشتقّات الماليّة" (Margin Payment) ما أجبرها على إعلان الإفلاس.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

ويشرح تيموثي سينكلير، في كتابه «أسياد رأس المال الجدد»، أنّه حتى قبل إعلان الإفلاس كانت وكالات التصنيف الائتمانيّ تعطي سندات دين مقاطعة «أورانج» تصنيفاً عالياً، ما شجّع المستثمرين على شرائها والاستثمار في رهان سيترون. وبدت الوكالات في حينه في موقع الغافل عن الشيء، رغم أنّ وظيفتها الأساسيّة هي الإحاطة بالعوامل المحيطة بالاستثمارات المطروحة في الأسواق الماليّة.
وعزّز دفاع «ستاندرد أند بورز» عن نفسها، في القضيّة التي رفعتها ضدها المقاطعة عام 1996، هذا الاستنتاج. فقد اتهمت المقاطعة الوكالة ببيع المستثمرين «سمعة جيدة» لسندات دينها، من دون التدقيق في عمل سيترون وألاعيبه ومضارباته الخطرة في الأسواق. واعترفت الوكالة بأنها لا تقوم بتدقيقات ماليّة خاصّة بها وليست مسؤولة في حال تعرّضت للكذب عليها. بمعنى آخر هي ليست محقّقاً ماليّاً، ويمكن أن تقدّم تصنيفاً مبنيّاً على معلومات ناقصة أو جهل تامّ بالتفاصيل.

انهيار «إنرون»
هنالك مخاطر، على تصنيف الوكالات، أكبر من الجهل بسوء إدارة الاستثمارات والرهانات السيّئة. ولا يوجد مثال أوضح عن كيفيّة تعاطي الوكالات مع شركة الطاقة «إنرون».
فمع بداية عام 2001 كانت قيمة «إنرون» السوقيّة تساوي 62.5 مليار دولار، كسابع أكبر شركة أميركيّة، ولكن مع حلول ربيع عام 2002 انهارت أسعار أسهم الشركة لتتبخّر قيمتها السوقيّة. وبدأت مشاكل «إنرون» بالظهور عندما استعان كبار المدراء في الشركة بأساليب محاسبيّة، أقل ما يقال فيها بأنّها غريبة، استخدمت بهدف إخفاء ديون ومطلوبات الشركة وللحفاظ على استمرار ارتفاع قيمة أسهمها. وفي مطلع عام 2001 بدأت التساؤلات عن حقيقة أرقام القوائم الماليّة التي تقدّمها الشركة، والتي وجدها المستثمرون والمحلّلون على حد سواء صعبة الفهم ومعقّدة جدّاً، ليتبيّن في ما بعد أن الشركة تتلاعب بأرقامها بطرق تلامس التزوير. ومع انكشاف هذه الحيلة اضطرت وكالات التصنيف إلى أن تخفّض تصنيف سندات دين الشركة، ما فعّل بنداً في عقود الكثير من القروض التي كانت قد أخذتها الشركة، والتي كانت تنصّ على أن تستحق القروض مباشرة في حال انخفاض تصنيف سندات دين الشركة تحت حدّ «الدرجة الاستثماريّة». خلق هذا الاستحقاق أزمة سيولة أجبر الشركة على إعلان الإفلاس في كانون الأول 2001، لتتبخر قيمتها السوقيّة كليّاً مع حلول شباط 2002.
ويشرح سينكلير أنّ مسؤوليّة وكالات التصنيف في انهيار «إنرون» وخسائر المستثمرين كانت كبيرة جدّاً، فالوكالات حافظت على تصنيف عال لـ«إنرون» بالرغم من عدم وضوح قوائمها الماليّة، الأمر الذي كان يجب أن يطلق صفّارات الإنذار عند الوكالات، لا المحافظة على تصنيف عالٍ لسندات دين الشركة. وهنا نرى أن الوكالات قدّمت تصنيفاً ليس مبنياً على جهل، كما في حالة مقاطعة «أورانج»، بل على تجاهل لعلامات إنذار واضحة.

الأزمة الآسيويّة: أزمة من مرحلتين
يقسّم سينكلير الأزمة الآسيويّة إلى مرحلتين. المرحلة الأولى كانت من تموز عام 1997 إلى تشرين الأول من العام نفسه. وبدأت مع حالة هلع في تايلاند، سرعان ما امتدّت خلال أشهر ذلك الصيف إلى ماليزيا والفيليبين وسنغافورة. نقطة بداية الهلع كانت تراجع الحكومة التايلانديّة عن قرارها بدعم شركة ماليّة كبرى، تعاني مشاكل سيولة، بعد أن اكتشفت حجم الالتزامات الماليّة الضخمة على الشركة. هذا ما أدّى إلى هروب رأس المال من الأسواق التايلانديّة، وما قاد إلى انخفاض قيمة العملة التايلانديّة، وإلى طلب الحكومة من صندوق النقد الدوليّ التدخّل. وأثارت هذه الأحداث مخاوف المؤسّسات الاستثمارية في باقي أسواق جنوب شرق آسيا، ما خلق ضغطاً على عملات تلك البلدان ودفعها إلى رفع معدّلات الفائدة ، علّها تبعد خطر المضاربين على العملات.
وما زالت الأسباب التي أدّت إلى نشوب الأزمة في مرحلتها الأولى محلّ نقاش بين الاقتصاديين والأكاديميين إلى اليوم، حيث يشير سينكلير إلى أنّ معظم الاقتصاديين والباحثين اختاروا أن يضعوا اللوم على المصارف المحلّية. ويحاجج البعض الآخر، كموريس غولدستين في بحثه «الأزمة الماليّة الآسيويّة»، بأنّ السبب الرئيس هو سوء تعامل دول جنوب شرق آسيا مع تدفق الأموال الضخم إلى أسواقها. ويضيف أنّ البنى التحتيّة للقطاع الماليّ في هذه البلاد لم تكن جاهزة للتعامل مع هذا الكمّ الضخم من رأس المال وإعادة توزيعه محلّياً، فتوجّه رأس المال إلى الاستثمار في العقارات والأسهم. فتراوحت نسبة انكشاف المصارف، في سنغافورة وتايلاند وإندونيسيا والفيليبين، على قطاع العقارات بين 25% و40%، ووصل الائتمان في أسواق الأسهم بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى مستويات خطيرة. كلّ هذا شكّل ضغطاً كبيراً على اقتصادات تلك الدول. وحين أُضيف إلى هذين العاملين عامل عجز الحساب الجاري في تلك الدول (بلغ 8% في حالة تايلاند عام 1996 مثلاً) وانخفاض الأسعار في أسواق العقارات وتحوّل تدفّقات رأس المال عن بلدان المنطقة، تطوّر ذلك إلى عوامل ضغط على السيولة بالعملات الأجنبيّة، في مقابل الحفاظ على قيمة العملات المحليّة. (من المفيد الالتفات إلى أن العوامل التي أدّت إلى الأزمة تتقاطع بشكل كبير مع عوامل تدهور الاقتصاد اللبناني)
هنا لا بد أن نسأل: هل كانت وكالات التصنيف الائتمانيّة على خطأ في تصنيفها المرتفع لسندات الدول التي عصفت بها الأزمة؟ أم أنّها قامت بعملها على أتمّ وجه ولكن خدعها تقلّب السوق؟
بحسب سنيكلير، يُغفل الكثير من الباحثين دور وكالات التصنيف في مفاقمة الأزمة الآسيويّة والتسبّب بمرحلتها الثانية التي كانت أشدّ وطأة على الاقتصاد العالمي من المرحلة الأولى. بالإضافة إلى هذا اعتبرت «موديز» على أثر الأزمة أن الأسواق تضع «الكثير من القوّة التنبّئيّة» في التصنيفات التي تصدرها، ودافعت «ستاندرد أند بورز» عن تصنيفاتها وقالت عنها إنّها «ليست أكثر من آراء مبنيّة على المعلومات المتوافرة»، بينما كانت «فيتش» الوحيدة التي اعتذرت للمستثمرين واعترفت بسوء تقديرها للوضع قبل وخلال الأزمة. ويعيد سينكلير سوء تقدير وكالات التصنيف لسندات الدول التي عصفت بها الأزمة إلى حالة النشوة التي أصابت الأسواق الآسيويّة، والتي شكّلت عاملاً ضاغطاً على وكالات التصنيف لكي تحافظ على مستويات تصنيف عالية لسندات الدول التي عصفت بها الأزمة بالرغم من ظهور بوادرها منذ شهر أيّار 1997.
ولكن هل تجاهل علامات الخطر بسبب الضغط، سواء أكان من الزبائن مثل «إنرون» أم من الأسواق كما في الأزمة الأسيويّة، هو أكثر العوامل خطورة في عمل وكالات التصنيف؟

الأزمة العالمية 2008
لا حاجة لاستعراض مسار أزمة عام 2008 التي عصفت بالأسواق الماليّة العالميّة، فقد أصبح واضحاً أن نقطة البداية كانت المنتجات الماليّة المصمّمة من تجميع القروض السكنيّة. فهذه القروض كانت سيّئة وتالياً المنتجات التي بُنيت عليها كانت غير جديرة بالاستثمار، وبالرغم من هذا صنّفتها وكالات التصنيف الائتمانيّ بمستوى عالٍ ما سبّب فقّاعة. هذه الأزمة فتحت الباب على السؤال عمّا تحدّث به سينكلير في كتابه، المنشور عام 2005 عندما كان الآخرون يناقشون الحاجة إلى نظم وتقنين عمل الوكالات، أي عن مدى وجود تضارب مصالح عند الوكالات في ظل نظام الدفع الحالي- مُصْدر المنتجات والأدوات الماليّة يدفع للوكالات.
ولكن تضارب المصالح قد لا يكون المشكلة الأساسيّة في هذه الأزمة، بحسب سينكلير مجدّداً. ففي بحث نُشر عام 2010، بعنوان «وكالات التصنيف الائتمانيّ والأزمة الماليّة العالميّة»، لم يعد سينكلير يرى أن المشكلة الحقيقيّة هي في تضارب المصالح، بل رآها أكثر تعقيداً وأعمق من مجرّد نظام دفع يمكن إصلاحه. فمع دخول الأدوات والمنتجات والمشتقّات الماليّة المعقّدة إلى الأسواق الماليّة أصبح دور المحامين أكثر أهميّة. فالصياغة القانونيّة لعقود التداول بالمشتقّات والمنتجات الماليّة تحدّد كيف تدار عمليّة توزيع المخاطر، وأيّ أنواع من المشتقّات تستحقّ أرباحها قبل الأخرى، عبر عقود قد تطول لآلاف الصفحات لمنتج واحد. ولكن أين دور الوكالات في خضمّ هذه الدهاليز القانونيّة؟
هل كانت وكالات التصنيف على خطأ في تصنيفها المرتفع لسندات الدول التي عصفت بها الأزمة؟


يشرح سينكلير أن الوكالات اتّجهت إلى تصنيف المنتجات والمشتقّات الماليّة تبعاً لصياغتها القانونيّة، وليس لجدارة سداد الدين الفعليّة. وهذا هو السبب الرئيس في حصول مشتقّات مبنيّة على قروض سيّئة لأعلى التصنيفات، بالرغم من أن التدقيق كان سيُظهرها غير جديرة بالسداد، وتباعاً بالاستثمار. ويضيف أن الوكالات تحوّلت إلى شريك فعليّ في صناعة هذه المنتجات والمشتقّات الماليّة، بصفة استشاريّة. فبمجرّد قبول الوكالات تصنيف منتج ماليّ بناءً على الصياغة القانونيّة لعقده عوضاً عن جدارة السداد، أصبحت تشارك في صناعة المنتج، وتعطي تقديرها للتصنيف في حال نظّمت وقوننت المصارف الاستثماريّة المنتجات والمشتقّات بطريقة معيّنة.
هذا السياق، من المحامين إلى الدور الاستشاريّ للوكالات، يجعل هذه الوكالات في موضع شريك في الصناعة، لا حكم يقيّم الجدارة الفعليّة للمنتجات المطروحة في الأسواق الماليّة.

دور بين الماضي والمستقبل
ما تقدّم يظهر أنّ التدقيق في دور وكالات التصنيف الائتمانيّ في الأزمات المتتاليّة يكشف حساسيته وخطورته. ويتبيّن أنّه كلّما كبر الزبون كبر حجم الخطر الذي يرافق عمل الوكالات، من الجهل بالمعطيات، إلى تجاهلها، إلى التحوّل من حكم إلى شريك في صناعة المنتجات الماليّة. ومع انفتاح أسواق العالم كلها تقريباً أمام تدفق رأس المال العالمي وشروطه (ومنها ضرورة الاستعانة بحكم الوكالات)، تكمن مشكلة شعوب وحكومات دول العالم الثالث في انعدام قدرتها على التأثير في وكالات التصنيف الأميركيّة المنشأ والمركز. ونحن اليوم في لبنان في خضمّ أزمة حادّة مرشّحة للتفاقم، وعلينا قبل أن نشرع في البحث عن الحلول وتطبيقها أن نقيّم أداء هذه الوكالات على مدى العقدين الماضيين ومستوى مسؤوليتها عمّا وصلنا إليه. فهل كانت وكالات التصنيف جاهلة بالعوامل المحلّية المؤثّرة في سياساتنا المالية، أم تجاهلتها بسبب ضغوط السوق، أم أنّها كانت شريكة في صناعة هذه السياسات وتالياً ما نتج عنها من آثار؟