مع تطوّر الأزمة المالية وارتفاع احتمالات تحوّلها إلى أزمة مصرفية، بدأت بعض الجهات تروّج لضرورة لجوء لبنان إلى صندوق النقد الدولي طلباً للمساعدة على تحضير خطّة إنقاذية تؤمّن قروضاً بالعملات الأجنبية من الجهات الدولية المانحة. طالبو اللجوء إلى الصندوق، أغفلوا عمداً عن توضيح طبيعة المساعدة المطلوبة ونتائجها بذريعة أن الصندوق سيُعطي صدقية للمجتمع الدولي من أجل تقديم مساعدات مالية أو قروض للبنان. في الواقع، هناك فرق كبير بين برنامج دعم دائم مقابل قروض من الصندوق محتسبة تبعاً لحقوق السحب الخاصة بلبنان، وبين طلب مساعدة تقنية لدرس وتقييم الخسائر المترتبة على مختلف الأطراف المحلية، وبين برنامج تمويلي لاستيراد السلع الأساسية. حتى الآن هناك شبه إجماع حذر لرفض برنامج مع الصندوق، لكنّ بعض الرافضين ينطلقون من حسابات خاصة حتى لا ينكشف «المستور» في حسابات المصارف، وبعضهم الآخر قلق من «ثورة اجتماعية» تنجم عن وصفة الصندوق الجاهزة الرامية إلى زيادة الضرائب على استهلاك البنزين وإلغاء الدعم عن الليرة والكهرباء، وبعضهم قلق على كلفة الإنتاج المرتفعة أصلاً في لبنان، لكن القلق يتسرّب إلى الجميع من أن صندوق النقد الدولي قد يتحوّل إلى خيار لا بديل منه في واحد من برامجه.
كمال حمدان ــ خبير اقتصادي

(مروان طحطح)

أتحفّظ في المرحلة الحالية عن اللجوء إلى مساعدة صندوق النقد الدولي. يجب استنباط كل الوسائل قبل التفكير في هذه الخطوة. صحيح أننا قد نكون على المدى القصير بحاجة إلى سند خارجي، لكن نأمل ألا يكون صندوق النقد الدولي، وهم أصلاً ليسوا في حالة تهافت تجاهنا. المشكلة أن شروطهم لتقديم المساعدة هي من النوع الذي يُفاقم الأمور وخصوصاً الأوضاع الاجتماعية. في المقابل، يجب أن نعمل ذاتياً من أجل تقديم المعالجات من خلال السير بمعالجة فورية لرسملة المصارف بأموال طازجة من خارج النظام المحلي، والبدء بإعادة هيكلة الدين العام وتحميل كلفتها لأصحاب رأس المال المصرفي أولاً، ثم لكبار المودعين فوق سقف معين ثانياً. كذلك يجب وضع ضوابط من أجل البدء بإصلاح النظام الضريبي في بلد فيه استقطاب كبير للثروة. أيضاً يجب إعادة هيكلة النفقات العامة مع إجراءات صارمة منها إلغاء ودمج المؤسسات العامة، وإعادة النظر بفروقات الأجور في القطاع العام، ودمج القطاع الخاص المجاني بالتعليم الرسمي، والتخفيف من منح التعليم لموظّفي الدولة التي تلعب دوراً سلبياً في تحفيز التعليم الرسمي... من الضروري البدء بإجراءات بنيوية بهذا المستوى، علماً بأن إقرارها وتطبيقها مشروطان بوجود قضاء يتابع المال العام المنهوب بما فيه خروج رؤوس الأموال من كبار المودعين ورجال السياسة. يجب إمساك كل هذه الملفات عبر حكومة من خارج المنظومة تكون لديها صلاحية التشريع حتى تكون الخيارات المتاحة بمنأى عن اللجوء إلى صندوق النقد الدولي.


إيلي يشوعي ــ خبير اقتصادي وأستاذ جامعي


من المبكر الحديث عن لجوء لبنان إلى صندوق النقد الدولي. هناك ملفان يجب أن يتبلورا قبل أي طلب مساعدة من الصندوق؛ ملف تلزيم إنشاء الخدمات العامة من كهرباء ومياه واتصالات ونقل مشترك وسواها من المشاريع التي يمكن القيام بها بإدخال رساميل بالدولار بواسطة تلزيمات مدروسة. وملف الغاز والنفط. فالصندوق سيقول لنا خفّفوا الإنفاق الاجتماعي، وعليكم أن تقرّوا موازنة بلا عجز، ويجب تقليص الاستيراد وتقنين الأكل والشرب... . لن يكون هناك أي دور اجتماعي للدولة. «كل واحد يدبّر راسو». أما بشأن سعر العملة المحلية، فالصندوق سيقول بأنه يجب وقف دعمها... في المحصلة سيكون هناك فرض لنمط عيش مختلف لا أحد يعلم إن كان بإمكان اللبنانيين تحمّله.
إذا لم تصبح لدينا حكومة فالنتيجة أننا نذهب سيراً في اتجاه الصندوق مباشرة، وأي حكومة ستستلم السلطة التنفيذية ستقلّع من الصفر ما يثير سؤالاً أساسياً: كيف ستعمل؟ هل بالاستدانة؟ نحن لا نريد «سيدر» ولا غيره ولسنا بحاجة إليه، بل علينا أن نتّكل على أنفسنا وألا نضع رقبتنا تحت مقصلة المانحين.


نقولا نحاس ــ نائب حالي ووزير اقتصاد سابق

(هيثم الموسوي)

لا أعتقد أنه يمكن حصر مشكلة بهذا المستوى من التعقيد المتعلّق في سؤال من نوع نعم أو لا لصندوق النقد الدولي. نحن نريد حلّاً متكاملاً شاملاً، وهو ما سيفرض حتمية وجود تدفّق مالي من الخارج بمعزل عمّا إذا لجأ لبنان إلى صندوق النقد أم لم يلجأ إليه. فالمهم أولاً هو الحل. لكن لا يجب أن نغفل أن معالجة الأزمة وإدارتها هما جزء من عمل الصندوق، وأن لبنان يدفع له اشتراكاً سنوياً، ويعتبر أنه مقابل هذه الاشتراكات وعندما يقع في أزمة فسيلجأ إلى الصندوق للحصول على الأموال التي يمكنه سحبها منه. ما يهمنا بشكل أساسي هو الحلّ المتكامل، وكيفية الخروج من هذه الأزمة وانتعاش اقتصاد لبنان. يجب أن نعيد الاقتصاد إلى النموّ ليكون قادراً على خلق قيمة مضافة ويتناغم مع القدرة المصرفية الموجودة واستيعاب الأخطاء في النظام سواء كانت سلوكاً سيئاً أم أعمالاً جرت خارج الإطار الطبيعي. ليس لدينا حلّ آخر سوى اللجوء إلى الصندوق.

صلاح عسيران - رئيس المجلس الوطني للاقتصاديين اللبنانيين


يشهد لبنان أزمة كبيرة وليس لدينا فريق مكلّف للتخطيط ودراسة سبل إدارتها والخروج منها سواء أردنا مساعدة صندوق النقد الدولي أم قرّرنا أن يكون لدينا برنامج خاص بنا. ما يحصل عندما تستعين إحدى الدول بالصندوق، بحسب التجارب الدولية، تكون هناك مفاوضات مع فريق ضخم مؤلف من خبراء ومحللين يعملون في مجالات مختلفة نقدية ومالية واقتصادية واجتماعية وسواها، لكن الواقع، أنه ليس لدينا أحد مطلقاً للتفاوض مع صندوق النقد أو غيره. وفي ظل هذا الغياب، فإننا لسنا مؤهلين أيضاً للقيام ببرنامج خاص يرسم خطوط ومسارات الإصلاح. لو أنّ لدينا فريقاً محلياً رسمياً للقيام بهذا الأمر، فليست لدينا حاجة إلى طلب معونة الصندوق، بل يمكن أن نطلب برنامج «الدعم البنيوي الطارئ» المختلف تماماً عن برامج التمويل التي يقوم بها الصندوق (برنامج الدعم الدائم من الصندوق)، وهو برنامج ضمن حدّ أقصاه 3 مليارات دولار ويُخصص لتمويل الحاجات الأساسية، وهذا أمر قد يتيح لنا الخروج من الأزمة بلا شروط الصندوق التي ستكون غير عادلة على الطبقات الفقيرة.


زياد بكداش ــ نائب رئيس جمعية الصناعيين


لا أوافق على لجوء لبنان إلى برنامج مع صندوق النقد الدولي. فالصندوق لديه شروط قاسية جداً يمكن أن تُشعل ثورة اجتماعية في لبنان، وهو قد يفرض على لبنان زيادة الضرائب في هذا الوقت الصعب. هناك قلّة توافق على اللجوء إلى صندوق النقد الدولي، لكن الأمر بالنسبة إلينا ليس قابلاً للتفكير والبحث. برامج صندوق النقد لمساعدة الدول المتعثّرة، تتضمن وصفة ضرائب جاهزة، وهم طلبوا من لبنان زيادة الرسوم على البنزين، وتحويل سعر صرف الليرة الثابت إلى السعر الحقيقي، فضلاً عن زيادة ضريبة القيمة المضافة... قبل كل هذه الإجراءات، علينا أن نقوم بشرعنة اقتصاد الظلّ أو الاقتصاد غير النظامي الذي يشكّل 60% من مجمل الاقتصاد. ولا يجب أن ننسى أن الضرائب التي أُقرّت في السنوات الأخيرة أدّت إلى زيادة في معدلات الفقر ورفعت كلفة الإنتاج، وكلها أمور لا يمكن للاقتصاد أن يتحملها.

وليد أبو سليمان ــ خبير اقتصادي ورئيس مجلس إدارة «أكسيس كابيتال»


هناك ما يُسمى مشروطية الصندوق التي تربط تسديد الأموال بتطبيق الإصلاحات المتفق عليها أو التي فرضها الصندوق. من هذه الشروط التي نعلم أن الصندوق يسعى لفرضها على لبنان، تحرير سعر صرف الليرة بكل انعكاساته على أجور العاملين في القطاعين العام والخاص، ووقف دعم الكهرباء وزيادة الضريبة على البنزين وضريبة القيمة المضافة. كذلك ألمح الصندوق في أكثر من مناسبة إلى مسألة شطب الدين (هيركات) بنسبة 34%... كل هذه الإجراءات قد تؤدي إلى نوع من وصاية مقنّعة وزيادة لمعدلات الفقر.
البديل من اللجوء إلى برنامج مع الصندوق، هو الحصول على مساعدة تقنية منه للمسارات المتصلة بالإصلاحات الضريبية وإصلاح بعض المؤسسات العامة. للأسف إن فشل الحكومات المتعاقبة وسياساتها المالية وقصورها عن تنفيذ الإصلاحات أدّيا إلى طرح مسألة اللجوء إلى برنامج مع الصندوق. في حال حصل هذا الأمر، ستكون المساعدات مشروطة وسيتحتّم على لبنان طلب المساعدة من جهات مانحة أخرى مثل البنك الدولي والدول المانحة في سيدر. ليس كل ما يأتي من الغرب جيداً، لكننا منذ ثلاثة عقود لم نتعلم بعد كيف ندير أمورنا، ما أنتج مشكلة بنيوية ثلاثية الأبعاد: استيراد واحتكار واستهلاك، ما أوصل إلى اهتزاز الأمن الغذائي والصحي اليوم.

نقولا شماس ــ رئيس جمعية تجار بيروت ومصرفي

(مروان طحطح)

ليس محرماً التواصل مع صندوق النقد الدولي الذي يختزل خبرة مديدة مع الأزمات النقدية والمالية. لكن تجربته متفاوتة النتائج باعتراف القيّمين عليه. يؤخذ عليه أن لديه وصفة جاهزة ومعلّبة وأنه أصاب وأخطأ أيضاً، فعالج معضلة هنا ليشعل أزمة هناك. التماس مؤازرة الصندوق يجب أن يكون على مراحل، بدءاً بالاستشارة الرسميّة بما أن لبنان قد يستطيع، حتى الآن، الخروج من الأزمة عبر معالجات سياسية وإصلاحات قاسية محلية وبدعم عربي ودولي وخصوصاً «سيدر». أما إذا تعذّر ذلك، فلا مفرّ من تكليف الصندوق برسم خريطة طريق للخروج من الأزمة مع مراعاة خصوصيات لبنان وأهمها:
- الاقتصاد الوطني يفقتر إلى الموارد الطبيعية والطاقات الإنتاجية ولا يملك إلا الثقة التي يجب حمايتها.
- الناتج الوطني الحالي متواضع ويرتكز على التحويلات الخارجية التي قد تغيب لفترات طويلة، وحذار من قصّ شعر لحسابات غير المقيمين المصرفية.
- بعكس دول أميركا اللاتينية التي تتخلّف عن السداد بشكل دوري، فإن لبنان لم يتخلف ولم يتأخر عن سداد ديونه حتى في أحلك الأيام.
- خلافاً لدول أخرى فيها مستويات عالية من اللامركزية المالية، لا يزال القطاع المصرفي وحده يموّل القطاعين العام والخاص، وأي إعادة هيكلة للدين وأي مسّ بمكانة المصارف المالية ورساميلها ينبغي أن يراعي هذه الحصرية في التمويل.
- لبنان يتّسم باقتصاد مدولر ولا يتمتع بقدرات إنتاجية كبيرة، أي إن خفض سعر صرف الليرة بناءً على اقتراح من الصندوق قد يؤذي اجتماعياً من دون أن يفيد اقتصادياً.