سيف الانهيار المالي والاقتصادي مسلّط على لبنان. هذا مختصر الحالة، والسؤال هو هل ستقدِم الحكومة المقبلة على «الاستعانة» بالمؤسّسات المالية الدولية للخروج من النفق المظلم. وإذا سارعت الحكومة للجوء إلى تلك المؤسّسات وخصوصاً صندوق النقد الدولي ومجموعة المؤسّسات التابعة للبنك الدولي، فإنّ سيادة لبنان الاقتصادية والمالية قد تصبح قاب قوسين. وهناك مؤسّسات مالية دولية أخرى كمؤسسة مصرف الاستثمار الأوروبي وصندوق التنمية في فرنسا وألمانيا... سنعالج في هذه المقاربة سياسة مؤسّسات إجماع واشنطن التي تلقي بظلّها على معظم المؤسسات المالية الدولية الغربية. كما أن هناك مؤسسات مالية جديدة في آسيا ما زالت غير موجودة في الساحات العربية، ولكنّها مرشّحة لدخولها وذلك لأن شروطها قد تكون أفضل وأقلّ عبئاً على الدول التي لا تريد الخضوع للهيمنة الغربية بشكل عام والأميركية بشكل خاص. وهذه المؤسسات تستحق مقاربة خاصة بها وإن كان سجّلها ما زال حديثاً.
بافيل كوستانتين ــ رومانيا

الخطورة في اللجوء إلى مؤسسات البنك الدولي وصندوق النقد تعود إلى أن إرشادات أو «توصيات» مجموعة تلك المؤسسات تتلازم مع شروط صارمة تضع قرار السيادة الاقتصادية والسياسية الوطنية تحت الوصاية الخارجية. وهذه الوصاية من صنع ما يُسمّى بـ«إجماع واشنطن» حيث صندوق النقد الدولي ومجموعة مؤسسات البنك الدولي والخزينة الأميركية. هذا الإجماع له مرتكزات سياسية تستند إلى فكر اقتصادي نيوليبرالي متجذّر أصبح نوعاً من العقيدة الدينية. وهذه السياسة تهدف إلى السيطرة على مقدّرات الدول التي تتدخّل فيها بحجة إعادة التوازن إليها. فكلمة السر هنا «إعادة التوازن» في المجموعات الكلّية الاقتصادية والمالية كالموازنة، وحجم الدين العام، واللاتوازن في ميزان المدفوعات في معظم الأحيان. فكل القرارات التي تتّخذها هذه المؤسسات هدفها نظرياً إعادة التوازن من دون الأخذ في الاعتبار الظروف الاقتصادية والاجتماعية السائدة والتي تتأثر سلباً عند تنفيذ «التوصيات».
هذا الوصف السريع لقرارات تلك المؤسّسات يستوجب التوضيح؛
التوضيح الأول يفرض التمييز بين قرارات صندوق النقد و«إرشادات» البنك الدولي، و«إجراءات الخزينة الأميركية». صندوق النقد الدولي يتدخّل في مالية الدولة بينما البنك الدولي يمسك بمفاصل الاقتصاد الوطني. أما الخزينة الأميركية فهي العصا الغليظ الذي تشهره ضدّ الدول العصية على «توصيات» الصندوق و/أو «إرشادات» البنك الدولي و/أو على السياسة الخارجية الأميركية. وهذه العصا الغليظة هي سلّة العقوبات التي تفرضها على مؤسسات وأشخاص في الدولة العصية على «التوصيات» أو «الإرشادات» التي تتماهى في كثير من الأحيان مع المصلحة الأميركية في بلد ما.
توصيات صندوق النقد الدولي تهدف إلى ما تُسمّيه إعادة التوازن في المتغيّرات الكّلية للاقتصاد الوطني في أية دولة كانت. في الماضي كان دور صندوق النقد الدولي، هو دور المصرف المركزي للمصارف المركزية في العالم، ومهمّته توفير السيولة للمدفوعات الدولية لدول تشكو من عجز موقت في تسديد المدفوعات الخارجية. مع الزمن تطوّر هذا الدور، وخصوصاً بالنسبة إلى الدول الناشئة المتحرّرة حديثاً من الاستعمار الأوروبي، لضبط ماليتها عبر «مساعدات» تعيد «التوازن». والمقصود بالتوازن هو ضبط عجز الموازنة وتحرير العملة الوطنية وإخراجها من سياسة تثبيت صرف العملة وتحرير الأسعار عبر رفع الدعم عن سلّة من السلع الأساسية.
بالنسبة إلى ضبط الموازنة يسعى الصندوق إلى خفض النفقات التي تقوم بها الدولة وزيادة الموارد المالية عبر زيادة الضرائب، وغالباً ما تكون الضرائب غير المباشرة التي لا تؤثّر في الطبقات الغنية بل فقط في الطبقات الشعبية والفقيرة.
النقطة الأساسية هنا هي خفض النفقات والمقصود هنا خروج الدولة من دائرة العجلة الاقتصادية ورفع الدعم عن المواد الأساسية كالمحروقات والطاقة والخبز وعدد من المواد الغذائية. أمّا خروج الدولة من الدائرة الاقتصادية فهذا يعني أن الدولة ليس من مسؤوليتها تملّك و/أو إدارة منشآت اقتصادية وبالتالي عليها أن «تبيعها» للقطاع الخاص، أي بمعنى آخر خصخصة الاقتصاد. أما في ما يتعلّق بسعر الصرف فيصرّ الصندوق على جعل سعر الصرف للعملة الوطنية يتحرّك وفقاً لمقتضيات العرض والطلب على النقد الأجنبي للحفاظ على شفافية منظومة الأسعار التي لا تخضع لدعم مقنّع من قِبل السلطات، لكن في الأساس هو المقياس الذي يحافظ على حرّية حركة الرساميل من وإلى خارج الاقتصاد الوطني وذلك دون أي قيد. هذه الإجراءات تعني أن الخدمات التي تقدّمها الدولة لمواطنيها ستنخفض ولا سيما في قطاعات حيوية كالطبابة والتعليم وتعويضات نهاية الخدمة للموظفين العاملين في القطاع العام أي تفكيك شبكة الأمن الاجتماعي. هذا يعني أن خصخصة تلك القطاعات تصبح من أولويات الدولة الخاضعة لإملاءات الصندوق. النتائج الاجتماعية قد تكون وخيمة.
المساهمات المالية التي يمنحها الصندوق متعدّدة. النوع الأول يتعلّق بقروض يمنحها الصندوق للدول الفقيرة بفوائد مخفّضة وتهدف إلى خفض الفقر بحسب زعمه. وهناك قروض تأخذ طابع تسهيلات مالية تمنحها بفوائد تجارية وعددها خمسة لن نبحثها لضيق المساحة المتاحة. والدول التي تواجه عدم توازن في ميزان المدفوعات تستطيع سحب ما يوازي 25٪ من مساهمتها في الصندوق من ذهب أو عملات قابلة للتحويل. وإذا كان ذلك غير كافٍ فيمكن أن تقترض ما يوازي ثلاثة أضعاف مساهمتها. أمّا شروط القروض فهي محدودة بالزمان وتخضع لشروط قاسية تتعلّق بقصر مدّة الاستحقاق التي لا تتجاوز في بعض الأحيان السنة أو السنتين في الحالات التي تتعلّق ببرامج تركيز الاقتصاد بينما تسهيلات أخرى قد تصل مدّة استحقاقها إلى عشر سنوات. كما أن شروط الإفراج عن تلك التسهيلات تعني الرقابة المشدّدة على سلوك الدول والالتزام بالتوصيات كما أكدّت مجموعة المانحين في مؤتمر «سيدر» في باريس. والأولوية المطلقة هي دفع الاستحقاقات في وقتها من دون أيّ تأخير. القروض الأخرى التي يمنحها الصندوق هي للدول التي تشكو من ثقل الديون المتراكمة عليها. وهذه القروض هدفها تخفيف عبء الديون الخارجية وجعل تسديدها ممكناً (وليس بالضرورة إطفاؤها!). ومن ضمن شروط الاستفادة من القروض، الخضوع التام لتوصيات الصندوق من إجراءات أهمها إعادة هيكلة المالية الوطنية والسياسة النقدية وتسديد الالتزامات الخارجية قبل الالتزامات الداخلية، أي تسديد الديون للمؤسسات المالية الخارجية.
صندوق النقد يتصرّف وكأنه المدافع عن المصارف الدولية التي تقرض الدول وهي تعلم أنها قد تكون عاجزة عن تسديد الديون. مثال اليونان هو خير دليل على ذلك. أما الدول التي يمكنها الاستفادة من تلك القروض والتسهيلات المالية فليست كلّها مؤهّلة لذلك. هناك قائمة بنحو 80 دولة مؤهّلة وفقاً لمعايير يفرض الصندوق ولبنان ليس منها حتى الآن!
أما مجموعة البنك الدولي فهي تضمّ خمس مؤسسات أولها مؤسسة البنك التي تتعامل فقط مع الدول. ثانياً، المؤسسة الدولية للتنمية (إيدا) التي تمنح القروض بفوائد مخفّضة جدّاً قريبة من الصفر للدول الأكثر فقراً. ثالثاً، المؤسسة المالية الدولية (IFC) التي تتعاطى فقط مع القطاع الخاص لتمويل مشاريع متوسطة الأجل. رابعاً، مؤسسة متعدّدة الأطراف لضمان الاستثمارات والمعروفة تحت اسم «ميغا» والتي تضمن للمستثمر الخارجي حماية استثماره من إجراءات تعسّفية قد تأخذها الدولة المستضيفة بحق المستثمر الخارجي. وخامساً، المركز الدولي لفضّ الخلافات حول الاستثمارات أو مؤسسة «إيكسد». لن نسترسل في مهام هذه المؤسسات لضيق المساحة غير أنها تستحق شرحاً مفصّلاً حول أعمالها.
النتيجة هي إعادة هندسة للمجتمع وتبعية للخارج بغضّ النظر عن التوتّر الاجتماعي الذي يرافقه


البنك الدولي له «إرشادات» مختلفة ولكنّها تصبّ في إطار خصخصة الاقتصادات الوطنية وإخراج الدولة من دائرة العجلة الاقتصادية. فبعد حقبة الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي حين انصبّت جهود مؤسسات البنك الدولي على إعادة هيكلة الاقتصادات التي كانت تتبع التخطيط المركزي وحيث كانت الدولة المحرّك الأساسي للعجلة الاقتصادية، تحوّلت في مطلع الألفية الثالثة إلى تمويل برامج تحارب الفقر وتنشر المعرفة التنموية عبر مساعدات تقنية. كما أنها تهدف إلى إيجاد «البيئة الملائمة للاستثمار الخارجي» الذي لولاه لا يمكن أن ينتعش أي اقتصاد. فمن ثوابت البنك الدولي فرضية أن المدّخرات الوطنية غير كافية لتمويل المشاريع التنموية في القطاع الخاص، وبالتالي هناك حاجة إلى دعوة الرساميل الخارجية ضمن بيئة تضمن حماية تلك الاستثمارات الخارجية. والاستثمار الخارجي المباشر يعني تسليم المقدّرات الاقتصادية الاستراتيجية للرساميل الخارجية بعد فرض تشريعات تسمح بذلك. فقطاعات الطاقة والمواصلات وسائر المواد الاستراتيجية والمرافق الحيوية كالمرافئ والمطارات لا يمكن أن تنهض بالرساميل الوطنية، ولذلك لا بدّ من إيجاد بيئة اقتصادية ومالية مؤاتية لجلب تلك الرساميل. هذا هو ادّعاء البنك الدولي الذي تصعب الموافقة عليه. فالأدلّة التي تنقض هذا الادّعاء كثيرة كما حصل أخيراً في مصر في عملية توسيع قناة السويس على سبيل المثال. استطاعت الحكومة المصرية تمويل المشروع بستة مليارات دولار من المدّخرات الوطنية.
أمّا في ما يتعلّق باليد العاملة فعليها أن تستمر في الرخص لتمكين الجدوى الاقتصادية وربحية رأس المال سواء كان وطنياً أو أجنبياً. من هنا الضغط المستمر على خفض الرواتب والأجور! والجدير بالذكر أن ذلك التوجّه يستوجب مشاركة ما يُسمّى ببعض رموز الرأسمالية الوطنية التي تتخذ «شراكة استراتيجية» مع شركات دولية لها القدرة والمعرفة على إدارة المشاريع وتسويق المنتجات. هناك طبقة محلّية تنتفع من تلك الشراكة الخارجية للحفاظ على «طابع وطني». لكن في كثير من الأحيان وخاصة في قطاعات استراتيجية كالنفط والغاز والمعادن «الشراكة الوطنية» غير مستحبّة بل مرفوضة. التحكّم بالموارد الطبيعية الاستراتيجية من الحق الحصري غير المعلن للشركات الدولية.
سجلّ البنك الدولي في العديد من الدول حافل بهذا النوع من التوصيات وخصوصاً في أميركا اللاتينية.
النظام النيوليبرالي الذي يوصي به البنك الدولي يعطي القوامة في الاقتصادات الوطنية إلى السياسات النقدية. وبالتالي تصبح المصارف متحكّمة بمجريات الأمور في تلك الاقتصادات. الهدف من هذه السياسات تحويل المجتمعات الخاضعة لذلك النظام إلى مجتمعات استهلاكية تنفق مدخولها وتستدين في سبيل الاستهلاك لكن ذلك فقط بين المواطنين. فعلى الدولة أو القطاع العام تقليص النفقات إلى أقصى الحدود حرصاً على «التوازن» المالي. النتيجة هي إعادة هندسة المجتمع والتبعية للخارج بغضّ النظر عن التوتّر الاجتماعي الذي يرافقه.

* اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي