المواضيع المتّصلة باستقلالية المصرف المركزي، أو المتفرّعة عنها، تشدّ أنظار اللبنانيين، خصوصاً في اللحظة اللبنانية الاستثنائية الراهنة. هناك تشوّق في بلادنا لمعرفة كل ما يتّصل بالأزمة النقدية والمصرفية الحادّة التي غرق فيها لبنان. سرعان ما يكتشف الباحث أن موضوع الاستقلالية في العالم المعاصر لا يشبه محاور وإشكاليات استقلالية المصرف المركزي في لبنان. ففيما يسود الخلاف الجوهري، وأحياناً الصراع، علاقة مؤسّسة الإصدار (المصرف المركزي) بالدولة، أو علاقة السياسة المالية بالسياسة النقدية، تتناغم هاتان السياستان في لبنان منذ عقود وتسعيان إلى هدفين موحّدين، وهما تمويل عجز الموازنة وتثبيت سعر الصرف.1. المصارف المركزية تكسب الحرب
نشأت المصارف المركزية في القرن السابع عشر كشركات مصرفية خاصّة تتمتّع بامتياز إصدار النقد، مقابل اضطلاعها بتأمين تمويل الدولة. ومع الأزمات النقدية المتتالية، لا سيما في العقد الثالث من القرن العشرين، اتّجهت الدول الأوروبية إلى تعزيز تدخّلها في الشؤون الاقتصادية.
تزامناً مع هذا الاتّجاه، لم تعد المصارف المركزية في أواسط القرن العشرين ملكاً للدولة فحسب، بل أصبحت خاضعة لسيطرتها وتوجيهها. وتوسّعت ظاهرة تأميم مؤسّسات الإصدار وإنشاء المصارف المركزية الجديدة كمؤسّسات مملوكة من الدولة.
بخلاف المصارف المركزية في البلدان الغربية الأخرى كان البندسبنك الألماني، بعد الحرب العالمية الثانية، شذوذاً على القاعدة لجهة تمتّعه باستقلالية أسطورية بحماية حماسية من الرأي العام. يرجع ذلك إلى أن ألمانيا كانت أكثر البلدان التي عانت من الانهيارات النقدية والاجتماعية، بفعل سيطرة السياسة على القرارات المؤثّرة على النقد.


اعتباراً من سبعينات القرن الماضي شهدت اقتصادات الدول الصناعية انعطافاً جديداً بفعل موجات التضخّم العاتية وتضخّم الدين العام، خصوصاً بفعل الازدياد الكبير في الإنفاق العام، الناجم عن تدخّل الدولة في الحياة الاجتماعية وتعاظم الإنفاق الاجتماعي على وجه الخصوص. فقد تعرّض دور الدولة لانتقادات حادّة أسّست لنشوء الليبرالية الجديدة، واتّهمت الدولة بأنها مؤسّسة فاشلة ومسؤولة عن تضخّم الدين العام.
وفقاً لأرقام صندوق النقد الدولي، ارتفع الإنفاق الحكومي في الدول الصناعية من 28% من الناتج المحلي سنة 1960 إلى 50% سنة 1995، أما نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي فقفزت من 40% سنة 1980 إلى 70% بعد 15 سنة فقط.
وحسب المصدر نفسه، ارتفع الدين العام نسبة إلى الناتج المحلي بين سنتي 1980 و1990، أي خلال عقد واحد فقط، من 21% إلى 48.5% في فرنسا، ومن 57% إلى 129% في إيطاليا، وفي الولايات المتّحدة الأميركية من 44% إلى حوالى 70%.
في غمرة صعود الليبرالية الجديدة شكلت اتفاقية الوحدة النقدية، انتصار استقلالية المصرف المركزي على تدخّل الدولة في النطاق الأوروبي. فقد اعتُبرت هذه الاستقلالية المطلقة شرطاً لازماً لانتساب أي دولة أوروبية إلى اتفاقية الوحدة. بمعنى آخر، كرّست الاتفاقية المذكورة نظام البندسبنك الألماني كنموذج غير منازع للبنك المركزي الأوروبي والمصارف المركزية الوطنية الأوروبية.
يستند الأساس النظري لاستقلالية مؤسّسات الإصدار إلى ضرورة عزل السياسة النقدية عن المصالح السياسية. فالسياسيون يسعون لفرض سياسات توسّعية لخلق الوظائف وزيادة النموّ الاقتصادي، خصوصاً في المراحل التي تسبق الانتخابات، إلّا أن هذه السياسات من شأنها الإضرار بقيمة النقد لأنها تؤدّي إلى التضخّم.
وهكذا اعتمدت الدول الأوروبية الأعضاء في اتّفاقية الوحدة النقدية الفصل المطلق بين السياسيين والمسؤولين عن النقد. فعهدت قوانينها إلى المصرف المركزي مهمّة حراسة المجتمع ضدّ مخاطر التضخّم، وهي مهمّة يتولّاها المصرف المركزي وحده من دون أيّ تدخّل من الحكومة. في هذه البلدان لا يجوز لمسؤولي المصرف المركزي تلقّي أيّ تعليمات من السلطات السياسية بشأن إدارة النقد واستعمال الأدوات النقدية، وأهمّها تحديد معدّلات الفائدة ونسب الاحتياط الإلزامي وعمليات السوق المفتوحة.
إن رسوّ تشريعات المصارف المركزية على هذه القواعد لم تمنع استمرار الصراع بين الزعماء السياسيين ومسؤولي المصارف المركزية، خصوصاً خارج الاتّحاد الأوروبي. والصراع التقليدي يدور بين اتّجاه الحكومة إلى خفض معدّل الفائدة لرفع النموّ الاقتصادي وخلق الوظائف، وبين تشدّد المصرف المركزي في الحفاظ على معدّل مرتفع للفائدة للجم التضخم والحفاظ على قيمة النقد.
2. استقلالية مصرف لبنان
بين مصارف مستقلّة بحماية القانون ومصارف أخرى أخضعها التشريع للدولة، يشكّل مصرف لبنان حالة فريدة: لقد خصّه قانون النقد والتسليف بدرجة عالية من الاستقلالية، لكنه لا يستطيع ممارستها، لأن الدولة اللبنانية لا تفهم استقلالية المؤسّسات عن السلطة ولا تعترف بها.
تأسّس المصرف المركزي اللبناني سنة 1963، وهو من أهمّ ثمار الإصلاح الإداري والاقتصادي الذي قاده الرئيس فؤاد شهاب. وقد عهد الرئيس شهاب بإعداد هذا القانون الثوري والمحوري إلى الخبير في الشؤون المصرفية جوزف أوغورليان، المدير العام السابق لبنك سورية ولبنان.
أعطى القانون مصرف لبنان استقلالية واسعة عن الحكومة، بل استقلالية شبه كاملة. ويلاحظ أن التشريع اللبناني سبق قوانين معظم الدول الصناعية في تكريس استقلالية المصرف المركزي. ففيما كانت قوانين تلك البلدان، ما عدا البندسبنك، تُخضع مصارفها المركزية للدولة، خصّ القانون اللبناني المصرف المركزي باستقلالية واسعة عن الحكومة، وبقي ذلك إلى حين تأسيس الوحدة النقدية الأوروبية حيث تقدّمت تشريعات المصارف الأوروبية متجاوزة مصرف لبنان لتصبح في مستوى استقلالية المركزي الألماني.
حدّد القانون المهمّة العامّة لمصرف لبنان بالمحافظة على سلامة النقد اللبناني والاستقرار الاقتصادي وأوضاع النظام المصرفي. وعندما يحدّد القانون هذه المهمّة لمصرف لبنان فذلك يعني، نظرياً، أنه يستطيع ممارستها باستقلالية واسعة ومن دون الرجوع إلى الحكومة. وتضمّن القانون سلّة واسعة من الأدوات النقدية والمصرفية التي أجيز للمصرف استعمالها لكي يتمكّن من تطبيق سياساته بحرية واستقلال عن سياسات ورغبات الدولة.
ولكي يتمكّن مصرف لبنان من ممارسة هذه الاستقلالية، نصّ القانون على مجموعة من التدابير التنظيمية التي تحميه من تعسّف السلطة السياسية، مثل منع إقالة الحاكم ونوابه قبل نهاية ولايتهم القانونية وعدم خضوع المصرف لمؤسّسات الرقابة أسوة بإدارات الدولة ومؤسّساتها الأخرى.
لكنّ استقلالية مصرف لبنان لم توضع على المحكّ إلا لفترة قصيرة بين 1985 و1991، وهي فترة ولاية الحاكم الراحل إدمون نعيم. قبل هذه الفترة كانت الأوضاع النقدية مستقرّة بما ينفي أي مجال للصراع بين المصرف والدولة، كما لم تكن الدولة بحاجة إلى الاستقراض من المصرف لأنّ انهيارها المالي بفعل الحرب الأهلية لم يبدأ فعلياً قبل سنة 1984.
عندما فقدت الدولة سيطرتها على مواردها بفعل ضعف سلطتها وسيطرة الميليشيات على الأرض، وجدت في قروض المصرف المركزي بديلاً من مواردها العادية، رغم أن القانون يحظر بشكل شبه مطلق «تنقيد الدين العام» أي اللجوء إلى خلق النقد من قبل المصرف المركزي لتسليف الخزينة، لأن هذه الأداة هي من أكبر مصادر التضخّم والتأثير السلبي على قيمة العملة.
فقد قيّد التشريع اللبناني اقتراض الدولة من مصرف لبنان بقيود صارمة، مع تأكيد مبدأ حظر إقراض مصرف لبنان للدولة. ولا يعني ذلك أن مصرف لبنان هو حرّ في تسليف الدولة أو عدم تسليفها، بل محظور عليه إقراض القطاع العام إلا ضمن الضوابط الصارمة التي رسمها القانون. فسمح له بمنح الدولة فقط تسهيلات صندوق لا تتعدّى 10% من واردات الموازنة العامّة في السنوات الثلاث الأخيرة.
بعد الاعتداء على إدمون نعيم بسبب رفضه تمويل بعض طلبات الوزارات لم يعد مصرف لبنان يعترض على اقتراض القطاع العام وفقد استقلاليته بالكامل في هذا الشأن


أما في «الظروف الاستثنائية الخطيرة وحالات الضرورة القصوى» فيمكن تسليف الدولة بشروط صارمة بعد أن يستنفد المصرف والدولة كل الأبواب الأخرى لتأمين تمويل الخزينة.
أمام شهيّة الحكومة للاقتراض المفرط من المصرف، قرّر الحاكم ادمون نعيم التصدّي لرغبات الحكومة رغم الضغوط التي تعرّض لها من السلطة السياسية. ولم يتورّع المصرف في عهده، عن رفض بعض طلبات القروض الواردة إليه من وزارات الدولة، مغامراً بانفجار العلاقة بينه وبين السلطة، خصوصاً بعد النهاية الرسمية للحرب الأهلية وقيام «دولة الطائف» التي كانت تعتقد أن كل الأمور في الدولة باتت تعود لها بعد انتهاء سلطة الميليشيات.
ولم تأبه الدولة لنصوص قانون النقد والتسليف التي تحظر اقتراض القطاع العام من المصرف المركزي، لأنها بنظر نفسها هي القانون. وإزاء شجاعة مصرف لبنان بقيادة نعيم وتمرّده على رغبات الحكومة، أرسل وزير الداخلية مجموعة من عناصر الأمن الداخلي لجلب الحاكم إلى مكتبه بقوّة السلاح. ولمّا رفض الحاكم الانصياع لقرار «الجلب» هذا، تمّ الاعتداء الجسدي عليه وسُحب من قدميه من مكتبه في الطابق السادس إلى الطابق الأرضي ورأسه إلى الأرض، حتى تمكّن من الإفلات من خاطفيه بمساعدة موظفي المصرف.
بعد تلك الواقعة وانتهاء ولاية نعيم لم يعد مصرف لبنان يعترض على قرارات اقتراض القطاع العام. لقد فقد المصرف استقلاليته بالكامل في هذا الشأن. إن العلاقة بين مصرف لبنان والدولة منذ سنة 1993 تتميّز، ليس فقط بقبول مصرف لبنان إقراض الدولة فحسب، بل اعتبر أن هذا التمويل هو من أولوياته، سواء باستعمال معدّل الفائدة لتشجيع المصارف على الاكتتاب بإصدارات الدين العام أو عبر القروض المباشرة التي كان يوفّرها هو للخزينة، خلافاً لقانون النقد والتسليف. في تشرين الأوّل الماضي بلغت محفظة مصرف لبنان 55% من الدين العام بالليرة اللبنانية و12% من سندات اليوروبوندز.

منذ 1993 وخلافاً لقانون النقد والتسليف أعطى مصرف لبنان الأولوية لإقراض الدولة عبر استعمال معدّلات الفائدة لتشجيع المصارف على الاكتتاب بإصدارات الدين أو عبر القروض المباشرة للخزينة


لقد تسنّى لي عرض علاقة مصرف لبنان مع الدولة في مرحلة ادمون نعيم في كتابي الذي صدر عن دار سائر المشرق قبل عام بعنوان «وراء أسوار مصرف لبنان – نائب حاكم يتذكّر». أما تفاصيل العلاقة بين المصرف والدولة بين 1993 ووقتنا الحاضر فتستحقّ دراسة خاصّة موسّعة يجب صياغتها ووضعها بتصرّف «الأخبار» وقرّائها في الوقت المناسب.
وبذلك تكتمل صورة تجربة مصرف لبنان مع الدولة منذ بدء أزمة المالية العامّة قبل خمس وثلاثين سنة وحتى اليوم.
ويمكن استباق هذه الدراسة بإصدار رأي مسبق حول هذه التجربة، وهو أن القانون اللبناني كان سبّاقاً بين تشريعات المصارف المركزية في العالم بإعطاء مصرف لبنان استقلالية عن الحكومة مكتملة الأركان. لكن المصرف لم يتمكّن من استعمال هذا الامتياز التشريعي لأن الدولة في لبنان لم تُعر النصوص التشريعية أي اهتمام ولم تسمح لمصرف لبنان أن يمارس وظائفه باستقلالية عن سلطانها.
وهذا يثبت أن استقلالية المؤسّسات لا يحميها القانون، بل مستوى الممارسة الديمقراطية في كل بلد، ودرجة احترام المؤسّسات فيه.
قبل الوحدة النقدية الأوروبية كانت المصارف المركزية الأوروبية تمارس دورها بحرية وتحدّد السياسة النقدية وفقاً للمصلحة العامّة كما تراها، مع أن القانون كان، وقتها، يعتبر هذه المصارف خاضعة للدولة. بينما في لبنان، سطّر قانون المصرف المركزي استقلالية المصرف بأوضح وأشدّ العبارات، ولكنه كان ممنوعاً من ممارستها.

* نائب حاكم مصرف لبنان السابق



موادّ قانون النقد والتسليف المتعلقة باقتراض الخزينة من مصرف لبنان

المادة 88
يُجاز لمصرف لبنان أن يمنح الخزينة بطلب من وزير المالية تسهيلات صندوق لا يمكن أن تتعدّى قيمتها 10% من متوسط واردات موازنة الدولة العادية في السنوات الثلاث الأخيرة المقطوعة حساباتها ولا يمكن أن تتجاوز مدّة هذه التسهيلات 14 شهراً.

المادة 89
تعطى الحكومة إجازة دائمة تخوّلها اللجوء إلى الاستلاف المنصوص عليه في المادة 88 كلما تبيّن لوزارة المالية ولمصرف لبنان أن موجودات الخزينة الجاهزة لدى هذا المصرف غير كافية لمواجهة التزامات الدولة الفورية، إلا أن هذه الإجازة لا يمكن استعمالها أكثر من مرّة واحدة خلال 12 شهراً.

المادة 90
باستثناء تسهيلات الصندوق المنصوص عليها في المادتين 88 و89، فالمبدأ ألا يمنح المصرف المركزي قروضاً للقطاع العام.

المادة 91
إلا أنه في ظروف استثنائية الخطورة أو في حالات الضرورة القصوى، إذا ارتأت الحكومة الاستقراض من المصرف المركزي، تحيط حاكم المصرف المركزي علماً بذلك. يدرس المصرف المركزي مع الحكومة إمكانية استبدال مساعدته بوسائل أُخَر، كإصدار قرض داخلي أو عقد قرض خارجي أو إجراء توفيرات في بعض بنود النفقات الأخرى أو إيجاد موارد ضرائب جديدة... وفقط في الحالة التي يثبت فيها أنه لا يوجد أي حلّ آخر، وإذا أصرت الحكومة، مع ذلك على طلبها، يمكن المصرف المركزي أن يمنح القرض المطلوب.
حينئذ يقترح المصرف المركزي على الحكومة، إن لزم الأمر، التدابير التي من شأنها الحدّ مما قد يكون لقرضه من عواقب اقتصادية سيئة وخاصة الحدّ من تأثيره، في الوضع الذي أعطي فيه، على قوّة النقد الشرائية الداخلية والخارجية.