كيف يجب أن تُدار ما تبقى من احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية؟ هذا السؤال يأتي في ظل دفع تقوم به بعض قوى النفوذ لفرض أجندة ”إصلاحات“ هادفة لإنعاش النموذج الحالي المنهار. وتسوّق هذه القوى، أن لبنان بحاجة إلى استدانة 25 مليار دولار من صندوق النقد الدولي والمانحين الدوليين، من ضمنها 10 مليارات دولار تستخدم لإعادة رسملة القطاع المصرفي. أما سلوك حاكم مصرف لبنان رياض سلامة تجاه الأزمة، فلا يترك مجالاً للشكّ بأن أولوياته إبقاء المصارف بحالة ”قيد الانهيار“ من دون إفلاسها فعلياً، على أن تُعاد رسملتها عبر آليات مستترة مموّلة بالسيولة المتوافرة حالياً في لبنان، أي من احتياطاته بالعملات الأجنبية البالغة 30 مليار دولار، أو من الأموال المدّخرة في المنازل والتي يقدّرها بنحو 6 مليارات دولار.
أركاديو اسكيفيل ــ كوستاريكا

عملياً بدأ هذا الأمر يحصل. الزيادة الأخيرة لرساميل المصارف التي فرضها مصرف لبنان على المصارف، نصّت على ضخّ مقدمات نقدية بالدولار تبيّن أن المساهمين وفّروها من ودائعهم في المصارف، أي أنها مُوّلت من احتياطات مصرف لبنان ولم تأتِ من الخارج. كذلك، فإن وجود سوقين لسعر الصرف، بفارق يتجاوز 30% بينهما، يدفع المودعين إلى سحب أموالهم بالليرة وتحويلها عند الصرافين بالسعر الأعلى، فيما سيتصرف الصرافون بهذه الأموال لتسديد قروض عن زبائن متعثّرين. بعبارة أخرى، يتم اقتطاع الودائع والمدّخرات من أجل تخفيف الأعباء عن ميزانيات المصارف المثقلة بالتعثّر والتخفيف من أعباء زيادة الرساميل مستقبلاً.
كل ذلك يتم من خلال الدولارات المتوافرة في السوق المحلية. لم يأت أي دولار طازج من الخارج. فهل هذا السلوك هو الأمثل لإدارة السيولة في هذه المرحلة؟ هل يجب على اللبنانيين أن يدفعوا ثمن هذه السياسات مرات ومرات، سواء بتقلّص قدراتهم الشرائية بفعل وجود سوقين لسعر الصرف، أم من مدخراتهم في المصارف؟ هل هذا هو أصلاً الهدف الذي يجب أن نسعى إليه لتحديد أولويات السياسة النقدية؟
يقول رئيس حركة «مواطنون ومواطنات» شربل نحاس، إن مصرف لبنان يتصرّف وفق سلسلة من الأولويات واضحة ومتناقضة مع ما يجب القيام به. ففي ظل انعدام التدفقات المالية من الخارج، لم يبق أي موجودات لدى النظام المصرفي بالعملات الأجنبية إلا ما هو موجود لدى مصرف لبنان أو الموارد المالية النقدية الموجودة لدى الناس، حتى إن الموجوادت الخارجية للمصارف باتت توازي أو أقل من مطلوباتها تجاه المصارف الأجنبية. أما أولويات مصرف لبنان فهي على النحو الآتي:
ــ الأولوية المتقدّمة هي حجز الكمّ اللازم من الأموال المتوافرة في احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية لتسديد الأصول والفوائد (الدين وخدمة الدين) بالعملات الأجنبية.
ــ الأولوية الثانية تكمن في تأمين مبلغ من احتياطاته لاستيراد المحروقات والقمح والأدوية، مع ما اعترى هذه الآلية من مشاكل واستنسابية في التعاطي.
ــ الأولوية الثالثة هي تأمين سيولة بالعملات الأجنبية للمصارف من احتياطات مصرف لبنان يتم توزيعها استنسابياً وتتصرف المصارف بها بشكل استنسابي أيضاً.
يتماشى سلّم أولويات مصرف لبنان مع نظرة تنطوي على اعتبار التوقف عن الدفع هو نهاية العالم. بالنسبة إلى نحاس، في هذه الحالة يصبح مبرراً اعتبار مجرد تأجيل التوقف عن السداد بأي ثمن غاية أساسية، فيما ”يجب أن نتعامل مع الأزمة الحالية على أنها مرحلة انتقالية يتحوّل فيها وضع البلد اقتصادياً واجتماعياً إلى الأفضل. ما يحصل اليوم هو تأجيل أمر محتوم بمعزل عن النتائج على المؤسّسات والاقتصاد من إغلاق وهجرة“.
خلافاً لما يجري حالياً، يرى نحاس أنه تجب ”إدارة المرحلة بما يحافظ على المقدرات الإنتاجية والاجتماعية من مؤسّسات ورأسمال بشري، بعد ذلك يأتي دور النظام المالي ليؤدي وظيفته الفعلية في إدارة المدّخرات وتمويل الاستثمارات، ثم تأتي مسألة المالية العامة لأن الدولة يجب أن تتحمل وظيفة الدرع لحماية المجتمع من الأفعال التي قامت بها السلطة الفاشلة والعلاقات مع الخارج“.


إذاً، ما هي السيولة المتوافرة وكيف تجب إدارتها؟
يعتقد رئيس المركز الاستشاري للبحوث عبد الحليم فضل الله، أن الفترة الزمنية المستهدفة للإنقاذ، أي فترة إدارة السيولة، تمتدّ إلى ثلاث سنوات لسيولة تقدّر قيمتها بما بين 40 مليار دولار و45 مليار دولار. هذا الرقم يأخذ في الاعتبار الاحتياطات المتوافرة لدى مصرف لبنان والسيولة النقدية المدّخرة في المنازل ودخول بعض الأموال من المغتربين إلى عائلاتهم في لبنان وإمكان لجوء بعض المستوردين لاستعمال أرصدتهم في الخارج لتمويل بعض عمليات الاستيراد.
من أصل هذا المبلغ، هناك نحو 20 مليار دولار هي احتياطات إلزامية لا يمكن المسّ فيها، ”ويبقى لدينا ما بين 20 أو 25 مليار دولار تُعتبر سيولة قابلة للاستعمال". وضمن فرضية عدم دخول أموال إضافية من الخارج، سواء بشكل تلقائي أم عبر برامج خارجية ”يجب استخدام هذه السيولة لتغطية السلع الأساسية والحيوية: السلع المغطاة بدولارات من مصرف لبنان، والسلة الغذائية الأساسية التي تصل قيمتها إلى ١.٣ مليار دولار، فضلاً عن المستلزمات الطبية وبعض التجهيزات الصناعية وبعض الحاجات الأساسية الأخرى“. وفي المحصّلة، تشكّل الحاجات الأساسية ما بين 6 مليارات دولار و7 مليارات دولار. لذا، يتوجب على لبنان ”خفض فاتورة الاستيراد إلى النصف، وهذا ممكن، إلا أنه يحتاج إلى إدارة مباشرة للاستيراد“ وفق فضل الله.
بمعنى آخر، ما يقوله فضل الله، أن إدارة السيولة في الفترة الإنقاذية، لا يمكن أن تتم بطريقة غير مباشرة عبر استعمال الرسوم الجمركية والقيود الفنية، بل يجب أن تكون هناك رقابة مباشرة لعملية الاستيراد، أي تحديد السلع الواجب تمويلها بدولارات مصرف لبنان من دون أن يعني ذلك منع استيراد باقي السلع، بل تكون هذه الأخيرة على عاتق المستوردين.
فضل الله: السيولة المتوافرة مقدّرة بنحو 45 مليار دولار منها 20 مليار دولار لا يمكن المسّ بها ويجب تخصيص 7 مليارات دولار لاستيراد السلع الأساسية


هنا يأتي السؤال الأهمّ: هل نسدّد الديون ونحمي المصارف؟ ”برأيي الشخصي، لا شكّ في أن تأمين الحاجات الأساسية هو الأولوية، ولا يعني ذلك أن عدم تسديد الديون يتم بطريقة عشوائية تؤثّر على تصنيف البلد، بل يجب أن تُدار بما بتناسب مع حالات مماثلة في العالم“ بحسب فضل الله.
ما لم يقله فضل الله، بأنه لا توجد حالات مماثلة في العالم إلا حالة التوقّف عن السداد وإعادة هيكلة الدين العام من خلال آليات وقنوات معتمدة علينا أن نفكر باعتمادها، وخصوصاً أن قيمة الدين المستحق بين أصل وفوائد خلال السنوات الثلاث المقبلة تبلغ 12.8 مليار دولار، أي ما يوازي 15% من مجمل الدين، وما يوازي 42% من مجمل احتياطات مصرف لبنان المعلنة من دون الأخذ في الاعتبار قيمة الاحتياطات الفعلية القابلة للاستعمال والمقدّرة بأقل من 6 مليارات دولار.

نحاس: يجب أن نتعامل مع الأزمة الحالية على أنها مرحلة انتقالية يتحوّل فيها وضع البلد اقتصادياً واجتماعياً إلى الأفضل وما يحصل اليوم هو تأجيل أمر محتوم


أما إعادة رسملة المصارف التي تُعدّ اليوم في حالة إفلاس، فيجب أن تكون ”عملية موازية“. يقدّر فضل الله أن هذه الرسملة ستكون بالحدّ الأدنى بين 15 مليار دولار و20 مليار دولار ”يجب أن تتم من أموال من خارج البلد. هناك أموال طائلة تراكمت من قبل المصارف طوال الفترة الماضية يمكن استخدامها بطريقة شرعية لإعادة الرسملة، ويجب أن تتوازى هذه العملية مع إعادة هيكلة القطاع المصرفي“.
من المهم في هذا المجال، ألا ينافس القطاع المصرفي الدولة على السيولة المتوافرة المدّخرة في المنازل لإعادة تكوين رساميله، كما حصل أخيراً في الزيادة التي فرضها مصرف لبنان على المصارف لزيادة رساميلها عبر مقدمات نقدية بالدولار سحبها المساهمون من ودائعهم من المصارف المحلية“.
الواضح بالنسبة إلى فضل الله، أنه في ظل تداخل القطاع الخاص مع المصارف ومع مصرف لبنان والدولة ”يجب أن تكون لدينا مركزيّة في عملية إدارة السياسات“.