في الآونة الأخيرة، كثُر الحديث عن استحقاقات لبنان المالية المقبلة، الداخلية والخارجية، وقدرة الدولة على تسديدها، وإذا كان يفترض تسديدها أو التخلّي عن ذلك. كلمة "يوروبوندز" باتت رائجة وتستحوذ على اهتمام واسع من اللبنانيين المشغولين بالأزمة الاقتصادية والمالية. بشكل عام الـ"يوروبوند" هو نوع من أنواع السندات الصادرة عن الدولة والتي تمثّل الشق الخارجي من ديونها. السند هو شيء شبيه بالعقد بين طرفين، دائن ومدين. من خلاله يعطي الدائن للمدين رأسمالاً محدداً. وفي المقابل يتعهّد المدين بإعادة المبلغ بعد مدّة من الزمن تُحَدَّد في العقد بالإضافة إلى دفعات هي عبارة عن فائدة سنوية يُقسّم دفعها عادةً على كل نصف سنة. وقد يختلف توقيت الدفعات بحسب السند (بعضها سنويّ، والآخر كل ثلاثة أشهر أو شهرياً). الجهة المدينة التي أصدرت هذه السندات، قد تكون من شركات القطاع الخاص، أو جهة عامة (وزارة مال، بلدية، مؤسسة عامة...). أما الجهة الدائنة فهي عادةً تكون جهة خاصّة مثل أفراد أو شركات الاستثمار الماليّة.
وللسند ثلاث خصائص أساسية: الأولى هي رأس المال المتفق عليه بين الطرفين، والثانية هي الفائدة على السند التي تُحَدَّد كنسبة مئوية من رأس المال، والثالثة استحقاقه، أي المدّة المتّفق عليها لتسديد رأس المال. هذه الخصائص الثلاث ثابتة لا تتغيّر الا في بعض الحالات الاستثنائية التي تُذكر في بنود خاصة ضمن السند.
العامل الأهم بالنسبة إلى الجهة المدينة هو الفائدة لأنها تحدّد كلفة الاقتراض وهذا أمر أساسي لدراسة جدوى الاقتراض. وتُحَدَّد الفائدة من خلال تحديد المخاطر المترتّبة على الجهة الدائنة في عملية الإقراض هذه، فكلّما ارتفعت المخاطر توقّعت الجهة الدائنة أن تحصل على عائدات أعلى من العمليّة. والمخاطر التي تُؤخذ في الحسبان عديدة، فمثلاً هناك مخاطر تغيّر سعر صرف العملة التي يصدر بها السند، أو المخاطر الائتمانيّة وهي التي تتعلق باحتمال تخلّف الجهة المدينة عن سداد الدين، وغيرها. ولتسهيل عمليّة احتساب المخاطر تأتي شركات التصنيف الائتمانية وتحتسب وتحدد تصنيف الجهات المدينة مثل الدول والشركات، وعلى أساس هذا التصنيف يتم احتساب الفائدة على سندات هذه الجهات أو تلك. هذه الفائدة، هي ثابتة على طول مدّة السند وهي غير متعلقة بتغيّر فائدة السوق.
المتغيّر الناجم عن تقلّبات فائدة السوق، هو سعر السند في السوق الثانويّة؛ كلّما ارتفعت فائدة السوق انخفض سعر السند والعكس صحيح. فعلى سبيل المثال، إذا ارتفعت الفائدة السوقية، تصبح عائدات السندات التي صدرت سابقاً أدنى من عائدات السندات التي صدرت على الفائدة السوقية الجديدة، رغم أن المخاطر على السندين هي نفسها، فيصبح من المنطقي أن يقلّ الطلب على السند القديم، وهذا الأمر هو الذي يتسبّب بانخفاض سعره. هذا الأمر حصل مع لبنان عندما خُفّض تصنيفه الائتماني ما رفع درجة المخاطر الائتمانية على سنداته وارتفعت الفائدة عليها لتصبح أعلى من الفائدة على الإصدارات السابقة ما أدّى إلى انخفاض سعر الإصدار القديم.
خاصية الـ"يوروبوند" أنه يصدر بعملة أجنبيّة بالنسبة إلى الطرف المدين. وقد جرت العادة أن تصدُر هذه السندات في الأسواق المالية الأوروبية، لذا أدخلت إليها كلمة "يورو". محليّاً، أصدر لبنان سندات "يوروبوندز" بقيمة 32 مليار دولار، وبما أنّ إحدى مشاكل لبنان الحاليّة، نقص المخزون بالدولار، وهي عملة الغالبيّة الساحقة من إصدارات الـ"يوروبوندز" اللبنانية، بدأت حالة الشكّ في قدرة الدولة على الالتزام بتسديد الاستحقاقات، وانطلق نقاش عن وجوب سداد هذا الدين أو التخلّف عن سداده وإعادة جدولته أو هيكلته والنتائج المترتبة على خطوة كهذه قد تعرض لبنان للدعاوى أمام المحاكم الماليّة الخارجيّة والحجز على أصول الدولة وموجوداتها وأي عائدات مستقبلية يمكن أن تنتج عن قطاع النفط.
هناك تناقض بين بند يتنازل عن الحصانة وآخر يؤكّد السيادة اللبنانية


في البيان التمهيدي الأجدد لإصدارات الـ"يوروبوندز" اللبنانية (عام 2018)، وأيضاً في البيانات المكمّلة الخاصة بكل إصدار، تبيّن وجود بعض البنود في فقرة الأحكام والشروط تتحدث عن حالة التخلّف عن الدفع. أحد البنود يشير إلى أنه يحقّ لـ25% من حاملي السندات، على الأقل، في حال تخلّف الجهة المدينة عن الدفع، أن يطالبوها بتسديد جميع رؤوس الأموال المقترضة حالياً. وتذكر البنود أيضاً أنه يحق لـ50% من الدائنين على الأقل أن يبلغوا الدولة اللبنانية، أن طلب المجموعة السابقة مسحوب وبالتالي يكون الطلب الأول قد أُبطل. من المفترض أن يكون هذا خبراً سارّاً لأن الجزء الأكبر من سندات الـ"يوروبوندز" مملوكة من جهات داخليّة لبنانيّة، وبشكل خاص المصارف المحليّة التي يسهل التفاوض معها مقارنة مع الجهات الخارجية. التفاوض مع المصارف اللبنانية أسهل، لأنها خالفت أول وأهم قاعدة في العلوم الماليّة، وهي أن لا تضع كل استثماراتك في مكان واحد، بينما هي قد وضعت معظم استثماراتها في سلّة واحدة وهي الدين العام اللبناني. وفي هذه الحالة من المهم عندها ألاّ تخسر كل ما استثمرته في هذه السلّة. ولتضمن ذلك عليها أن تلجأ إلى حلّ سلمي مع الدولة اللبنانية. ومن الجهة الأخرى على الدولة اللبنانية، متمثّلة بوزارة المال، أن تلجأ إلى التفاوض مع هذه الجهات الداخليّة وأن تقتنع بأن هدر احتياطات الدولار المتبقية على الاستمرار في دفع مستحقات الـ"يوروبوندز"، من دون تغيير جذري فيها ،سيكون له وقع كارثي، ليس على الوضع الاقتصادي أو المالي فحسب وهذا من البديهيات، بل على تأمين الأساسيات للشعب اللبناني.
هنالك بند آخر، يجب الإضاءة عليه، يتكلم عن "تعهد سلبي" يمنع الجهة المدينة من استعمال أيّ من أصولها وإيراداتها الحالية أو المستقبليّة كضمانة لتغطية أي دين خارجي لها. هذا البند ليس سلبياً بالنسبة إلينا طالما أن اللجوء إلى المزيد من الاستدانة أصبح خياراً غير مطروح بعدما انخفض تصنيف لبنان الائتماني إلى "سندات خردة"، وبالتالي أصبحت كلفة الاستدانة، أي الفائدة على الدين، كبيرة جداً. بالإضافة إلى ذلك فإنّه من غير التقليدي أن تقوم دولة بإصدار سندات دين، داخلية أو خارجيّة، مدعومة بضمانة من أصولها أو إيراداتها، حتى لو كانت هذه الفكرة مطروحة فإن هذا البند يحمي أصولنا وإيراداتنا من أن تكون مرتهنة للخارج.
ومن البنود الموجودة في الأحكام والشروط، بند يفرض على الجهة المدينة أن تقبل بأن هذه السندات تخضع لقوانين محكمة "نيويورك" في حال وجود أي جدال أو ادعاء يخصها، و أن تقبل أيضاً أن تكون محكمة "نيويورك"، بشكل غير حصري، الجهة القضائية المختصة بهذه الادعاءات. ولكن يذكر البيان المكمّل الخاص بكل إصدار، وهو يختصّ بالمخاطر المتعلقة بالسند، أن الدولة اللبنانية دولة سياديّة ما يجعل تطبيق أي أحكام تصدر عن محاكم الولايات المتحدة الأميركية معقّداً. والتنازل عن الحصانة المذكور في البند أعلاه "من المحتمل أن يكون غير فعّال". وبالإضافة إلى ذلك يذكر البيان المكمّل أن تنفيذ أي حكم أجنبي على الأراضي اللبنانية يتضمن دفع رسوم خاصّة بالمحكمة تصل إلى 2.5% من قيمة رأس المال المُدّعى لأجله، وأن تنفيذ أي دعوة قضائيّة مباشرة على الدولة اللبنانية يتضمن رسوماً خاصّة بالمحكمة تصل إلى 5% من قيمة رأس المال المُدّعى لأجله.
هذا التناقض، بين بند يتنازل عن الحصانة وآخر يؤكّد السيادة اللبنانية، يجب أن يُدرس بشكل دقيق لفهم خيارات الدولة اللبنانية للتعامل مع "اليوروبوندز". وحسمه لصالح الدولة اللبنانية قد يشكّل مخرجاً للهروب من أي ادّعاءات عليها في المحاكم الأجنبيّة، فسيادة الدولة هي من العناصر الأساسية لوجود الدولة، وأي خرق لهذه السيادة لا يمكن أن يكون مقبولاً. وعلى الدولة اللبنانية أن تبادر إلى اتخاذ قرارات، ليس انطلاقاً من حتمية الاستسلام أمام حاملي السندات الأجنبية، بل انطلاقاً من البحث عن المصلحة العليا للشعب اللبناني.