فجأةً، خفت صوت السياسة والسياسيين، وعلا صوت المال والاقتصاد والاختصاصيين. هي سابقة أن يعيش أهل السياسة حالة سكون وترقّب مما ستؤول إليه البلاد في الأسابيع المقبلة. لا شكّ في أن المرحلة دقيقة جداً، فإما أن يخرج الجميع بعدالة في الخسارة، أو ينهار السقف فوق رؤوس الجميع. صنّاع القرار بدأوا يتحسّسون خطورة الانهيار المالي والاقتصادي، ولعلّ أخطر ما فيه أنه سيؤدي حتماً إلى ارتدادات أمنية واجتماعية قد يصعب السيطرة عليها لاحقاً.
الأولويات محسومة؟
تاريخياً، أهل السياسة يضغطون على المصارف المركزيّة لخفض الفوائد لأنها ترفع معدلات التضخم التي تسهم برفع نسبة الإنتاج والنموّ وتؤدي إلى انخفاض معدلات البطالة. هكذا يصبح أهل السياسة أبطالاً ومنقذين اقتصاديين في نظر شعوبهم. هذا بشكل عام. أما حين ترتفع معدلات التضخّم وترتفع معها البطالة، فتظهر عندها حالة اقتصادية مرضية تدعى (Stagflation)، وهي الحالة التي يعيشها لبنان راهناً نتيجة للأزمة المالية. قد تشتدّ هذه الأزمة في حال طُبّقت سياسات التقشف، سواء أكانت صناعة محلية أم صناعة دولية برعاية صندوق النقد الدولي، علماً بأن هذا الأخير قد يصبح مصيراً محتوماً إذا فشلت الحكومة في ابتداع معالجات مالية واقتصادية. فمع اقتراب الاستحقاقات تزداد الانقسامات بين المطالبين بالدفع (سندات اليوروبوندز) والرافضين له.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

بين الدفع أو التخلّف عنه، يخرج علناً موقف لرئيس مجلس النواب مطالباً بإعادة هيكلة الدين العام، ما يؤدي مباشرة إلى انهيار قيمة السندات بشكل ملحوظ لتسجل أدنى المستويات. هذا أول إقرار شبه رسمي بعدم القدرة على الدفع مما تبقى من أموال المودعين التي استُخدمت للتجارة الوهمية (ما يُسمى هندسات مالية) بين المصارف الخاصة والمصرف المركزي، ولتمويل عجز الخزينة وخدمة الدين أيضاً.
السؤال الذي يطرح نفسه بقوّة لدى المودعين هو: ألا يكفي الـ"كابيتل كونترول" الحالي الذي أضعف الاستهلاك، وضاعف نسب الانكماش الاقتصادي، لكي يُدرك الجميع أن التخلّف عن السداد للمودع هو أصعب من التخلّف عن السداد لأصحاب السندات؟ لا شكّ في أن الغموض حول الأرقام المتداولة عن احتياطات مصرف لبنان، يزيد الأمور تعقيداً ويعمّق أزمة الثقة بين المواطن والمصارف من جهة وبين المصرف المركزي وسلطته النقدية والسلطة السياسية وسلطتها المالية من جهة أخرى.

إعادة الهيكلة vs سرعة التعافي
الأزمة اللبنانية فريدة نوعاً ما بحكم طبيعة الدائنين، لكتها واحدة من بين مئات الأزمات العالمية التي أصابت دولاً عدّة (الولايات المتحدة والأرجنتين واليونان...). عموماً، إعلان التخلّف عن الدفع، والبدء في إعادة هيكلة الدين كان مرتكز كثير من الدول للتعافي من أزماتها. هناك الكثير من الآراء التي تدعم هذا التوجه لضمان سرعة التعافي وتحقيق نمو اقتصادي مستدام يحمي الدول من الغرق في مستنقعات خدمة الدين أبرزها:
- يقول جوزيف ستيغليتز نائب رئيس البنك الدولي سابقاً (1997– 2000)، والحائز على جائزة نوبل بالاقتصاد لعام 2001: التخلف عن دفع الدين هو عامل إيجابي للدول التي تتجرأ على اتخاذ هذا القرار بعيداً من التهويل والتهديد بفكّ ارتباطها بالأسواق المالية العالمية.
ويذهب الاقتصادي الشهير إلى أبعد من ذلك معتبراً أن استخدام الأموال التي كانت ستُدفع للدائنين، على مشاريع مستقبلية تحقّق نمواً اقتصادياً وتدعم السياسة المالية للدولة على المدى البعيد وتدرّ مداخيل مستقبلية مستدامة، يضمن إعادة الدول المتخلّفة عن السداد بصورة أقوى إلى الأسواق المالية العالمية، وأنه عمل ضروري لانتشال الدول من أزماتها المالية. لذا، يدعو إلى إعلان التخلّف وفقاً لرؤية وخطّة واضحة ومدروسة. وهو يعتبر أن حاملي السندات، كاليوروبوندز، يحصلون على فائدة أعلى بكثير مما يمكن أن يتقاضوه لقاء السندات الأميركية، ولذلك هم يدركون ارتفاع احتمالات التخلف (Risk of Default) لهذه السندات. وبالتالي يخلص إلى وصف من يشتري سندات الدول قبل التعثّر بأسعار زهيدة لمقاضاتها في ما بعد وتحصيل أرباح، بالجشع والطمع، معتبراً أنه يتوجب على المجتمع الدولي التدخّل لردع شركات تنتهج هذا الأسلوب (vulture funds).
وفي هذا السياق، لا بدّ من التعليق على الأزمة المالية في بورتوريكو الخاضعة للحكم الأميركي (أقل من مقاطعة وأكثر من مجرّد مستعمرة). ففي عام 2014 وصل الدين السيادي فيها إلى 75 مليار دولار، بالإضافة إلى 50 مليار أخرى مع معدل بطالة بلغ 12%. طلبت بورتوريكو مساعدة (Rochild & Co) لإقناع الدائنين القبول بخسارة نسبتها أكبر من توقعاتهم. قدّمت بورتوريكو خطّة تضمن دفع أقل من 25% من مجمل الدين المترتب. من ملاحظات ستيغليتز على الخطة أنها غلّبت أهمية إعادة الدفع على خطوات إعادة النموّ الاقتصادي بنسب عالية. بعض الدائنين رفض الخطّة ورفع دعاوى ضد بورتوريكو، ما اضطر الرئيس الأميركي دونالد ترامب في تشرين الأول 2017 إلى المسارعة لمساعدتها من خلال شطب بعض ديونها.
- يقول هيوغو بانيزا (2006) في معرض اختباره لمدى تأثير الانكماش الاقتصادي على احتمالات التخلّف عن دفع الديون السيادية: إن عمق الانكماش الاقتصادي التي تواجهه الدول قبل التخلّف عن الدفع يزيد من احتمالات التخلف عن دفع الديون السيادية. حجم الانكماش الاقتصادي الذي يسبق إعلان التخلف، هو المؤشّر لقدرة البلد على التعافي بشكل أسرع أو أبطأ، فكلما كان الانكماش الاقتصادي أعمق تأخّر البلد المتخلّف عن الدفع وعن التعافي بشكل أسرع. لذا، يعتبر أن تأخر إعلان التخلّف، هو أمر خاطئ وله تداعياته على مرحلة التعافي من الأزمة وإعادة دفع العجلة الاقتصادية في ما بعد.
هذه الفكرة تعيدنا إلى أصل الخلاف الدائر في لبنان عن التخلّف عن السداد أو عدم التخلّف عن الدفع. المشكلة التي يعاني منها لبنان حالياً، أن الدين السيادي اللبناني غير مستدامٍ ولذلك علينا أن ننظر إلى حجم الانكماش الاقتصادي قبل آذار 2020. هذا المقياس قد يسهم في تشخيص الحالة الاقتصادية المرضية وصولاً إلى تسريع عملية البدء في تصحيح الخلل.

الاختبار الأقصى: التخلّف والاقتصاد
حالياً، أصبح لبنان تحت المجهر الدولي بسبب قرب استحقاق آذار 2020، انطلاقاً من المعطيات التي تشير إلى أن الاتجاه هو نحو التخلّف عن الدفع. في نظر صندوق النقد الدولي، يعاني لبنان من مشكلة الدين غير المستدام (Unsustainable Debt)، أي إن الدين معرّض للتخلّف عن الدفع. تشخيص الدين من قبل صندوق النقد يتم عبر دراسة عدّة مؤشرات أهمها: نسبة الدين إلى الناتج المحلي، نسبة الدين إلى الصادرات، نسبة الدين إلى الإيرادات الحكومية، نسبة خدمة الدين إلى الصادرات، ونسبة خدمة الدين إلى الإيرادات. بعد ذلك يصنّف الدين إلى أربع فئات: من فئة الأقلّ خطورة إلى فئة أزمة الدين (أي مرحلة التخلّف)... لا شكّ بأن لبنان بنسبة دين 160% من الناتج، وفي ظل نسبة صادرات خجولة، مع عجز في الحساب الجاري، وعجز مالي سنوي متواصل جعل فاتورة خدمة دينه عالية إلى درجة أصبحنا نعلم مسبقاً نتيجة امتحان صندوق النقد الدولي للدين العام وهي: السقوط المدوي بدرجة أزمة دين سيادي. عندما تصبح نسبة خدمة الدين أعلى من نسبة النموّ الاقتصادي، تبدأ ملامح الانهيار بالظهور تدريجاً، وبالتالي يتوجب عندها إعلان حالة طوارئ قصوى لعكس هذه المؤشرات إلى المستويات الطبيعية.
وإلى جانب استحقاق سندات اليوروبوندز، ستواجه الحكومة اختبارات صعبة ليس واضحاً كيف ستتعامل معها ومع تداعيات التخلّف عن الدفع:
- البطالة: هل سترضخ الحكومة لمصير البطالة وأثرها على الهجرة، أم قد نشهد سلوكاً حكومياً مغايراً يقدم أقصى التسهيلات الاستثمارية لمستثمرين لبنانيين وأجانب يخلقون فرص عمل جديدة ومتنوعة. في الأرجنتين وصلت معدلات البطالة إلى 25% وفي اليونان إلى 22% نتيجة الأزمة المالية. هذه النسب تعكس تداعيات الأزمة على الأمن المعيشي والقومي، وهي معدلات لا يقوى بلد غير منتج كلبنان على تحملها.
- الضرائب: هل باستطاعة المواطن أو التاجر أو المصنّع المحلي الذي يعاني أصلاً من الكابيتل كونترول أن يتحمل عبء ضرائب جديدة؟ بالتأكيد لا... إذاً، من أين ستحصّل الدولة إيرادات في ظل صعوبة رفع الجباية الضريبية؟ هناك العديد من المقترحات التي لا تستهدف جيب المواطن بل قد تستهدف كماليات نستوردها فتؤثّر إيجاباً على الميزان التجاري وتؤدي إلى الحدّ من فاتورة الاستيراد.
حجم الانكماش الاقتصادي الذي يسبق إعلان التخلف، هو المؤشّر لقدرة البلد على التعافي بشكل أسرع أو أبطأ


- التقشف: لعلّ أكثر الانتقادات لبرامج صندوق النقد الدولي جاءت بسبب سياسات التقشف التي فرضها الصندوق على الدول التي تعرضت لانهيارات مالية. في حالة لبنان، يبدو الوضع معقّداً (ليس مستحيلاً) نوعاً ما، فحتّى لو أرادت الدولة تطبيق سياسة تقشف عبر تجفيف التقديمات الاجتماعية والصحية والتعليمية، هي ستجلب على نفسها مشاكل أخرى كالبطالة وتردّي الوضع الاجتماعي وبالتالي المزيد من الاضطرابات في الشارع. هذا يضاف إلى الواقع السيّئ للمصارف المحليّة. المصارف الخاصة لا تستطيع تعويض ما سينتج من سياسة التقشف لأنها هي الأخرى تتخبّط في أزمة سيولة. بشكل عام يعتبر بعض الاقتصاديين (كورسيتي، 2012) أن التقشّف المالي القاسي الذي طبّقه صندوق النقد في اليونان أسهم في زيادة الوضع الاقتصادي سوءاً وانكماشاً.
- التضخم: بعد أن أثبتت سياسة تثبيت سعر الصرف فشلها واستنزاف احتياطات المصرف المركزي بالعملات الأجنبية والمصارف وأموال المودعين على مدى السنوات، بدأت بوادر تحرير سعر الصرف (بشكل غير مباشر) تأتي بنتائج سلبية (متوقّعة على المدى القصير) على مستوى التضخم والغلاء المعيشي في ظل غياب الرقابة الفعّالة من وزارة الاقتصاد، وجشع الاحتكارات التجارية.
- النموّ الاقتصادي: أصعب سؤال أمام الحكومة يكمن في كيفية منع تدهور النموّ الاقتصادي الذي يلي عادةً الأزمات المالية. ثم كيف ستحفّز النمو المستدام الذي يخلق وضعاً اقتصادياً صحياً يؤدي إلى زيادة الانتاج وتخفيف حدّة البطالة، والتعافي من دوّامة العجز السنوي وخدمة الدين، وصولاً إلى عودة الارتباط بالأسواق المالية الدولية.
- الثقة: إعادة الثقة هي واحدة من أصعب المهمات. الثقة الاستثمارية المحلية والخارجية والثقة بالمصارف أيضاً التي فقدت صدقيتها، وثقة المغتربين الذين تبخّرت أموالهم عبر سوء الاستخدام وسوء الأمانة من المصارف.

الذلّ أو الثورة الاقتصادية
يتساءل كثيرون كيف لبلد يدّعي أنه يمتلك حقولاً من النفط والغاز على طول ساحله بالإضافة إلى بقاع خصبٍ تُزرع فيه حشيشة القنب (Medical cannabis)، التي تقدر إيراداتها بالمليارات في حال استفاد منها رسمياً عبر سنّ قوانين تسمح باستغلالها وبيعها إلى الدول والأوروبية التي تغذّي حاجاتها من السوقين التركي والتايلندي، أن يظهر بهذا العجز والذلّ. لا شكّ في أن الحكومة الحالية ورثت من جميع الحكومات السابقة مجتمعة حقلاً من الألغام يُعدّ تحدياً صعباً، لكنه ليس مستحيلاً. تجنّب دفع مستحقات اليوروبوندز هو سلاح ذو حدّين، فإما تُستخدم أمواله للبدء بثورة اقتصادية وفقاً لخطة واضحة تضع لبنان على الخريطة الاقتصادية العالمية وتعيد ثقة المغتربين الذين يشكلون صمام الأمان، وإما تُصرف أمواله على عجز الكهرباء والاستيراد غير المدروس، والاستهلاك غير المنتج، وبالتالي تفشل وتذهب للتسوّل بذلّ، كما سابقاتها، إلى الدول العربية ثم الأوروبية ثم تقع في قفص صندوق النقد الدولي في نهاية المطاف.

* باحث اقتصادي في جامعة باريس 1 – السوربون