النظام السياسي اللبناني هو سبب الانهيار المالي والاقتصادي. هو نظام هزيل يحتاج إلى إعادة نظر هيكلية. أخجل من نفسي أن أعيش في بلد يكون فيه الناس رعايا عند الطوائف أكثر منهم مواطنين في دولة. البطريرك يدافع عن حاكم مصرف لبنان والمفتي يضع خطّاً أحمر، وسواهم يحذون الحذو نفسه. وفي الوقت نفسه، نحن كأفراد في المجتمع نشعر بأننا جزء من قبيلة وطائفة وليس جزءاً من وطن. نتمحور حول الطائفة والقبيلة حتى صارت الأرض مساحة تجارية للميليشيات والطوائف والمذاهب. إذا حاول أحد في لبنان، مخالفة طائفته أو مذهبه فيتم إبعاده. هذا النظام إذا بقي كما هو عليه فمصيره إلى الزوال. نظام الطائف هو صيغة تقاسم جبنة وليست صيغة وطن. النظام السياسي في لبنان يُختصر بتجار الطوائف والمذاهب.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

من أبرز أساسيات هذا النظام حاكم مصرف لبنان. صحيح أن الخطّة التي أُقرّت أخيراً، تضيء بعناوينها على أمور أساسية مطلوبة مثل ضبط الجمارك والأملاك البحرية والهيئات الناظمة… لكن أكبر خلل فيها أنها لم تتطرأ إلى إصلاح مصرف لبنان. الإصلاح يجب أن يشمل حاكمية مصرف لبنان والمجلس المركزي والهيئة المصرفية العليا. الحاكم السابق لمصرف لبنان ادمون نعيم كان يردّ على ما يثار حول كونه محامياً وليس متخصصاً في الشؤون النقدية، بالقول إنه يطبّق النصوص القانونية. هنا تكمن ضرورة الإصلاح. فعلى سبيل المثال، تنصّ المادة 75من قانون النقد والتسليف على أن «يستعمل مصرف لبنان الوسائل التي يرى من شأنها تأمين ثبات القطع ومن أجل ذلك يمكنه خاصة أن يعمل في السوق بالاتّفاق مع وزير المال مشترياً أو بائعاً ذهباً أو عملات أجنبية مع مراعاة المادة 69». أما المادة 69 فتنصّ على أن يبقي مصرف لبنان في موجوداته أموالاً من الذهب ومن العملات الأجنبية التي تضمن تغطية النقد اللبناني توازي 30% على الأقل من قيمة النقد الذي أصدره ومن قيمة ودائعه تحت الطلب، على ألّا تقلّ نسبة الذهب والعملات المذكورة عن 50% من قيمة النقد المصدّر. ولا تؤخذ في الاعتبار موجودات مصرف لبنان من النقد اللبناني لحساب النسبتين المذكورتين». لم يكن ادمون نعيم يعمل في المضاربات المالية في ميريل لينش، لكنّه كان يلجأ دائماً إلى قانون النقد والتسليف. بينما الحاكم الحالي استأثر بالسلطة من المجلس المركزي إلى الهيئة المصرفية العليا من دون أن يسأله أحد عمّا قام به أو عمّا كان يجب القيام به تطبيقاً لقانون النقد والتسليف في سبيل حماية النقد الوطني. هذا الأمر تكرّر لاحقاً عندما نفّذ الهندسات المالية. أيضاً لم يسأله أحد عنها.
وظيفة مصرف لبنان الحفاظ على قيمة النقد الوطني التي لم يحافظ عليها اليوم، ليست هناك تغطية لليرة كما نصّ عليها قانون النقد والتسليف وإذا أفلتناها فلن يكون لها قيمة


هناك مسألة مركزية في إصلاح مصرف لبنان. هذه العملية يجب أن تؤدّي إلى زوال دكتاتورية الحاكم. وفي حال الإبقاء على هذه الدكتاتورية، فيجب عندها ألّا يكون هناك نواب للحاكم. فعلى سبيل المثال، أنشأ سلامة هيئة التحقيق الخاصة وترأسها رغم أن هذا الجهاز يرتبط، في دول أخرى، بأجهزة المخابرات. كذلك أنشأ هيئة الأسواق المالية وترأسها رغم أن عملها مرتبط بالبورصة. ما دخله بها؟ وضع يده على شركة الميدل إيست وعلى كازينو لبنان وسواهما من المؤسسات. أوجد إمبراطورية بغطاء من معظم السياسيين. أعطوه ما طلب.
يجب إخراج مصرف لبنان من منطق النظام السياسي القائم. فرض هذا المنطق نفسه في محطات عدّة من بينها إنشاء لجنة الرقابة على المصارف. تأسيس هذا الجهاز كان نسخة قانونية عن لجنة الرقابة على المصارف في فرنسا. في النسخة الفرنسية (التي نُقل عنها قانون النقد والتسليف في لبنان) ذُكر أن النائب الأول لحاكم مصرف لبنان يرأس لجنة الرقابة، لكن في لبنان طالبت الطائفة السنية بمنصب في مصرف لبنان، ففازت بمنصب رئيس اللجنة. أمّا حدود العلاقة بين السلطة المالية والسلطة النقدية فتكمن في التعاون بينهما بالاستناد إلى قانون النقد والتسليف أيضاً. وزير المال لديه مفوّض الحكومة في مصرف لبنان، ومدير المالية العامة عضو في المجلس المركزي. يمكن للاثنين إطلاع الوزير على ما يجري، لكن يفترض بالسلطتين التعاون لما فيه الصالح العام. وزير المال يجب أن يعلم ما يجري. أما صلاحياته مع مصرف لبنان، فهي محصورة بما ورد في قانون النقد والتسليف لجهة أن الحاكم بالاتّفاق مع الوزير يقرّران سعر فائدة السوق على السندات والودائع.
وظيفة مصرف لبنان الحفاظ على قيمة النقد الوطني التي لم يحافظ عليها. أي تغطية على الليرة اليوم؟ إذا تركنا الليرة فلن يكون لها قيمة. والثقة بالقطاع المصرفي طارت اليوم (وإلى جانبها طارت الودائع أيضاً) بينما يعدّ هذا القطاع العمود الفقري لقيامة الوطن. من أين ستُستعاد الثقة؟ وجوب إصلاح مصرف لبنان مرتبط بحصر صلاحياته ومهامه بما تقوم به المصارف المركزية حول العالم، أي حماية النقد الوطني وحماية ودائع الناس. من واجبه أن يضع للمصارف حدوداً حتى لا تتمادى. يوم كانت الفائدة تصل إلى 12% على ودائع الدولار، كانت الفائدة في أميركا 1%، وعندما طُلب من حاكم المصرف المركزي الأميركي زيادتها نصف نقطة، أجابهم بأنه لن يزيدها طالما يبلغ معدل البطالة 9%، أي إنه ربط سعر الصرف بالبطالة الموجودة في المجتمع. هذا جزء من مسؤولية السلطة النقدية، لكنّنا لم نشهد مثل هذا الأمر في لبنان رغم كل الجوائز والنياشين التي حصل عليها حاكم مصرف لبنان.
من المفيد استعادة بعض ما قام به ادمون نعيم عندما وقعت بعض المصارف. انطلاقاً من مبدأ أن المصرف تاجر، أتيح، في عهد نعيم، للمصارف المفلسة تكوين رأسمالها أو رهن عقارات مقابل قروض من مصرف لبنان، أو وضع اليد عليها جزئياً لحماية أموال المودعين. في تلك الفترة تمكّن مصرف لبنان من تأسيس محفظة عقارية محصّلة من المصارف التي انتكست تقدّر قيمتها اليوم بما بين مليارين وثلاثة مليارات دولار، فبأيّ أسعار تُباع هذه المحفظة اليوم؟
ثمة الكثير مما يجب القيام به في مصرف لبنان من خلال مراجعة «دفاترنا». يجب إعادة النظر بتركيبة المجلس المركزي، ووقف هيمنة الحاكم على قطاعات أخرى لا علاقة له بها. الإصلاح يكمن في النظر إلى الجذور الحقيقية لمصرف لبنان وتعديل قانون النقد والتسليف، وتطبيقه. ألم يكن لافتاً أن مجلس النواب لم يستدعِ رياض سلامة لسؤاله عن الهندسات المالية؟ لم يسأله أحد ماذا تفعل حتى ظنّ نفسه إلهاً. إنه نظام سياسي عفن ومنهار، مع مصرف مركزي عفن ومنهار أيضاً.
كان الصديق فؤاد الترك يقول: «نحن تحت وليس تحتنا تحتُ». حاكم مصرف لبنان عليه أن يطبّق قانون النقد والتسليف وألّا يمسّ بأموال المودعين، بل كان بإمكانه، قبل المسّ بهذه الأموال، نصح الدولة والامتناع عن القيام بدور المموّل. كان بإمكانه القول إنه لا يملك الأموال. اليوم أخذوا الودائع وسلّفوها للدولة ليصبح الوزراء وأزلامهم مليارديرات. هناك وزير كان جائعاً يُقال إنه خرج من الوزارة بمبلغ يصل إلى 50 مليون دولار.
النظام السياسي هو المدخل. إذا بقيت هذه السلطة نفسها فمن المستحيل أن نتقدم. مرّة قلت لأحد الزعماء عن خلل في مصرف لبنان فأجابني: «ما دام الحاكم يقدّم لي ما أريد فليفعل ما يشاء. إذا بقينا مذاهب وطوائف وميليشيات، هذه العقلية لا تبني وطناً ولا مؤسسة. إذا لم نغيّر نظامنا السياسي وتوجهنا نوعاً ما إلى العلمنة والكفاءة فنحن بخطر».

* نائب سابق لحاكم مصرف لبنان