في 21 نيسان 1992 تلقّى رئيس الحكومة آنذاك (الراحل) عمر كرامي، تقريراً من لجنة الخبراء المكلفة من مجلس الوزراء بقرار رقم 16 الصادر بتاريخ 11 آذار 1992، يتضمن «تصوراً عاماً لمرتكزات الاستقرار الاقتصادي في لبنان». التقرير واضح في الهاجس المرتبط بتداعيات الحرب الأهلية على مفاصل الاقتصاد والخسائر اللاحقة بالليرة اللبنانية وتداعي القدرات الإنتاجية، إلا أنه بمعزل عن هذا الهاجس، وإذا عزلنا المسائل الطارئة في الأزمة الراهنة اليوم، فإن ما كان مطروحاً في السابق من تعقيدات شبيهاً إلى حدّ التطابق مع ما يُطرح اليوم. تكاد الأزمة تكون هي نفسها وإنما بحجم أكبر يعكس كل تلك السنوات من مواصلة النهج نفسه. صحيح أن التقرير لا يقدّم وصفة واحدة أو إجابة واحدة، إنما كان مشغولاً بعقل ليبرالي واضح لا يشبه التركيبة اللبنانية المبنية على «أوليغارشية» أمراء الحرب وشركائهم من طبقة رجال الأعمال التي أوجدت ليبراليتها الخاصة التي تتيح لها ممارسة الفساد بحرية وبوقاحة والتعدّي على الأملاك العامة والخاصة والاستفادة من الريع «السهل»... في هذا التقرير، رُسمت معالم قانونية وتقنية للسياسة النقدية والحدود التي يجب أن يلعبها مصرف لبنان في إقراض الدولة وحماية المودعين، وهي حدود لو احترمت لما وصلنا اليوم إلى تبديد أموال المودعين. فمصرف لبنان لا يمكنه إقراض الدولة كيفما كان، لكن الحاكم رياض سلامة يزعم أن لديه بذمة الدولة 15 مليار دولار من دون أن يقرّ مباشرة أن هذه هي أموال المودعين التي استقطبها من المصارف بواسطة هندسات مالية مكلفة جداً. بدلاً من أن يحافظ على أموال المودعين بدّدها مع الدولة! هل بإمكان سلامة ردّ أموال المودعين أو قسم منها بالدولار؟ لن يجيب الحاكم، وإنما تعاميمه تشير إلى أنه يردّ جزءاً منها بالليرة اللبنانية وبسعر يبلغ 3200 ليرة اليوم، أي أنه سيطبع الليرات ليردّ الودائع بالدولار وستكون الضغوط التضخمية في أوجها، وربما يخلق هذا الأمر وحده تضخماً مفرطاً، وفي كل الأحوال من يدفع الثمن هو المداخيل بالليرة.
كما حدّد التقرير دور القطاع العام وحجمه بخلفية الحشو الذي أصابه بفعل الحرب وأمرائها. فأول الذين يجب إلغاء عقودهم من القطاع العام هم المهاجرون والمتغيبون... لكن بدلاً من الإصلاح، عمدت السلطة إلى المزيد من الحشو لاستيعاب الميليشيات وانتقلت سلطتهم من حدود «الأمر الواقع»، إلى حدود «أمر القانون».
لا تتفاجؤوا أن مسألة التعديات على الأملاك البحرية كانت قائمة كما هي اليوم مع التطورات التي طرأت عليها وأصابتها بين 1992 و2020 وتفرّع وتشعّب النفوذ السياسي بين هاتين السنتين.... ثمة الكثير ما طُرح سابقاً ويُطرح اليوم، مع فوارق جوهرية. صحيح أن التقرير طرح زيادة الرسوم على البنزين، لكنه ربطها بإجراءات سريعة لتعزيز النقل العام. المفارقة أن البنزين خضع لاحقاً للضريبة لكن لم تؤمن الدولة أي نقل عام لغاية اليوم.
العملة الوطنية كانت هاجساً، وإن كان عام الخروج من الحرب الأهلية يأتي بعد دولرة كل الاسعار. مشاكلنا كانت هي نفسها: دولرة مرتفعة، ضعف الخدمات العامة، ترهل بنية الإدارة العامة، صفقات بالتراضي، غياب أجهزة الرقابة، محاصصة طائفية ومذهبية، لا عدالة ضريبية... المشكلة في لبنان هي في أصل النظام وليست في أدواته وآلياته. اليوم، نعيش الهواجس نفسها ببعد زمني مختلف، وكأن حقبة الحرب الأهلية لم تتوقّف وإنما تابعت تطورها لنصل اليوم إلى مفصل جديد. هذا ما يثير سؤالاً أساسياً: هل يصحّ القول بأننا اليوم نعيش مرحلة الـ1991 أي مرحلة نهاية الحرب الأهلية ونستعدّ للخروج من تداعياتها الاقتصادية والمالية والاجتماعية، أم أننا نحتاج إلى وقت أطول أو تطورات مالية ونقدية أقسى لنصل إلى ما يشبه مرحلة الـ1991؟
هذا التقرير بمثابة وثيقة يمكن مقاربتها من زاوية آنيّة. هو يستعيد مرحلة ما بعد الحرب الأهليّة وبنية الفساد التي تمدّدت زمنياً لغاية اليوم، وأوصلت لبنان إلى أزمة جديدة يفترض أنها بدأت قبل 27 عاماً. إفلاس اليوم يأتي بتاريخ سابق.

الإطار السياسي والإداري
إذا كان من البديهي أن تمتلك كل دولة عصرية سياسة اقتصادية - اجتماعية واضحة الأهداف والوسائل، فإن وعي الجسم السياسي لمتطلبات هذه السياسة وتوافر الإرادة لديه لوضعها موضع التنفيذ يشكلان المرتكز الأساسي لنجاحها. إن هذا يعني أن تكون الإدارة السياسية للاقتصاد الوطني عموماً وللقطاع العام بشكل خاص، على قدر كبير من الانضباط والمسؤولية. وفي بلد كلبنان يواجه في الظرف الراهن تحديات سياسية واقتصادية، داخلية وخارجية بالغة، فإن هذه الأمور تصبح أكثر إلحاحاً وتتطلب مستوى رفيعاً من الأداء السياسي والإداري.
إن الأداء الإداري في لبنان أصبح في الظروف الراهنة عائقاً أساسياً في مواجهة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية. فهذه الإدارة تعاني من ضعف الإنتاج والرقابة وتفشي البطالة المقنّعة وانعدام الحساب الاقتصادي وعدم توافر التجهيزات الحديثة والعنصر البشري الكفوء وانتشار الفساد والرشوة والمحسوبية. هذه الأمور كلها باتت تنطوي على كلفة اقتصادية واجتماعية باهظة لم يعد في وسع الاقتصاد اللبناني تحمّل أعبائها. فقد أصبحت حصّة الإدارة العامة مما ينتجه المقيمون غير متناسبة مع حجم ونوعية الخدمات العامة التي توفّرها هذه الإدارة للمواطنين. إن المشكلة المطروحة على هذا الصعيد ليست ذات طابع إداري بحت، بل هي تعكس في جانب أساسي منها واقع الحياة السياسية اللبنانية عموماً، والتي لا تزال شديدة التأثّر بالاعتبارات الطائفية والمذهبية والعائلية المنسحبة لأشكال مختلفة على مجمل من أدار القطاع العام والسلوك الإداري.
من هنا فإن اللجنة ترى أهمية تحقيق الشروط الكفيلة برفع مستوى الإدارة السياسية والإدارية بحيث يصبح في مستوى المشاكل الكبرى التي يواجهها المجتمع والاقتصاد في لبنان. إن البلاد تحتاج إلى الشروع من دون إبطاء في بناء الدولة العصرية والإدارة المنتجة. من المهم تأكيد أولوية الإصلاح الإداري الذي يشكل عاملاً مهماً في مواجهة المشكلات الاقتصادية المستعصية بعد حرب الـ16 عاماً.

قضايا اقتصادية أساسية
يعاني لبنان حالياً من تزامن التضخم مع انخفاض مستوى الإنتاج الحقيقي نسبة إلى طاقاته الكامنة في وقت يعد نفسه لإعادة الإعمار. وفي هذا الإطار نرى أن يتمحور البحث حول القضيتين الأساسيتين التاليتين: التضخم والسياسة المالية والنقدية، الطاقة الإنتاجية للاقتصاد الوطني ومستوى الإنتاج.
عانى لبنان من موجات التضخم خلال سنوات الحرب. وقد ارتدت هذه الموجات منحى تصاعدياً متفاقماً ابتداءً من أواسط الثمانينات. وقد سجّل معدل التضخم السنوي الوسطي نحو 200% خلال أعوام 1985 - 1988، ثم ما لبث أن تراجع إلى 70% في أعوام 1988 - 1990. وفي عام 1991 بلغ معدل التضخم ما يفوق 50%. إن ظاهرة التخضم بالغة التعقيد، ومردّها إلى عوامل الطلب و /أو عوامل الكلفة، وقد يكون بعض هذه العوامل داخلياً وبعضها الآخر خارجياً، وغالباً ما يتداخل بعض هذه العوامل مع بعض.
أما في لبنان فقد كان لتنامي العجز في موازنة القطاع العام ككل، الأثر الأعمّ في استفحال ظاهرة التضخّم. وقد بلغت نسبة العجز إلى إجمالي الإنفاق في السنوات الخمس الأخيرة مستويات مرتفعة جداً فاقت الـ70% عام 1987 وارتفعت إلى 85% في أعوام 1988 - 1990. وبحسب الإحصاءات الأولية المتوافرة لدى مصرف لبنان ووزارة المال فإن هذه النسبة تراجعت إلى 57% في عام 1991، مع الإشارة إلى أن الأرقام العائدة لهذا العام بحاجة إلى مزيد من التدقيق، وخصوصاً لجهة التأكد من أنها تشمل إجمالي إنفاق القطاع العام. وإذا كان تنامي العجز قد تولّد حتى عام 1990 عن التزامن بين فقدان السيطرة على الموارد الحكومية من جهة والتوسّع في الإنفاق من جهة ثانية، فإن عام 1991 تميّز بتحسّن ملحوظ في الواردات ولكن قابله ارتفاع في الإنفاق ولا سيما الإنفاق الجاري. إن استمرار العجز الكبير في الموازنة يعني استمرار ضخّ السيولة النقدية بمعدلات عالية مع ما تولّده من ضغوط على الاقتصاد الوطني وبالتالي على سوق القطع وخصوصاً في ظل أوضاع غير مستقرّة.

ماريان كامينسكي ــ النمسا

إن أولى القضايا الرئيسية المطروحة تتمثّل في برمجة عمليات السيطرة على هذا العجز وبالتالي على كبح آثاره التضخمية كمقدمة لمعالجة العوامل الأخرى المولّدة للتضخّم الذي يفرض على شرائح واسعة من المواطنين وخصوصاً ذوي الدخل المحدود، ضريبة فعلية قاسية ويشجّع نشاطات غير ملائمة لنمط النموذ الاقتصادي المطلوب، وخصوصاً المضاربات ذات الواقع السلبي. وكلما نجح لبنان في السيطرة على الوضع النقدي تعزّزت الثقة والتوقعات الإيجابية في مستقبله الاقتصادي.
أدّت الحرب، كما هو معلوم، إلى تدمير جزء من الطاقة الإنتاجية للاقتصاد الوطني المتمثّلة في البنية التحتية والمؤسسات الإنتاجية، إضافة إلى الموارد البشرية. كما أدّت إلى تقليص الموارد المالية المحلية المتاحة للاستعمالات الداخلية. وقد رافق ذلك انخفاض في المستوى الحقيقي للناتج المحلي قياساً على ما كان عليه قبل الحرب. إن تطور مستوى الناتج الحقيقي منذ عام 1975 لم يخضع لاتجاه واحد، بل شهد تقلبات بين فترة وأخرى. وفي السنوات الخمس الأخيرة شهد الناتج المحلي نمواً بين عامي 1986 و1988 تبعه انخفاض في عامي 1989 و1990 بالنظر أساساً إلى الأحداث الداخلية والخارجية التي استجدت خلال هذين العامين. ومع استتباب الوضع السياسي والأمني في عام 1991 سُجّل تحسن في مستوى الناتج المحلي ولكنه بقي أدنى بكثير من مستواه في عام 1975 (بالأسعار الثابتة).
إن القضية الرئيسية الثانية التي تواجه الاقتصاد اللبناني في المديين القصير والمتوسط تتمثل في الاستخدام الكامل للطاقة الإنتاجية المتاحة راهناً وفي تحديثها وتوسيعها مستقبلاً في ضوء خطّة إعادة إعمار لبنان. وبمقدار ما ننجح في معالجة هذه القضية، نوفر في الوقت نفسه فرصاً أكبر لتعبئة الموارد البشرية اللبنانية المتاحة حالياً ومستقبلاً ولاستعادة الطاقات البشرية المهاجرة.

السياسة المالية
إن برمجة انخفاض العجز المالي في القطاع العام الذي يشمل الموازنة العامة والموازنات الملحقة والمستقلة تشكل المدخل الأساسي لإعادة التوازن المالي. صحيح أن ما صدر عن مصرف لبنان ووزارة المال من معطيات يظهر تحسناً نسبياً في وضع الموازنة عام 1991 مقارنة مع عام 1990، إلا أن التطورات التي استجدت منذ كانون الأول 1991 قد انطوت على اتجاهات معاكسة وسلبية. ومن هذه التطورات الاستمرار في الإنفاق غير المجدي وارتفاع فاتورة الأجور الإجمالية في القطاع العام بصورة غبر مبرمجة، من دون أن يترافق ذلك مع الزيادة المطلوبة في الواردات الحقيقية، ويضاف إلى ذلك جملة ضغوطات سياسية وأمنية كانت لها تأثيرات سلبية على الوضع الاقتصادي.
بغية إعادة ضبط الوضع المالي للقطاع العام، ترى اللجنة ضرورة اتخاذ الإجراءات التالية:
- تحديد سقف أعلى لانفاق القطاع العام لا يتجاوز 1700 مليار ليرة عام 1992، على أن يتزامن ذلك مع خفض نسبة العجز في موازنة القطاع العام بحيث لا تزيد عن حد أقصى نسبة 35% من مجموع الإنفاق في هذا القطاع. ويتطلب ذلك بالضرورة زيادة الإيرادات العامة من ضرائب ورسوم إلى 1100 مليار ليرة. وبالاستناد إلى هذه السقوف وإلى التقديرات الأولية للناتج المحلي القائم لعام 1992 يفترض أن ترتفع نسبة الواردات العامة إلى ما بين 20% - 25% من الناتج وأن يتراجع العجز إلى ما بين 10% - 12% منه.
وفي ضوء التطورات النقدية الجارية ترى اللجنة أنه من المفيد برمجة إنفاق القطاع العام على أساس فصلي من أجل مراجعة منتظمة للأداء المالي للحكومة وإدارات القطاع العام وتقييم فعّالية الخطوات التي تقرّرت سابقاً والتي قد يتوجب اتخاذها مستقبلاً.
وتدعو اللجنة إلى تحديد سقف لاقتراض الدولة من مصرف لبنان في حدود 10% من الإنفاق (الحكومي) كحدّ أقصى على أن يسقط هذا الاقتراض شهرياً بشكل متساو على مدار السنة. علماً بأن اللجوء إلى مصرف لبنان يبقى أكثر أنواع الاقتراض توليداً للتضخم. أما ما تبقى من تمويل للعجز المبرمج فيتم بواسطة سندات الخزينة وذلك بصورة مؤقتة لحين عودة التوازن المالي.
كما أن اللجنة ترى أن سياسة الدولة المالية يجب أن ترمي خلال السنوات الثلاث المقبلة إلى الاستمرار في التقليص التدريجي للعجز وصولاً إلى تأمين التوازن المالي الكامل بين الموارد الحقيقية للدولة ونفقاتها. وإذا كان الإعمار يتطلب إنفاقاً متزايداً لا تتوافر للدولة القدرة على تمويله كاملاً فإن العجز المحتمل في هذه السنة لحالية ينبغي أن يكون مرتبطاً بصورة مباشرة بتمويل المشاريع ذات الطابع الإعماري والإنمائي وبنسب تُحدد في ضوء المعطيات السائدة في حينه.
- ضرورة الإصلاح الجذري للنظام الضريبي في ضوء معايير اقتصادية واجتماعية تهدف إلى جعل هذا النظام أكثر انسجاماً مع مستلزمات النهوض الاقتصادي وإعادة الإعمار وأكثر عدالة في بعده الاجتماعي. تدرك اللجنة أن هذا الإصلاح هو عملية طويلة المدى وترتبط بعوامل سياسية واقتصادية واجتماعية، إلا أنها تقترح أن يتم التركيز في المرحلة الآتية على الآتي:
* إعطاء الأولوية لعملية تحقيق وتحصيل الضرائب والرسوم المختلفة التي تقاعست الدولة عن جبايتها، وخصوصاً في ما يتعلق منها بضرائب الدخل والأملاك المبنية والإرث ورسوم التسجيل العقاري وفواتير الكهرباء والمياه والاتصالات وتسويات مخالفات البناء، على أن يُعتمد الدفع المسبق عند التصريح في كل الحالات القابلة لذلك.
* رفع الدولار الجمركي في مرحلة أولى إلى نصف سعره الحقيقي على جميع البضائع الخاضعة للرسوم حالياً. مع ضبط صارم لعمليات التهريب كي لا تأتي النتائج معاكسة، على أن يُعتمد السعر الحقيقي للدولار في تحصيل الرسوم الجمركية في مرحلة لاحقة تتحدّد في ضوء التقدم في تحقيق الاستقرار النقدي.
* زيادة الرسوم على البنزين ضمن الحدود التي لا تشجع على التهريب على أن يقترن ذلك بوضع خطّة مفصلة وسريعة التنفيذ لتعزيز وسائل النقل العام.
* الإسراع بإقرار مشروع قانون تسوية مخالفات البناء ومشروع قانون الغرامات والرسوم على أشغال الأملاك البحرية.
* زيادة رسوم الميكانيك على السيارات الخاصة وتأكيد طابعها التصاعدي.
* تعديل ضرائب الدخل على الأفراد والمؤسسات.
إذا كان من المتوقّع أن تؤدي هذه التدابير في المدى القصير إلى زيادة أسعار بعض السلع، فإن رفع مستوى الإيرادات الحكومية يسهم في مدى أبعد في تحقيق أهداف السياسة المالية الآيلة إلى تقليص العجز وبالتالي كبح التضخّم.
كما أن هذه التدابير السريعة والآنية ينبغي أن تتلازم مع إجراءات أخرى مكمّلة وملحّة، منها:
* «نفض» الإدارة الضريبية المالية واستبدالها بإدارة ضريبية جديدة مؤهلة علمياً ومحصّنة أخلاقياً ومزوّدة بوسائل عمل حديثة.
* الإعداد لمسح المكلفين أفراداً ومؤسسات ولمسح المساكن والعقارات غير المبنية، وإعادة تحديد أصول جديدة وموحّدة لتقدير وعاء الضريبة بحيث يستبعد عامل الاستنساب في التقدير.
* حصر أملاك الدولة الخاصة ودراسة إمكانية الاستفادة منها في مشاريع اقتصادية واجتماعية.
* إعادة النظر في الأساس التي تنظّم عمل لجان الاستلام ومنع التلزيم بالتراضي منعاً مطلقاً، وإعادة النظر في نظام المناقصات وتعزيز الرقابة المسبقة على الصفقات لدى ديوان المحاسبة وإخضاع مراقبي عقد النفقات ومراقبي الضرائب لمناقلات دورية.
تعتبر اللجنة أن وضع هذا البرنامج المقترح موضع التنفيذ هو أمر ممكن التحقيق في المدى القصير. وفي هذا الإطار من المهم المباشرة في إصلاح الإدارة العامة، وترشيد الإنفاق وإعادة الاعتبار إلى عوامل الإنتاجية والربحية وتسعير الخدمات العامة استناداً إلى أكلافها الحقيقية ومنع التعديلات وتحسين الأداء الإداري وتبسيطه وإضفاء الشفافية على حسابات القطاع العام من التدخلات السياسية في شؤون الإدارة.
في ظل التفشي المفرط للبطالة المقنعة في القطاع العام، هناك ضرورة لرفع الحصانة عن الموظفين وتطهير الإدارة وخفض عدد العاملين في هذا القطاع بنسبة صافية قد لا تقلّ عن 20% من دون أن يتعارض ذلك مع ملء الشواغر ذات الطابع المنتج على أن يشمل هذا الخفض في المقام الأول المتغيبين والمهاجرين والموظفين العاملين في قطاعات أخرى. بالإضافة إلى ضرورة حصر نفقات السفر والمشاركة في المؤتمرات وخفض عدد المرافقين الملحقين بالجسم السياسي والإداري والعسكري الرسمي.

السياسة النقدية والمصرفية
إن أهداف السياسة النقدية لا يمكن تحقيقها بمعزل عن انضباط في السياسة المالية. فالعجز المالي المتنامي ولا سيما بفعل الهدر في الإنفاق الجاري وعدم حصول ارتفاع مناسب في قيمة الواردات قد ضاعف من حجم الضغط على الاقتصاد اللبناني. وترى اللجنة في ظل الأوضاع الراهنة ضرورة الإبقاء على سياسة الضبط النقدي. ينطبق هذا على نسب الاكتتاب في سندات الخزينة شرط أن يتم التخفيف التدريجي لهذه النسب بالتزامن مع التقدم الواجب تحقيقه على صعيد ضبط الوضع المالي الإجمالي للقطاع العام.
وعند استقرار الوضع المالي والنقدي لا تعود ثمة حاجة إلى سياسة إلزام المصارف بالاكتتاب في سندات الخزينة.
تود اللجنة التأكيد أن تبقى سياسة سعر الصرف تعكس القوى الأساسية في السوق مع استمرار مصرف لبنان في الحدّ من التقلبات المالية وتأمين الانتظام في سوق القطع.
الهواجس نفسها لا تزال مطروحة: أزمة النقل العام والسياسة النقدية وتضخّم الأسعار وقطاع عام منفوخ


إن الواقع الراهن المتمثل في المستوى المرتفع لنسبة الودائع بالعملات الأجنبية إلى مجمل الودائع، ليس سوى انعكاس لعدم استقرار الأوضاع المالية والنقدية ولما يولده عدم الاستقرار هذا من توقعات غير إيجابية لدى المدّخرين والمستثمرين. هذا الواقع، يضعف بدوره من فعالية السياسة النقدية التي تتركز أساساً على ضبط الوضع النقدي بالعملة الوطنية. وإذا كان مصرف لبنان قد عمد للمرة الأولى في عام 1991 إلى وضع سقوف للتسليف بالعملة الأجنبية، فإن اللجنة ترى ضرورة أن توائم السلطة النقدية في هذا المجال، بين الحاجات التمويلية للقطاعات الاقتصادية، وبين تأمين سلامة المصارف المعنية بهذه التسليفات، وذلك على ضوء تطور حجم الودائع بالعملات الأجنبية (الدولرة).
وتشدّد اللجنة على التزام الدولة بموجبات السياسة المالية الرامية إلى تحقيق هدف إعادة التوازن المالي التدريجي الذي من شأنه تعزيز الثقة بالعملة الوطنية وبالتالي التخفيف من ظاهرة الدولرة.
إن المعطيات المتاحة في الفصل الأول من عام 1992 تشير إلى أن عودة تفاقم موجة التضخم، نظراً إلى أن التأثيرات الإيجابية للسياسة المقترحة قد لا تظهر في حال تطبيقها، إلا بعد انقضاء فترة من الزمن، فإن استمرار تفاقم هذه الموجة قد يستوجب زيادة معدلات الفائدة الدائنة على الليرة كحافز إضافي للادّخار بالعملة اللبنانية.
إن اللجنة تؤكد أهمية الإسراع في تنقية القطاع المصرفي، إذ أن ذلك يوطّد الثقة بهذا القطاع ويعزز القدرة على اجتذاب الودائع والحفاظ عليها كما يشكّل سندات للسياسة المالية والنقدية. إن رساميل المصارف التي تآكلت بفعل التضخم الداخلي والخارجي، ينبغي تعزيزها وزيادتها لتتلاءم تدريجياً مع نسب الملاءة الدولية حسب اتفاقي «بال» بما يدعم موقع لبنان في تعامله مع المراكز المالية الدولية. كما أن زيادة الأموال الخاصة للمصارف قد تشكل فرصة مؤاتية لتسريع عملية الدمج من دون أن يؤدي ذلك إلى قيام وحدات مصرفية احتكارية. هذا الأمر يحفظ حقوق المودعين والمستخدمين ويحول دون تكرار ظاهرة المصارف المتعثّرة. وفي الإطار نفسه ينبغي تسريع عملية التصفية الذاتية خلال فترة زمنية محدّدة لحماية أصحاب المدخرات وعدم ترتيب أي أعباء على الخزينة والقطاع المصرفي والحفاظ على ثقة المستثمرين والمودعين.

الادّخار
أهم وسائل الادّخار هي: مدّخرات الأفراد من مداخيلهم، مدّخرات المؤسسات من أرباحها، المدّخرات الإجبارية التي تتشكل من اشتراكات نهاية الخدمة في الضمان الاجتماعي، الادخار العام الذي قد يتوافر للدولة أو مؤسساتها من تجاوز العوائد للنفقات أو تحقيق أرباح من قبل مؤسسات تابعة للدولة.
إن الحرب المتمادية قد قلّصت القاعدة الداخلية لادخار الأفراد والمؤسسات، مقارنة مع ما كانت عليه في أواسط السبعينيات، وذلك لسببين رئيسين: انخفاض القيمة الحقيقية لمداخيل وخروج جزء كبير من المدخرات المحلية إلى الخارج، لكن رغم هذا التراجع لا يزال لبنان يملك مخزوناً من الادخارات على شكل ودائع محلية بالعملة الوطنية والعملات الأجنبية بلغت ما يوازي 6.2 مليار دولار في نهاية 1991. علماً بأن هذه الادخارات أصبحت مودعة بالعملات الأجنبية التي شكلت في نهاية العام الماضي 68% من مجمل الودائع لدى المصارف التجارية، وكلما توطّد الاستقرار السياسي والاقتصادي تعزّزت فرص الثبات النسبي في سعر الصرف وانتظام سوق القطاع وتعزز بالتالي الادخار بالعملة الوطنية.
لذا، شدّدنا في الفقرة السابقة على ضرورة تقليص عجز الموازنة وضبط الوضع النقدي بما يحسن التوقعات المستقبلية ويقوّي ميزان المدفوعات.
تتوزّع وسائل التمويل الخارجية على المصادر التالية: مدخرات اللبنانيين في الخارج سواء كانت عائدة إلى المقيمين منهم أم إلى غير المقيمين. مدخرات وموارد الشركات في الخارج التي يملكها لبنانيون كلياً أو جزئياً، موارد لغير اللبنانيين من مؤسسات وأفراد يمكن اجتذابها إلى الاستثمار المحلي، والقروض والهبات المتأتية من الحكومات والمؤسسات المالية والإنمائية والإقليمية والدولية.

كلما نجح لبنان في السيطرة على الوضع النقدي تعزّزت الثقة والتوقّعات الإيجابية في مستقبله الاقتصادي


من المؤكد أن اجتذاب موارد القطاع الخاص مرهون بالمناخ الاستثماري والاقتصادي المحلي الملائم، كما أن اجتذاب القروض والمساعدات الحكومية يعتمد إلى حدّ كبير على الاستقرار السياسي والأداء الإداري ووضوح التوجه في أهداف ووسائل السياسة الاقتصادية. كلما تعزّزت هذه الشروط وتوطد المناخ الاستثماري تمكّن لبنان من استقطاب المزيد من وسائل الادخار الخارجية وتعزيز القدرة الذاتية على النهوض.
تشير نشرة الإحصاءات المالية الصادرة عن صندوق النقد الدولي إلى أن ما يملكه اللبنانيون المقيمون في لبنان من ودائع في مصارف خارج لبنان، غالبيتها مصارف لبنانية الملكية، قد بلغ وفقاً لآخر التقديرات 8.12 مليار دولار في نهاية أيلول 1991. كما أن اللبنانيين المقيمين وغير المقيمين يملكون في الخارج أصولاً متمثلة بعقارات ومؤسسات وأصولاً مالية بما يزيد في مجموعه بنسبة كبيرة عن حجم الودائع المذكورة.
كذلك فإن آمالاً كبيرة تبقى معقودة على الثروة البشرية المهاجرة التي تظهر المعطيات المتاحة أن نسبة الكفاءة العلمية والمهنية فيها مرتفعة نسبياً، وكما هو الحال بالنسبة إلى إعادة اجتذاب موارد القطاع الخاص المالية فإن عودة هذه الكفاءات تتوقف على توفر جملة من الشروط، أهمها تحسّن التوقعات النسبية حيال مستقبل لبنان السياسي والاقتصادي وتحسن فرص العمل والحياة.

الاستثمار
تنبغي الإشارة، بداية، إلى أن العوامل المتحكّمة في الاستثمار أصبحت في ظل التطورات الدولية مرتبطة بالمستويات الضريبية السائدة والحوافز المتوافرة في مختلف أنواع النشاطات الاقتصادية، إضافة إلى المناخ السياسي في البلد المعني.
إن هذه التطورات قد أضعفت ارتباط رأس المال بالإطار الوطني للبلد وجعلت الاستثمار مرهوناً إلى حد كبير بتقييم المؤسسات المصرفية الكبرى لجدوى الاستثمار في بلد معيّن قياساً على المخاطر السياسية والاقتصادية المرافقة له، مع الإشارة إلى أن هذه المؤسسات تستند في تقييمها إلى رأي المؤسسات الدولية المختصّة (البنك الدولي، صندوق النقد الدولي...) بشأن الوضع الاقتصادي والمالي في هذا البلد، ومن هنا تبرز أهمية توفير مناخ استثماري مؤات في لبنان مع كل ما يتطلّبه ذلك من شروط سياسية واقتصادية وإدارية وتشريعية.

* توقيع أعضاء اللجنة:
سمير المقدسي
هشام البساط
إيلي يشوعي
كمال حمدان
إيلي عساف
حسن عواضة
أمين علامة
مروان اسكندر