دخل لبنان مساراً للتفاوض مع صندوق النقد الدولي بالاستناد إلى خطّة حكومية هي الأولى من نوعها في مسار أزمات ما بعد الطائف. تُعدّ هذه الخطة أساساً جيداً للنقاش بسبب وضوح أرقامها، إلّا أننا بحاجة إلى الكشف عن مزيد من الحقائق بشأن توزيع احتياطات مصرف لبنان بالعملات والذهب والسيولة الفعلية بالدولار المتبقية لدى المصارف، بالإضافة إلى تقديرات دقيقة عن الأموال المخزّنة في المنازل. علماً بأنّ تقدير السيولة الفعلية المتاحة على المستوى الوطني، أمر ضروري لإدارة الوقت الضائع بأقل الخسائر، ولمعرفة المهلة المتاحة للتفاوض قبل الانهيار الشامل، وتحديد الخيار البديل إذا تعثر المسار الراهن، واستراتيجية الخروج من التبعيّة للتمويل الخارجي التي تعني اللجوء المتكرّر إلى الصندوق، إذا تمكنّا من الحصول على تمويل منه.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

من إيجابيات خطّة الحكومة أنها بيّنت بالأرقام الترابط بين عناصر الأزمة، وأكدت المؤكد، في أنّ الاقتصاد غير المنافس من ناحية، والإدارة المالية الفاشلة والمرتكِبة من ناحية ثانية، أدّيا إلى تذويب الأصول الوطنية، في حدود تتجاوز ما يُعرف في الأدبيات الاقتصادية المنمّقة، بالعجز المزدوج، من دون أن ننسى كلفة ما يتعرض له لبنان من ضعوطات تستهدف تمايزه الجيوسياسي. لكن بمعزل عن المناورات التقنيّة في تقدير الخسائر، وتجاوزاً لأسئلة مثل: «هل الخسائر فعلية وفوريّة كما ورد في النسخة الحكومية، أم مجرد انكماش في القيمة السوقية لأصول يمكن استردادها لاحقاً من تدفقات مستقبلية قد تأتي وقد لا تأتي؟»، فإنّ تحديد ما فقدناه من أصول يفتح الباب أمام معرفة من يتحمل المسؤولية عما آلت إليه الأوضاع المالية والنقدية، ومن تقع على عاتقه مهمة دفع ثمن الإنقاذ.

توزيع غير متكافئ للخسائر؟
نظرياً، هناك اتفاق على أن مسؤولية الأزمة وخسائرها، يتقاسمها ثلاثة أطراف: الحكومة، البنك المركزي والمصارف. لكن نقطة النزاع الفعلية هي في محاولة هذه الأخيرة (المصارف) التنصّل من المسؤوليّة أو تقليص مساهمتها إلى الحدّ الأدنى، وإلقاء العبء الأكبر على عاتق الدولة من خلال تسييل الأصول العامة، وعلى المودعين الذين تتعرض حساباتهم المصرفية لاقتطاع عشوائي وقاسٍ بأشكال عدة.
وبطبيعة الحال، السلطة المالية مسؤولة عما آلت إليه الأمور، وهي التي تكوّنت في العقود الماضية في إطار تحالف ضمّ رهطاً من المنتفعين في الحكومة وخارجها، وخليطاً من السياسيين والمصرفيين والمتعهدين والمستفيدين من الاحتكارات والامتيازات...، ولم تكتف بما تتصف به البيروقراطيات الرديئة من طلب على الريوع Rent seeking وفساد وهدر تناميا في العقود الأخيرة على نحو غير مسبوق، بل أضافت إليه جهلاً بأدنى قواعد إدارة المال والاقتصاد، فنتج عن ذلك دين عام هائل وتصدّعات عميقة في بنية الدولة، وتعطيل الجزء الأكبر من طاقة الاقتصاد الذي كان يعمل طوال العقود الثلاثة الماضية بما لا يزيد عن نصف قدراته الكامنة.
والسلطة النقدية مسؤولة أيضاً، لتكتّمها عن الحقائق ومساهمتها في نشر الأوهام بشأن صلابة القطاع المالي حتى بعدما انكشفت هشاشته في السنوات الماضية. وهي اختارت في عام 2016، الهروب إلى الأمام في مواجهة احتدام الأزمة، مستعينة بالهندسات المالية الباهظة الكلفة. هناك مصرفيون كبار قالوا إنهم كانوا على استعداد للانخراط في هندسات بفوائد لا تزيد عن ربع ما حصلوا عليها فعلاً.
والمصارف التي يتطوّع كثيرون لتبرئتها، مسؤولة كذلك. فهي اكتفت بتطبيق شكلي للمعايير الدولية، واستساغت ربط نفسها بفساد المجتمع السياسي لتكون مموّله الأول في سياق لا يخلو من تواطؤ. وضربت بعرض الحائط المخاطر التي كانت بارزة للعيان وقابلة للقياس ويمكن توقعها، حتى في الأوقات التي كانت فيها التدفقات تغمر البلد*. وهي كانت تدرك تمام الإدراك التبعات الجسيمة المترتبة على إقراض القطاع العام، ومع ذلك استمرت في توظيف ودائع اللبنانيين في سندات الخزينة بإرادة ذاتية منها، والدليل على طواعية انخراطها في هذه اللعبة، أنها كانت تستبدل بهذه السندات شهادات الإيداع التي يصدرها مصرف لبنان كلما انخفضت الفوائد على ديون الدولة.
صحيح أن خيار الصندوق يتطلب تعديلات ملموسة في السياسات وإجراءات حازمة في المدى القصير، لكنه لا يستدعي تغييراً في طبيعة نظامنا السياسي/الاقتصادي ولا في سلوكه أو توازناته، بل إن التدويل يُعد طريقنا السهل للعودة إلى مسارنا السابق، في حين تقتضي خيارات الإنقاذ الأخرى، سلوك طرق وعرة لكنها أكثر استدامة، وتنطوي على تعديلات جوهرية في الصميم


لقد مزجت في سلوكها هذا بين الرغبة الجامحة في تحقيق أرباح عاجلة وفورية وبين سوء الإدارة وتخلّف الصناعة المصرفية، وخصوصاً في مجال إدارة المخاطر. يكفي دليلًا على ذلك أنها لم تكترث بالمؤشرات التي كانت تنذر باقتراب الخطر، كانخفاض نسبة احتياطات مصرف لبنان إلى مجموع الودائع بالعملات في القطاع المصرفي من نحو 42% في عام 2010 إلى 26% فقط في عام 2018. وبدلاً من خفض ودائعها وتوظيفاتها في مصرف لبنان عمدت إلى زيادتها لتساوي قبل عامين من الآن، أربعة أضعاف الاحتياطات، في مقابل ما لا يزيد عن 1.4 منها قبل عشرة أعوام، وبذلك انخفضت نسبة الاحتياطات إلى مجموع ودائع المصارف في البنك المركزي من نحو 70% إلى أقل من 20%.
ومع ذلك هناك من يدير الدفّة نحو توزيع غير واقعي للمسؤولية عن الأزمة يمهّد لتقاسم مجحف وغير متكافئ للخسائر. ما يدور في الإذهان هو الفصل بين المسؤولية الفنية عن الخسائر المستندة إلى مقاربات «علمية»، وبين المسؤولية السياسية المستندة إلى نفوذ «اللوبيات» وقوة شكيمة المجتمع المالي الذي يميل إليه ميزان القوى في البلاد. وبذلك يُعفى المسؤولون المباشرون عن تحمل تبعات أفعالهم المتمثلة في الفساد والفوائد المضخمة وسوء الإدارة المصرفية، لتلقى الأعباء على كاهل المواطنين العاديين، من خلال الخصخصة الواسعة بمسميات شتى، وعلى كاهل المودعين من خلال السماح لهم باستردادها على المدى الطويل بعملة محلية متلاشية القيمة، وهذا يتضمن اقتطاعات ضخمة غير معلنة.

تناقضات وأخطاء
لقد فعلت السلطة النقدية الشيء ونقيضه: فهي منحت القطاع المصرفي أرباحاً مجانية هائلة من خلال الهندسات وغيرها بدعوى تعزيز ملاءتها، لكنها في الوقت نفسه أضعفت هذه الملاءة حين ورّطت بعض المصارف في استخدام الغالبية العظمى من الودائع ذات الآجال القصيرة في توظيفات متوسطة وطويلة الأجل لدى مصرف لبنان، علماً بأنه كان يراكم خسائر غير منظورة.
ومن ناحيتها، أخطأت الحكومات المتعاقبة في الوثوق بقدرة المصرف المركزي على الاستمرار في تنفيذ سياسته الثقيلة التي تتضمن في آن معاً مدّ الحكومة والمصارف والاقتصاد بالمال اللازم وامتصاص السيولة الزائدة وجلب الدولارات من الخارج وتثبيت سعر الصرف وتأمين النقد اللازم للاستيراد... وهي أخطأت كذلك في ترك حبل الإنفاق على غاربه، وفي الركون إلى نموج غريب للاستدانة الدائمة مُددت صلاحيته مراراً بفعل صدف خارجية وعوامل ظرفية لا تتكرر، كانخفاض الفوائد العالمية أو هروب ودائع اللبنانيين من الخارج إلى الداخل (أزمة 2008) أو من خلال المؤتمرات الدولية والدعم الخارجي.
وأخطأ مصرف لبنان في عدم منح وظيفة الرقابة على المصارف الاستقلال اللازم عن باقي مهامه، وهذا من بديهيات السياسة النقدية، فغلّب بذلك هدف إدارة العرض النقدي وصيانة الاستقرار الظاهري لسعر الصرف الاسمي ومعدلات التضخم، على هدف أهم هو حماية القطاع المصرفي وتعزيز متانته. وأخطأ أيضاً في عدم قيامه بأحد أدواره المنصوص عليها في قانون النقد والتسليف، بأن يكون المستشار المالي للحكومة الذي يدلل على أخطائها ويساعدها في تقويم سياساتها، وفضّل عوضاً عن ذلك التمتع بضخامة الدور باسطاً مظلّته على السلطتين النقدية والمالية. وينطبق الوصف نفسه على قيامه بنقل كلفة الأزمة من المصارف إلى القطاع العام، تارة عبر تحميل موازنة المصرف المركزي ثم الخزينة العامة تبعات رسملة بعض المصارف تسهيلًا لمواءمة أوضاعها مع المعايير الدولية الجديدة، ونقل الكلفة تارة أخرى من الدولة إلى المصارف كما في امتصاص الغالبية العظمى من الودائع المصرفية بالدولار في شهادات إيداع وودائع زائدة لديه، أي أنه كان ينقل المخاطر ذهاباً وإياباً بين الدولة والمصارف التجارية. وهو جَانَب الصواب في الفصل بين مهامه المنصوص عليها في المادة 70 من قانون النقد والتسليف، مهملًا الترابط الحتمي بين الحفاظ على سلامة النقد من ناحية وسلامة الجهاز المصرفي والاستقرار الاقتصادي من ناحية ثانية، فتبنّى سياسة تثبيت للنقد لا تستند إلى قاعدة اقتصادية متينة، بل تعمل على تقويضها.

إدارة الوقت الضائع
قادتنا هذه الأخطاء وغيرها إلى التفاوض مع صندوق النقد الدولي، الذي يبدو لبعضهم خياراً وحيداً، ولآخرين بديلاً من بين بدائل عدّة. الفرق بين التصوّرين هو في مستوى التغيير الذي ننوي إحداثه في البيئة السياسية والاقتصادية لتجاوز الأزمة. صحيح أن خيار الصندوق يتطلب تعديلات ملموسة في السياسات وإجراءات حازمة في المدى القصير، لكنه لا يستدعي تغييراً في طبيعة نظامنا السياسي/الاقتصادي ولا في سلوكه أو توازناته، بل إن التدويل يُعد طريقنا السهل للعودة إلى مسارنا السابق، في حين تقتضي خيارات الإنقاذ الأخرى، سلوك طرق وعرة لكنها أكثر استدامة، وتنطوي على تعديلات جوهرية في الصميم.
الخطر لا يكمن في التفاوض نفسه، بل في هدر مزيد من الوقت، وفي طريقة التفاوض وخلفياته ومداه، هل ننطلق من رؤية واحدة أم من رؤى متباينة؟ وهل نفاوض وفي جعبتنا خيارات بديلة واستراتيجية خروج أم لا؟ وهل همنا الوحيد هو الحصول على سيولة بصرف النظر عما سنفعله بها؟ وهل نجيّر التمويل إن حصلنا عليه لمصلحة نموذجنا المتهالك فننقذه بأقل إصلاح، أم يكون الإنقاذ مدخلاً لإعادة بناء الاقتصاد على أسس إنتاجية جديدة، من خلال رفع معدل الاستثمار العام مثلًا إلى أكثر من 10% من الناتج المحلي وتخصيص ما لا يقل عن ثلث التمويل الداخلي والخارجي المتاح للاستثمارات القطاعية؟
في جميع الأحوال ومن دون أن ننتظر مآلات التفاوض، نحن بحاجة إلى استراتيجيتين: استراتيجية بديلة إذا أخفق التفاوض مع صندوق النقد أو استغرق ذلك وقتاً أطول من اللازم، واستراتيجية خروج إذا نجح التفاوض كي لا نعلق في مصيدة التبعية الدائمة للتمويل الذي يوفره لها الصندوق كما حصل مع دول عدة (الأرجنتين، تونس...).

* أنظر مثلًا للكاتب: التمويل المصرفي للدين العام في لبنان..دراسة في التأثيرات على المصارف التجارية في مرحلة إعادة الإعمار وما بعدها؛ بيروت: المركز اللبناني للدراسات؛ الطبعة الأولى: 2009؛ ص: 306-307 و347.
ويرد في هذا الكتاب الآتي: "إن عادة تقويم موجودات المصارف في ضوء المخاطر الفعلية لإقراض القطاع العام، ينتهي إلى اعتبار قسم من القروض المصرفية بالعملات الاجنبية الممنوحة للدولة والقطاع العام ديونًا مشكوكة الأداء، وهذا يحتم زيادة المؤونات (والرسملة) و (/أو) تخفيض القمية الإجمالية لأصول القطاع المصرفي ومن ثمّ مجموع الميزانية المجمعة للمصارف.. ويمكن قياس قدرة الدولة على السداد (وعدم الوقوع في التخلف عن الدفع) بعدد من العوامل، أهمها: نسبة كل من الدين العام وعجز الموازنة إلى الناتج المحلي الاجمالي، والايرادات الصافية من العملات الأجنبية، ونتائج ميزان المدفوعات " وقد بينت الدراسة نفسها أن التعمق في تحليل الدين العام يبين أن آثاره سلبية على ملاءة القطاع المصرفي وسيولته ويؤدي إلى زيادة مخاطر السيولة ومخاطر عدم التطابق بين آجال الموجودات والمطلوبات وعملاتها.