إذا كانت الزراعة البعليّة قد فقدت أهمّ عناصر الاستثمار فيها في ظل غياب الفلاحين والعمّال الزراعيّين عنها، الأمر الذي حوّل الأراضي المتروكة إلى أراضي بور، فإنّ الزراعة المرويّة تعاني أصلاً من غياب الفلاحين بعدما تحوّلت ملكيّة الأرض إلى حيازات عملاقة يملكها الإقطاع بوجهيه: السياسي والعقاري. كذلك انكشفت الملكيّات الكبيرة على روؤس الأموال الوافدة من الاغتراب، والتي وجدت في العقار ملاذاً آمناً لتوظيفها. الغريب في أمر هؤلاء الوافدين الطارئين أنهم يعيشون خارج القطاع، ولا تشكّل الزراعة بالنسبة إليهم مهنة رئيسيّة أو مصدراً للعيش.يدير عملية الإنتاج في الواحدات الكبيرة «وكيل غشيم» في غالب الأحيان، ويساعده في إدارة البستان شخص طارئ آخر هو الضامن «le fermier» الذي يتولّى رعاية الثمار وتصريفها. وهو أيضاً يصدر أوامره للوكيل كي يوزّع المزيد من الأسمدة وكمّيات إضافية من مياه الريّ تفوق بكثير حاجة الأشجار، ظناً منه أنّ الكمّيّات تؤدّي إلى زيادة الإنتاج من دون الأخذ في الاعتبار الخطر المترتّب على حياة الشجرة بسبب هذه الإضافات. هذا الأسلوب يعتمد في 90% من الحيازات الكبيرة في السهل الساحلي الجنوبي.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

كذلك تعاني الزراعة المرويّة من حالات اختناق أخرى أشدّ وقعاً وضرراً؛ كانسداد الأسواق التقليديّة في وجه الإنتاج اللبناني، وحالات أخرى قد تؤدّي في حال استمرارها إلى زوال هذا القطاع الغني، والمنتج في الزراعة اللبنانيّة. كلنا نتذكر «المجزرة» التي تعرّضت لها بساتين الليمون في أواخر سبعينيات القرن الماضي. يومها أقدم عدد من مزارعي الليمون على اقتلاع الشجرة من مكانها الطبيعي وإحلال شجرة الموز الغربية محلّها، ردّاً على انسداد الأسواق. خلال عقدين من الزمن، احتل الموز 60% من مساحة السهل الإجماليّة حتى بات إنتاجه يفوق حاجة السوق المحلية، أما الأسواق العربية فقد أغلقت بوجه الموز اللبناني وتحوّل جيراننا العرب إلى استيراده من أفريقيا أو من أميركا اللاتينيّة على اعتبار أنه أقلّ ثمناً من الموز اللبناني. باختصار، كانت الهجمة على زراعة الموز غير مدروسة وغير مخطّط لها من قِبل الإدارة المشرفة على القطاع، وبنتيجتها انخفض سعر الموز في السوق المحلّية إلى ما دون سعر البطاطا مع أن أكلاف هذه الزراعة المتطلّبة تزيد أضعافاً عن أكلاف سائر الزراعات المرويّة الأخرى نظراً إلى حاجتها المرتفعة لمياه الريّ وللمخصّبات ولمتطلبات أخرى.
لا يتّسع هذا العرض الموجز لإيجاد حلول للمشاكل التي يواجهها قطاع الزراعة المرويّة، فهذا يحتاج إلى تدخّل جديّ من الإدارة المشرفة على القطاع على المستويات الإدارية والمائية والتشريعية والتجارية كافة التي يعود إليها بناء السدود وترخيص الآبار الجوفيّة والتفتيش عن أسواق خارجية لتصريف الإنتاج، بل يقتصر الأمر على تسليط الضوء على أهمّ المشاكل والتحديات التي تواجه قطاع الزراعة المرويّة وتأثيرها على حاضر ومستقبل هذه الزراعة الغنيّة. هذه المشاكل هي على نوعين:
- النوع الأول يتعلق بنسبة الملكية الزراعية وطرق استثمارها «structure de la propriété fonciere et mode d'exploitation».
-النوع الثاني يتعلق بالجائحات الجديدة التي استهدفت الزراعة المرويّة بدءاً بجائحة التلوث عبر مياه الريّ ومروراً: بجائحة زحف الباطون على الأراضي الخصبة وصولاً إلى جائحة رؤوس الأموال الوافدة من الخارج واعتبار ملكيّة الأراضي ملجأ آمناً لها.

سيطرة الحيازة الكبيرة
تبدو ظاهرة سيطرة الحيازات الكبيرة على الملكيات الزراعية، جليّة في الحيازات التابعة لمشروع ريّ القاسميّة ورأس العين الّتي وصل عددها حاليّاً إلى 1290 حيازة تبلغ مساحاتها الإجمالية نحو 3100 هكتار. هناك 5% فقط من الحائزين يملكون نحو 60% من المساحة الإجمالية. كما أن 90% من مالكي البساتين في السهل الساحلي يعيشون خارج القطاع. بالنسبة إليهم الزراعة عبارة عن نشاط هامشيّ إلى جانب عملهم الأصلي سواء في قطاع الخدمات أو في المهن الحرّة (طبيب، محامٍ، مهندس...)، أو يعيشون في بلاد الاغتراب، أي اشترى كل واحد منهم بستاناً ذا مردود عالٍ في السوق العقاري أو يمكن تحويله إلى متنزه لقضاء عطلة نهاية الاسبوع... في المجمل يكون مردوده العقاري أو الخدماتي أعلى من مردوده الزراعي.
كذلك هناك ظاهرة الاستثمار بطريقة الضمان «par fermage» نتيجة ظاهرة الغياب «hiabsentéisme» التي تنتشر في السهل الساحلي وفي البقاع الغربي بشكل خاص. إذ يُعهد بإدارة البستان أو الحقل المزروع بالبقوليّات إلى «ضامن» Fermier يدخل البستان قبل حلول موعد القطاف بأشهر ليتولّى تصريف الإنتاج. ومنه يتلقّى الوكيل المكلّف برعاية البستان تنفيذ العمليّات الزراعية الأخرى. ففي السهل الساحليّ الجنوبيّ، يجول ضامنو البساتين على الحيازات الزراعيّة الكبيرة في جولات استطلاعيّة يقدّرون خلالها إنتاج البستان من قروط الموز أو أقفاص الليمون، ثم يرفعون تقديرهم لسعر ضمان البستان إلى المالك بواسطة وكيله في حال غيابه خارج الوطن، أو يقدمون عرضهم مباشرة إلى التاجر أو المحامي أو الطبيب في مركز عمله في المدينة. وعندما يُتّفق على ضمان البستان، على المستثمر أن يبدأ بالإشراف على خدمة البستان بواسطة وكيل المالك الذي تقع عليه مسؤولية دفع بدل المياه والأسمدة والمبيدات التي يحدّد أوقات تنفيذها وكميّاتها المستثمر الجديد.
90% من مالكي البساتين في السهل الساحلي يعيشون خارج القطاع والزراعة بالنسبة إليهم عبارة عن نشاط هامشي


هذه الطريقة في الاستثمار تغطّي نحو 90% من بساتين الساحل الجنوبي. وهناط طريقة ثانية مماثلة ومتّبعة في القطاع المروي من مشروع ريّ البقاع الجنوبي. هناك تتكفّل البلديّات في القرعون، ولالا، وكامد اللوز، وجب جنين، بتأجير أراضي المغتربين في أميركا اللاتينية لشركات تحويل وتصنيع الإنتاج الزراعي «agro alimentaire».
وتسبّب طريقة الاستثمار المكثّف «exploitation intensive» للأرض من خلال استعمال المزيد من النيترات للحصول على مواسم أضخم من البطاطا، بتلويث المياه السطحيّة والجوفيّة عبر تسرّب النيترات إليها، وهو ما يُعرف بالتلوّث الزراعي الذي أصاب بحيرة القرعون والخزّان الجوفي للمياه في هذا القطاع.
إن طريقة الاستثمار بالضمان، بما تحمله من تأثير سلبيّ على الزراعة وخصوبة التربة، أصبحت مشكلة تهدّد الزراعة المرويّة، وهي ناتجة أصلاً من غياب الفلاحين وأصحاب الحيازات عن الأرض.
كما يعاني قطاع الزراعة المرويّة من مشاكل أخرى اجتاحته مؤخّراً. ونظراً إلى خطورتها يصحّ أن نطلق عليها صفة «جائحة» ويمكن إدراجها بحسب خطورتها على الشكل التالي:

- جائحة زحف الباطون «avancement du béton»
اندلعت هذه الجائحة مع بدء الحرب الأهلية في عام 1975 مستغلّة غياب الدولة وأجهزتها الرقابيّة فأتت على قضم شقي طرابلس الفيحاء، واقتلعت البساتين الغضّة التي كانت تحتضن المدينة وتحميها من اجتياح رمال البحر. كذلك أتت على بساتين صيدا ابتداء بمستشفيات الراعي وعسيران وأبو ظهر وحمّود، مروراً بساحة الغيمة والبستان الكبير، وصولاً إلى مجرى ومصبّ نهر الأولي. وارتفعت مكانها بنايات سكنيّة ومدن صناعيّة ومؤسسات صرفيّة. كما حلّ الباطون محلّ بساتين دوّار الزهراني والعقيبة وصولاً إلى مستشفى علاء الدين التي أنشئت محلّ بستان ليمون كان في عزّ عطائه. إضافة إلى ذلك احتلت المدن الصناعية والمحلات التجارية جوانب الطريق من عدلون إلى مفرق العباسية والبصّ، فتحوّل سهل العبّاسيّة الذي تزيد مساحته على أربعة آلاف دونم إلى مبانٍ سكنيّة وكراجات على حساب بساتين الموز والليمون.
حصلت هذه الكوارث نتيجة غياب تشريع ريفي «code rural» يحمي الحيازة الزراعية من التعدّي عليها ومن تحويلها إلى استخدام آخر بعيد عن الاستثمار الزراعي. لقد أكل زحف الباطون نحو 10 آلاف دونم من الأراضي المرويّة الخصبة في السهل الساحلي لوحده، فضلاً عن تأثيره السلبي على البيئة والمحيط الجغرافي للمدن. كما طالت هذه الهجمة مياه الريّ، وحُفرت الآبار من دون الحصول على ترخيص من وزارة الطاقة.

- جائحة التلوّث
اجتاحت جائحة التلوّث، بالدرجة الأولى، الثروة المائيّة (السطحية والجوفية). ونذكّر هنا بكارثة التلوث التي حلّت بنهر الليطاني وبحيرة القرعون وتعميمه على مآخذ المياه التي تروي السهل الساحليّ الجنوبيّ، وقطاع الريّ النموذجي شرقي صيدا. كما تروي جزءاً معتبراً من مشروع ريّ البقاع الغربي/ الجنوبي. وينتظر قريباً أن يصيب التلوّث قطاع الريّ الذي تنقله القناة 800. كما ستشرب بيروت مستقبلاً من المياه المنضغطة «eaux turbines» في معامل إنتاج الطاقة في مجرى نهر الأولي التي شارف على الانتهاء نقلها إلى بيروت.
وفي خطوة جريئة، أقدم المشتركون بمياه القناة 900 في البقاع الغربي، منذ سنتين على سدّ مدخل القناة بالحجارة لمنع وصول مياهها إلى مزروعاتهم التي أحجم المستهلكون عن شرائها لأنها تروى بمياه بحيرة القرعون الملوّثة.

- جائحة روؤس الأموال الوافدة من الخارج
منذ بدء الحرب الأهلية، واجتياحات إسرائيل التي أعقبتها، بدأت رؤوس الأموال الوافدة من المغتربين في القارة الإفريقية تبحث عن ملجإ آمن لها وعن مردود يوفّر الربح السريع. وجدت هذه الأموال أراضي السهل الساحلي الجنوبي متروكة من أصحابها ومن الإقطاع نتيجة اضطراب الوضع الأمني وسيطرة قوى الأمر الواقع على بعض البساتين. وبسبب تدهور قيمة العملة الوطنية، استغلّت رؤوس الأموال الوافدة هذا الوضع، وباشرت بشراء آلاف الدونمات التي أخلاها أصحابها مستغلّة فرق السعر بين ما تحمله من عملة صعبة وبين قيمة العملة المحلية المتدهورة، ما أتاح لها السيطرة على أكثر من ثلث مساحة السهل. ومع دخولها السريع هذا تراجعت مردوديّة وإنتاجية السهل في ظل غياب أصحابها الأصليين عنها. وفي ظل عوامل أخرى ليس أقلها انسداد أسواق تصريف الإنتاج.

- جائحة انسداد الأسواق الخارجية
من المعروف لدى الجميع أن معظم الإنتاج الزراعي اللبناني، وبشكل أساسي التفاح والليمون والموز، كان يتمّ تصريفه في سوريا وسائر بلدان الخليج العربي والعراق. لكن في مطلع الثمانينات، حقّقت سوريا اكتفاءها الذاتي من الحمضيات بشكل خاص. وبسبب الحرب الأهلية في لبنان، وحروب إسرائيل عليه، والحروب الإقليمية التي نشبت في سوريا والعراق وليبيا و اليمن، انسدّ معظم المعابر البّريّة المؤدّية إلى هذه الأسواق، ما سبّب إغراقاً خانقاً للسوق المحلية بالمنتجات الزراعية، وخصوصاً الموز الذي زادت المساحة المزروعة منه بمعدّل ضعفَي حاجة السوق المحلّي. كذلك ارتفعت أكلاف الإنتاج، ما دفع بعض الدول العربية ومنها سوريا إلى استيراد الموز من الخارج بكلفة أقل. في المحصّلة أدّى الإغراق إلى انخفاض أسعار الموز والليمون في الأسواق المحلّية بشكل دراماتيكي ووصل سعر الكيلو من هذين المنتجين إلى نصف سعر كيلو البطاطا أو البصل أو البقوليّات أخرى. فهل يؤدّي ذلك إلى اقتلاع شجرة الموز مجدّداً واستبدالها بزراعة أخرى أعلى مردودية وأكثر إنتاجاً؟

- جائحة التأخير في تنفيذ مشاريع الريّ
منذ الاستقلال، كان أول مشروع ريّ تنجزه الإدارة الزراعية في لبنان هو مشروع ريّ القاسمية ورأس العين ضمن مساحة 4000 هكتار، علماً بأن منشآته الأولى نفّذتها سلطة الانتداب. وبعد مضيّ عشرين عاماً، نفّذت الإدارة أولّ سدّ جمع في بحيّرته نحو 200 مليون متر مكعب وهو سدّ القرعون. بعد ذلك، تم إنجاز مشاريع ريّ كبرى تزيد مساحتها على 60 ألف هكتار، ولعلّ أكبرها مشروع ريّ الجنوب بمساحة 2100 هكتار، ومشروع ريّ البقاع الغربي بمساحة 2100 هكتار أيضاً. يضاف إليها، مشاريع ريّ صغرى ومتوسّطة في سهل عكار والقاع والهرمل والكورة وزغرتا والتي أنجزت دراساتها في أواسط السبعينات من القرن الماضي. كذلك وضعت الإدارة المشرفة على قطاع المياه، الخطّة العشريّة للسدود، إلّا أنه لم ينفّذ من هاتين المحاولتين سوى ثلاثة سدود صغيرة أشبه بالبحيرات الجبلية ضمن مساحة 2000 هكتار من مشروع ريّ البقاع الجنوبي. بينما نفّذت سوريا سدّها الثالث عشر على نهر العاصي ولم ينفّذ لبنان سدّ القاع – الهرمل.
أيضاً، سرقت إسرائيل مياه الحاصباني/ الوزاني، وخزانات جبل الشيخ إلى النقب، فما الذي ينتظره لبنان لإنجاز مشاريعه فيما تنساب مياهه إلى البحر؟
لا شكّ بأن جائحة التأخير المدمّرة أصابت الإدارة الزراعيّة وحوّلتها إلى إدارة معوقة ومُعيقة. فمع كل هذه الجوائح والمعوقات، تلجأ الإدارة المشرفة على القطاع حالياً، إلى رفع سعر المياه المسحوبة من الآبار في وقت يواجه المزارع فيه ارتفاع سعر المحروقات، وقطع الغيار. بينما يواجه إنتاجه المزيد من تدهور أسعاره وانسداد أسواق تصريفه.
بهذا العرض الموجز لمشاكل الزراعة المرويّة وهمومها، بتّ على قناعة تامّة بأن هذه الأعباء باتت كافية لحمل المستثمر في قطاع الريّ والزراعة إلى إقفال مآخذ المياه وإخلاء بستانه والالتحاق بزميله في الزراعة البعليّة الذي تركها وسبقه إلى ضواحي المدن منذ زمن بعيد.

* مهندس زراعي