تشكّل الأزمات فرصاً لرؤوس الأموال. بحثهم عن هذه الفرص دائم. يسعون إلى استغلال كل ثغرة قانونية، ويتكئون إلى منظومة فساد تحميهم وتتيح لهم تنفيذ مخطّطاتهم. مهما كانت الفرص كبيرة أو صغيرة هم جاهزون. هناك الكثير من الأمثلة عن استغلال الكوارث الطبيعية أو الحروب أو الزلازل أو أي أحداث مماثلة تؤدّي إلى دمار كبير كالذي حصل بعد الحرب الأهلية، أو بعد حرب تموز، أو في مرفأ بيروت والمنطقة المحيطة. فالدمار يمثّل فرصة ملائمة لوضع اليد على مشاريع عقارية أو مشاريع بنية تحتية، أو حتى لرفع الردم.في الحرب الأهلية، كان بعض أصحاب رؤوس الأموال يطلبون من الميليشيات المسلحة تدمير هذا المبنى أو ذاك لتهجير سكانه من المستأجرين القدامى. أتاح هذا الأمر لهم استملاك الأرض بسعر بخس، أو تفريغ المبنى من السكان بكلفة متواضعة قياساً إلى الأرباح التي يمكن تحقيقها من إعادة تشييد البناء وبيعه بأسعار باهظة أو تأجيره بالأسعار الاستثمارية الحرّة.
هذا السياق التاريخي تكرّر في أكثر من مرحلة. اليوم، من الأكيد أن هناك من يفكّر بكيفية الاستيلاء على الأحياء التي تدمّرت في العاصمة بسبب الانفجار في مرفأ بيروت. فهذا الانفجار ضرب منطقة تعتبر، عقارياً، منطقة أساسية على الواجهة البحرية لمدينة بيروت. وتتميّز هذه المنطقة بمعدلات استثمار مرتفعة، وفيها الكثير من المباني القديمة والكثير من المستأجرين القدامى أيضاً. الخوف يطاول هذه الأحياء بشكل أساسي، من المافيات العقارية المتحكّمة التي تمتهن الرقص على الجثث والاغتناء على حساب السكان الأصليين. من الضروري التحذير من سعي هذه المافيات وضرب تفكيرها الرامي إلى وضع اليد على هذه الأحياء. هم يريدون إفراغ المنطقة من السكان بذريعة الحفاظ على السلامة العامة من أجل طرد السكان وتشييد ناطحات سحاب بدلاً منها تحقق الثراء الكبير لهم.
تكمن مخاطر هذا السلوك في التهجير الجماعي لهذه المنطقة من سكانها، وتغيير النسيج الاجتماعي فيها، وتفريغ المدينة من أبنائها تماماً كما حصل في مراحل سابقة ومناطق من لبنان. سيتغيّر وجه المدينة، وسنخسر الذاكرة الجماعية والتراثية، وسنفقد هوية أساسية من أجل تحويل بيروت أو بعض أحيائها إلى مدينة اصطناعية.
من أجل الربح السريع والسهل، ستستغل المافيا العقارية الوضع الناشئ بسبب الانفجار وما ألحقة من أضرار بالمدينة ومرفئها الحيوي، وسيدّعون الرغبة في الحفاظ على أرواح الناس من أجل طرد السكان. وستكون دعواهم مبطنة بأسباب مالية ريعية وقحة يتحكّم بها رأس المال. فلا يمكن الادعاء بأن الحفاظ على السلامة العامة يكون عبر طرد السكان.
هناك من يفكّر بالاستيلاء على الأحياء التي تدمّرت بسبب الانفجار في مرفأ بيروت


وفي سبيل هذا الادعاء، هناك آليات قانونية المطلوب الانتباه إليها اليوم. فهناك قانون يسمح بإخلاء المأجور بذريعة هدمه والحفاظ على السلامة العامة. سيزعمون أن المساكن باتت تشكّل خطراً وأنهم مضطرون لهدمها. هذه المافيا تتحرّك في كل الأوضاع. فقد لاحظنا أثناء الحرب الأهلية، أن بعض كبار أصحاب العقارات يطلبون من المسحلين هدم مبانيهم للتخلص من أعباء المستأجرين. المهم أن الخوف من استغلال القانون وتضارب الصلاحيات بين القوى الموجودة على الأرض، للاستيلاء على مبانٍ تراثية تشكّل ذاكرة جمالية للبنان ولمراحل عيش اللبنانيين.
في الواقع، تشكّل الأحياء التي تضررت بسبب الانفجار واجهة بحرية ومكاناً رائعاً على الشريط الساحلي لمدينة بيروت، وهي تتمتع باستثمار عالٍ ويمكن بناء عليها أبنية مرتفعة، وهذا يعني أنه بدلاً من المباني الصغيرة والقديمة، ستشيّد أبنية مرتفعة لا تشبه المدينة ولا تاريخها، وسينجم عن ذلك فرز طبقي مذهل وسريع. علينا الحذر من الذين ينظرون اليوم إلى الخريطة ويخطّطون للاستياء على المنطقة واستغلال ما حصل.
يتوجب على الدولة حماية المدينة من تغيير هويتها. عليها حماية السكان. عليها حماية الطبقة الفقيرة والمتوسطة التي تسكن في تلك المنطقة. هذه أولوية لا يمكن التغاضي عنها. يجب أن تكون هناك جهة واحدة صاحبة الصلاحية في السيطرة على الأرض وعزل المناطق المنكوبة وإدارة عمليات الإعمار فيها. ومن أجل المزيد من الرقابة، يجب أن يتم الأمر بإشراف نقابة المهندسين ومديرية الآثار والمتخصصين في الأبنية التراثية.
من الناحية الإنشائية، لا يوجد مبنى لا يمكن ترميمه. هذه كذبة. أي مبنى بأي وضعية بأي خطورة يمكن ترميمه. الاختلاف قد يكون في الكلفة، لكنها مبرّرة في إطار الحفاظ على الذاكرة الجمالية والإرث الثقافي والهوية اللبنانية.

* عضو مجلس نقابة المهندسين