في الإحصاءات التي نشرها صندوق النقد الدولي أخيراً، تبيّن أنه خُفّض الناتج المحلي الإجمالي من 52٫5 مليار دولار إلى 18٫7 مليار دولار، أي أنه لم يبق من الناتج سوى 35.6% مما كان عليه قبل سنة. هذا الانكماش الكبير بنسبة 64.3% يعود إلى أمرين: انكماش النشاط الاقتصادي، وإعادة احتساب سعر صرف الدولار على أساس السعر السوقي وليس على أساس السعر المعتمد من قبل مصرف لبنان.وبمعزل عن الحسابات التقنية التي تنطوي على هامش خطأ، فإن سعر الصرف وفق صندوق النقد الدولي بات يساوي اليوم 6000 ليرة، وهو أمر لافت جداً وخصوصاً أن البنك الدولي لم يعتمد هذه الأرقام بعد، وما يثير الانتباه أيضاً أن اعتماد الصندوق هذا الرقم يعني أن تحرير سعر الصرف لن يكون ضمن مستوى أقلّ، وأن هذا الأمر يؤثّر على مجمل الحسابات المتعلقة بالخسائر التي تكبدها النظام المصرفي، وعلى أصوله أيضاً، وعلى القطاع الخاص وديونه… هذا السعر قد يكون احتُسب أيضاً بعد ثبات سعر الصرف لأشهر على مستويات مرتفعة.
وبالتالي فإن الارتفاعات الهامشية أو الخفوضات الهامشية في السعر لن يكون لها إلا أثر ظرفي وآني. لكن لا تجب المخاطرة والرهان على أن هذا السعر هو نهائي، فالأمور مرتبطة بالتطورات الاقتصادية والسياسية. حتى الآن لا توجد مشاريع واضحة لكيفية التخلّص من الخسائر وإعادة إطلاق الاقتصاد لا عند الرئيس المكلف تشكيل الحكومة، ولا عند غيره أيضاً. كذلك لا توجد مؤشرات اقتصادية واضحة في اتجاه إيجابي. فالاعتقاد السائد بأن التوازن بين الكتلة النقدية بالليرة والدولار في السوق هو وحده كاف لإعادة التوازن إلى الاختلال الحاصل في التسعير، هو أمر خاطئ، فمعايير العرض والطلب ليست مرتبطة فقط بحجم الكتل وتوازناتها، بل هي تتأثّر أيضاً بما يمكن بكل خطوة وكل قرار سياسي واقتصادي.
تسعير النقد الوطني ليس أمراً بهذه السهولة. حالياً، يتحكّم بالسعر مجموعة من المضاربين، وسلّة من التوقعات غير المنطقية التي ترفع السعر وفق مصالح السوق. هنا بالتحديد هي هذه التوازنات. لمصلحة من تصبّ، وأي سعر تحتاج لامتصاص السيولة النقدية أو لتحريرها؟ ثمة أسئلة كثيرة لكن الإجابة الوحيدة المتوافرة هي أن مصرف لبنان لم يعد صانع السوق كما يفترض به أن يكون إذا كان ينوي الحفاظ على «استقرار ما» لسعر الصرف.
تضخّم ديون القطاع الخاص

تُصنّف التسليفات المصرفية للقطاع الخاص في خانة الأصول المصرفية التي تُستردّ مع فوائدها بمرور الزمن. وبفعل العوامل الاقتصادية وأنماط سلوك شرائح الزبائن والأخطاء التي ترتكبها المصارف في عملية الإقراض، تتعرّض هذه المحفظة لنسبة من التعثّر التي تحوّل بعض هذه الأصول إلى ديون هالكة غير قابلة للاسترداد، أي أن المصارف تتعرض لخسائر في محفظة التسليفات. ومقابل قيمة هذه الخسائر المتوقّعة يترتّب على المصارف أن تأخذ مؤونات مالية تموّل من الأرباح، كما تُحتسب في هذه العملية الضمانات سواء كانت عقارية أو أي ضمانات مادية أخرى يحصل عليها المصرف مقابل إقراض الزبون.
هذا هو المسار الإجمالي البسيط لمسألة التعامل مع الديون المتعثّرة أو المشكوك في تحصيلها. في الواقع، هي عملية تقنية معقّدة وتنطوي على الكثير من الحسابات. منها ما يتعلق بتصنيف الزبائن، وتصنيف الخسائر واحتسابها. حالياً، هناك عاملان يزيدان الأمور تعقيداً؛ الأول أن قسماً من هذه الديون هو بالدولار، وبالتالي فإن التعامل معه في ظل أزمة نقدية – مالية – اقتصادية – أمر مختلف جذرياً. والأمر الثاني، هو أن سعر صرف الدولار تجاه الليرة ارتفع كثيراً وعدّل معه كيفية احتساب المؤونات على هذه الخسائر، وهو أمر يثير الكثير من التساؤلات بشأن قيمة هذه الديون والمؤونات التي تقابلها والقدرة الاستردادية للمصارف.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

في عام 2019 كانت قيمة تسليفات القطاع الخاص نحو 46.9 مليار دولار. يومها كان الناتج المحلي الإجمالي مقدراً بنحو 52.5 مليار دولار، أي أن الديون كانت توازي 89.3% من الناتج. أما اليوم، فبحسب صندوق النقد الدولي صار الناتج المحلي الإجمالي يوازي 18.7 مليار دولار، بينما تشير أرقام مصرف لبنان إلى أن تسليفات القطاع الخاص التي تتضمن مقيمين وغير مقيمين تبلغ 38.2 مليار دولار من بينها نحو 2.89 مليار دولار تعود لخدمة مقترضين في الخارج.
احتساب هذه الديون قياساً على تقديرات الناتج الصادرة عن صندوق النقد الدولي لن يكون واقعياً من دون توحيد احتساب سعر صرف الدولار كما يحتسبه الصندوق. فهذا الأخير اعتمد لإصدار الناتج المحلي الإجمالي سعراً للدولار يبلغ 6000 ليرة بدلاً من 1507.5 ليرات وسطياً. هذا يعني أن قيمة الأصول ستزداد وسترتفع معها مستويات التعثّر وقيمة المؤونات. كلما تقلّص الناتج، ازدادت احتمالات التخلّف عن السداد، وكلما ارتفع سعر الدولار مقابل الليرة، ازدادت أيضاً فرص التوقف عن الدفع. لذا، فإن احتساب الديون المحلية بالدولار على سعر 6000 ليرة هو مفتاح القياس نسبة إلى الناتج المقدّر من الصندوق. وبالتالي فإن قيمة هذه الأصول ستكون مغايرة تماماً لكل الحسابات الحالية، سواء تلك التي أنجزتها خطّة الحكومة للتعافي المالي، أو تلك التي توهم نفسها بها جمعية المصارف ومصرف لبنان. فهذه الأرقام تأتي بعد كل عمليات إعادة الجدولة التي نفذتها المصارف مع زبائنها على مدى السنوات الأربع الماضية منذ أن بدأ يظهر التعثّر على القطاع العقاري. وعندما بدأت المصارف بالتوقف عن تسديد الودائع وفرضت قيوداً غير مشروعة على السحوبات والتحويل، ازدادت نسب التعثّر أيضاً، فضلاً عن الأثر الذي نتج عن تدهور الاقتصاد وسياسات التقشف التي حاولت الحكومات المتعاقبة ممارستها في إطار ضبط المالية العامة.
كلما تقلص الناتج، ازدادت احتمالات التخلّف عن السداد، وكلما ارتفع سعر الدولار مقابل الليرة، ازدادت أيضاً فرص التوقف عن الدفع


من أصل قيمة المحفظة الإجمالية، هناك ديون للقطاع الخاص بالليرة تبلغ 22415 مليار ليرة، وديون محليّة بالدولار كانت قيمتها 20.07 مليار دولار على أساس سعر صرف 1507.5 ليرات وسطياً، إلا أنها باتت تساوي اليوم 120420 مليار ليرة. ويضاف إليها قيمة الديون الخارجية بالدولار التي كانت تبلغ 4361 مليار ليرة وصارت اليوم على أساس سعر الصرف المعدّل 17340 مليار ليرة، ما يعني أن مجمل قيمة التسليفات للقطاع الخاص بات يساوي اليوم 160175 مليار ليرة، أي ما يوازي 142.7% من الناتج المحلي الإجمالي. هذه النسبة كافية لفهم ما سيحصل في الديون المتعثّرة أو التي ستتعثّر.
في هذا المجال، يمكن احتساب ثلاثة سيناريوهات على نسب التعثّر على محفظة التسليفات المحلية:
- السيناريو الأول وهو يمثّل أدنى التوقعات: تعثّر بنسبة 10%. هذه النسبة تساوي ما قيمته 14283 مليار ليرة، أي ما يوازي 2.3 مليار دولار (على سعر الـ6000 ليرة)، أو ما يوازي 12.2% من الناتج المحلي الإجمالي في نهاية 2020.
- السيناريو الثاني: تعثّر بنسبة 20%. هذه النسبة تساوي ما قيمته 28566 مليار ليرة، أي ما يوازي 4.7 مليارات دولار (على سعر الـ6000 ليرة)، أو ما يوازي 25.4% من الناتج المحلي الإجمالي.
- السيناريو الثالث وهو يمثّل ما يمكن تسميته بالحدّ الأقصى في ظل الأوضاع الحالية، أي أنه لا يأخذ في الاعتبار تحرير سعر الصرف ولا أي عوامل سياسية أخرى قد تولّد مسارات سلبية أو إيجابية: تعثّر بنسبة 30%. هذا التعثّر يساوي ما قيمته 42849 مليار ليرة أو ما يوازي 7.14 مليارات دولار (على سعر الـ6000 ليرة)، أو ما يعادل 38.2% من الناتج المحلي الإجمالي المقدّر لعام 2020.




اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا