كل شهر تقريباً، تخرج علينا إدارة الإحصاء المركزي ببيان إحصائي عن تغيّر أسعار المواد المستهلكة يُطلق عليه مؤشّر أسعار الاستهلاك الذي تصدره بوصفها جهة رسمية مهمتها إصدار الإحصاءات الرسمية، علماً بأن هناك شركة خاصة تصدر مؤشراً مماثلاً أيضاً. مؤشّر أسعار المستهلك / أو مؤشر أسعار الاستهلاك، هو دلالة إحصائية لقياس التغيّرات التي تطرأ على أسعار السلع والخدمات الرئيسية المستهلكة داخل بلد معيّن، والتي تعكس بنية وثقافة الإنفاق الاستهلاكي للأسر والأفراد فيه. لذا، عندما يرتفع المؤشّر عن الشهر السابق، تكون الأسعار ارتفعت وبالتالي ينعكس ذلك انخفاضاً في القدرة الشرائية للمواطن عن شراء السلّة نفسها من السلع والخدمات التي كان يشتريها في الفترة السابقة بمبلغ أقل. وفي حال انخفض المؤشر، فهذا يدلّ على ارتفاع القدرة الشرائية للمواطن مقارنة مع الفترة السابقة، أي أصبح بمقدوره شراء سلع وخدمات إضافية بذات الحجم المحدّد من النقد، أو في حال لم يكن بحاجة إلى تلك السلع، أن يقوم بحفظ وادّخار قيمة النقد.
أما في حال كان الارتفاع متواصلاً لفترة زمنية طويلة تتعدى الأشهر، فهذا يدلّ على وجود تضخّم مالي في الأسواق، لأن التضخّم هو ارتفاع متواصل في أسعار السلع والخدمات لفترة طويلة، وذلك له انعكاسات على ضرورة تدخّل الحكومة لمجابهته بسياسات صارمة (سياسات نقدية وسياسات مالية مناسبة).

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

لكي تكون لهذا المؤشر دلائل واضحة، يجب أن تتم المقارنات فصلياً، نصف سنوياً، أو سنوياً وليس أسبوعياً ولا شهرياً، حتى لا يكون الارتفاع في الأسعار ناتجاً عن تقلّبات موسميّة في الأسعار، أو عن خضّات مؤقّتة.
- ممّ يتكون مؤشّر أسعار الاستهلاك:
إن سلّة السلع في مؤشر أسعار الاستهلاك موزّعة بحسب تصنيف الاستهلاك الفردي الذي وضعته شعبة الإحصاء في الأمم المتحدة، والذي ينقسم إلى 12 بنداً، هي:
●المواد الغذائية والمشروبات غير الروحية ●مشروبات روحية وتبغ وتنباك ●الألبسة والأحذية ●مسكن، ماء، وغاز، وكهرباء، ومحروقات ●أثاث وتجهيزات منزلية، وصيانة مستمرة للمنزل ●الصحة ●النقل ●الاتصالات ●الاستجمام والتسلية والثقافة ●التعليم ●مطاعم وفنادق ●سلع وخدمات متفرقة.
- بناء المؤشّر:
يتم وضع جدول فيه كلّ أسعار السلع والخدمات الرئيسة التي تكوِّن مروحة كبيرة من استهلاك الأسرة داخل دولة ما، خلال فترة شهر واحد وتُجمع أسعارها. وفي الشهر التالي، تجمع أسعار السلع والخدمات نفسها. بعدها يُقسم المجموع القديم، على المجموع الجديد ونضرب الناتج بـ100، فيصبح لدينا معدّل أسعار المستهلك. هل يتم جمع الأسعار بغضّ النظر عن ثقل أو وزن كل سلعة في سلّة الاستهلاك؟ بالتأكيد لا، هناك ضرورة لإيجاد وزن للعديد من السلع التي تمثّل نسبة أكبر من استهلاك الأفراد مقارنة مع سلع أو خدمات أخرى. هذا ما يُعرف به معدل التثقيل الذي يختلف باختلاف الثقافة الاستهلاكية في كل بلد. وقد يختلف بحسب المدن الكبرى أيضاً.
- بعض الانتقادات على مؤشر أسعار الاستهلاك في لبنان:
1- يشير تقرير الإحصاء المركزي إلى استهلاك اللبنانيين وليس المقيمين، إلا أن الضرورة الإحصائية تستوجب إبراز كلّ المؤثّرين في الأسعار والاستهلاك، وخصوصاً في ظل وجود أعداد تلامس أعداد المواطنين من جنسيات مختلفة، ولها ثقافات مختلفة وأنماط استهلاكية متعدّدة. علماً أنه، بالاستناد إلى المسح الذي أجراه الإحصاء المركزي في عامَي 2018 و2019، ظهر أن المقيمين في لبنان توزّعوا ما بين 80% من اللبنانيين و20% من غير اللبنانيين، وهذا التعداد لم يشمل مخيمات اللاجئين.
2- بالاعتماد على المسح المذكور أعلاه، جرى وضع رقم تقريبي لما تحتويه كل محافظة من السكان، إلا أن الإحصاء المركزي، وبعد أكثر من عامين لم يقم بتعديل معدّلات التثقيل لكل محافظة من المحافظات في مؤشّر أسعار المستهلك.
3- تعتبر منظمة العمل الدولية، أنه لا يمكن تطبيق مؤشّر أسعار الاستهلاك بشكل واحد لجميع البلدان، أي أن لكل بلد خاصية معينة وخدمات قد يتلقاها بشكل مجاني من الحكومات رغم أنها مدفوعة في دول أخرى. كذلك تختلف ثقافة المستهلك من دولة لأخرى ومما تتكون منه سلّته الغذائية.



4- هناك ضرورة أن يلحظ مؤشّر أسعار المستهلك، الفئة الاجتماعية التي يشير إليها في أرقامه، أو أن يعطي لسلّته الغذائية معدل تثقيل لكل فئة من الفئات الاجتماعية، ولا سيما في ظل الحراك الاجتماعي الإيجابي أو السلبي الذي يحصل في الدولة، وخصوصاً خلال الأزمات المالية والاجتماعية، إذ إن نسبة الفقراء من السكان وصلت إلى 55% في عام 2020 بعدما كانت 28% في عام 2019، فيما ارتفعت نسبة الذين يعانون من الفقر المدقع بثلاثة أضعاف من 8% إلى 23%، في الفترة نفسها.
5- ضرورة تحديد معدّل الأجور التي لحظها في بياناته الإحصائية والمناطق التي تسكن فيها لإظهار إنفاقهم الشهري. وهو أمر غير موجود حالياً، وخصوصاً أن حجم الطبقة الوسطى انخفض من 40% عام 1992 إلى 30% عام 1999، ليصل إلى 20% عام 2015.
6- بالنسبة إلى معدل التثقيل في التبغ والتنباك والمشروبات الكحولية: ما هو حجم دخل الأسر التي تمت دراستها في الدراسة الإحصائية عام 2012 حتى ظهر أن التبغ والتنباك لا يشكلان سوى 1.6%، ولا سيما إذا علمنا أن: «21.5% من الإناث البالغات في لبنان و48.6% من الذكور البالغين يدخّنون السجائر». بحسابات بسيطة يتبيّن: إذا اعتمدنا أن معدّل سعر علبة السجائر 2000 ليرة (في حينه) مضروبة باستهلاك علبة ونصف علبة يومياً، مضروبة بثلاثين نهاراً تعطينا نتيجة تتجاوز 9% من أجر مواطن راتبه مليون ليرة في عام 2012.
7- بالنسبة إلى معدل التثقيل لكلفة التعليم: كيف ظهر أنها تبلغ 5.9% مع أنها في ارتفاع سنوي مع بروز ظاهرة نزوح عدد الطلاب اللبنانيين من المدارس الرسمية إلى المدارس الخاصة (في 2012). ففي العام الدراسي 2010-2011 سجّل عدد الطلاب في التعليم الرسمي 29.5% من مجموع الطلاب في التعليم العام. كذلك، وبناءً على دراسة أخرى لإدارة الإحصاء المركزي، فإن كلفة التعليم في تزايد مستمر سنوياً من 62 نقطة عام 2007 إلى 93 نقطة في عام 2012.
8- بالاستناد إلى معدّل تثقيل كلفة السكن في المؤشّر، فإن هذا الأخير لا يلحظ ارتفاع كلفة شراء عقار، ولا كلفة السكن الملائم للعديد من المواطنين، ما رتّب كلفة إضافية تتجاوز ثلث أجر دخل متوسط عالٍ في لبنان، وبالتالي كيف حال أصحاب الأجور المتوسطة والأقل، إذ قد تشكّل أكثر من 50% من الدخل. في المقابل، تمثّل نسبة ثقل (وزن) الإيجار في مؤشر الإحصاء المركزي 3.4% فقط، وكلفة المسكن وما تتضمنه من مصاريف مختلفة كالماء، والكهرباء، والغاز، وغيرها من النفقات لا تتجاوز 28.5%. لذا يجدر السؤال عن أي فئة سكنية يلحظ المؤشر؟ هل المؤشر يمثل 10% فقط من المواطنين أو أقل؟
لا يلحظ معدّل تثقيل كلفة السكن ارتفاع كلفة شراء عقار ولا كلفة السكن الملائم، ما يرتّب كلفة إضافية تتجاوز ثلث أجر دخل متوسط عالٍ في لبنان


9- ما هي الأسعار التي يتحمّلها المستهلك والناتجة عن التقنين في الكهرباء، وبالتالي دفع كلفة تمديد واشتراك مولد شهري لأغلبية المنازل في لبنان، ألا يجدر أن تكون ظاهرة في المؤشّر، كذلك كلفة شراء مياه للخدمة المنزلية، وبالتالي تكبّد كل عائلة أكلافاً شهرية إضافية عن أي عائلة في معظم البلدان المجاورة.
10- ضرورة مراجعة معدلات الترجيح أو التمثيل في مؤشّر المستهلك كل خمس سنوات على الأكثر، وأحياناً وفي حال كانت الدولة تعاني من ظروف سريعة تؤثّر في نفقات الأسرة، فمن الأجدر مقاربة المؤشّر خلال فترات أقل، وإعادة صياغة معدلات التمثيل التي تشكّل المؤشر.
11- ضرورة أخذ الإحصائيين العاملين على المؤشر، عيّنات تمثيلية شهرية بحسب العديد من المناطق، وضرورة إيراد حجم العينة، وما الفئة الاجتماعية التي تمثّلها، ومنطقتها، مع إبراز النتائج الشهرية التي تصدرها إدارة الإحصاء المركزي عن مؤشّر المستهلك.
12- ينص أحد تقارير منظمة العمل الدولية (المؤتمر الدولي السابع عشر لخبراء إحصاءات العمل) على ضرورة تضمين حجم عدم استخدام سلع ما، أو خفض ثقلها في المؤشر لأسباب ثقافية، أو لنمط السكان، وهذا ما لم تفعله إدارة الإحصاء المركزي في كلّ تقاريرها.
هناك حاجة إلى مراجعة المؤشّر ومعدلات تثقيله (لقد خدمت ما يقارب العشرة أعوام) مع أهمية إبراز الفئة أو الفئات الاجتماعية الممثّلة فيه رغبة منا في الاستناد مستقبلاً إلى أرقام لا تكون وجهة نظر ولا يكتنفها أي خلاف في سبيل الخروج من النفق الأسود الذي عشنا فيه مطوّلاً.

* باحث اقتصادي

تابع حساب «رأس المال» على إنستغرام هنا
اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا