ترجمة: ضحى ياسين
عُرف الأول من كانون الثاني2021 في كوبا باسم «يوم الصفر». بعد نحو ثلاثة عقود من العمل بعملة مزدوجة، تم توحيد البيزو الكوبي الوطني (كوب)، والبيزو القابل للتحويل (كوك)، كجزء من عملية «النظام النقدي» الأوسع التي تتضمن أيضاً تعديلات كبيرة في الأسعار، ومن إلغاء الإعانات (الحكومية) المفرطة والعلاوات غير المبرّرة، فضلاً عن تحوّلات كبيرة على مستوى الرواتب والمعاشات التقاعدية ومستحقات المساعدة الاجتماعية. هذا المسعى كان غير مسبوق، لأنّ الحصار الأميركي يقيّد وصول كوبا إلى الموارد المالية والعائدات الخارجية، ولأن هذه العملية انطلقت بعد التزام الدولة بحماية السكان من صدمة إعادة الهيكلة. بالإضافة إلى أنّ هذه العملية تدخل حيّز التنفيذ في خضمّ الركود الاقتصادي العالمي الناجم عن كوفيد-19.

في كانون الثاني 2021، أصبح دونالد ترامب الرئيس الثاني عشر للولايات المتحدة الأميركية الذي يترك منصبه من دون تغيير النظام في كوبا، رغم أنّ ذلك لم يكن بسبب عدم المحاولة. فقد أطلقت إدارة ترامب العنان لما يزيد عن 240 إجراءً جديداً لتشديد أطول وأشد حصار في العالم بهدف إغراق الشعب الكوبي بالبؤس والمعاناة. حتى في ظلّ الوباء ازداد الضغط على كوبا، وفرضت واشنطن عقوبات خانقة بينما عزّزت المعارضة التي تتخذ من ميامي مقرّاً لها عدم الاستقرار السياسي والتناحر الأهلي. وفي آخر فصول المنكافات، أعادت إدارة ترامب في 12 كانون الثاني 2021 كوبا إلى اللائحة الأميركية للدول الراعية للإرهاب في خطوة تهدف إلى عرقلة أيّ جهود من جانب إدارة بايدن الجديدة لتحسين العلاقات مع الجزيرة.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

في عام 2020، انخفض الناتج المحلي الإجمالي لكوبا بنسبة 11%، أي إن نحو ثلث الانخفاض الإجمالي الذي شهدته الجزيرة خلال «المرحلة الاستثنائية» بين عامَي 1990 و1993 بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. بلغت إيرادات العملة الصعبة 55% فقط من الإيرادات المقرّرة في عام 2020، بينما انخفضت الواردات بنسبة 30% مقارنة بعام 2019. تحتاج كوبا إلى العملة الصعبة للشراء من السوق الدولية إذ أن أكثر من نصف المواد الغذائية والوقود والأدوية والموارد الحيوية الأخرى المستهلكة في الجزيرة هي مستوردة، لذا الرفوف فارغة والطوابير طويلة. هذا السيناريو معقّد وفي الوقت عينه يولي أهمية ملحّة لعملية «النظام النقدي».
يعود تاريخ العملة المزدوجة لكوبا إلى عام 1993، وهو أسوأ عام في تلك «المرحلة الاستثنائية»، عندما تم تشريع الدولار الأميركي على مضض، والسماح له بالعمل جنباً إلى جنب مع عملة الكوب المحلّية. فحيازة الدولار محظورة منذ عام 1979. أظهر الرئيس فيدل كاسترو، عند إعلانه التشريع في خطاب ألقاه في 26 يوليو 1993، شيئاً من الامتعاض محذراً من التفاوتات الناشئة؛ أولئك الذين يتلقون تحويلات سوف يتمتعون «بامتيازات لا يتمتع بها البقية»، وهو شيء «لم نعتد عليه». ومع ذلك، فقد انتشر استخدام «السوق السوداء» للدولار الأميركي على نطاق واسع لدرجة أن الحظر لم يكن عملياً. ونقل التشريع امتيازات استخدام الدولار من الأفراد إلى الدولة، ليستفيد منها الجميع. كما شكّل عنصراً ضرورياً لانفتاح صناعة السياحة التي تعمل بالدولار. علاوة على ذلك، مع وجود الكثير من الكوبيين ممن لديهم أقارب في الولايات المتحدة، يمكن أن يؤدي تدفق التحويلات إلى تعزيز الاقتصاد المتعثّر. ومع ذلك، أدت التحويلات المالية إلى تفاقم اللامساواة العرقية والطبقية المتجذّرة تاريخياً، إذ كان معظم المستفيدين هم من البيض والميسورين. أقارب هؤلاء غالباً غادروا في موجات الهجرة المبكرة ذات الدوافع السياسية وكانوا راسخين في الولايات المتحدة أو أوروبا، ولديهم موارد كافية لإرسال الأموال إلى كوبا.
سُمح التعامل بالدولار الأميركي في الاقتصاد المحلّي وللاستخدام الشخصي. استمر شراء معظم الضروريات الأساسية بعملة الكوب، لكن بيعت السلع الكمالية والسلع الأساسية الإضافية التي لا تشملها مخصّصات البطاقة التموينية في «متاجر تحصيل العملات الصعبة»، المعروفة باسم «متاجر الدولار»، بأسعار تشمل ضرائب مرتفعة. بالنسبة إلى المستهلكين الكوبيين، انخفضت قيمة الدولار بسرعة مقابل «الكوب» (في البداية من دولار واحد يساوي 150 كوبْ في عام 1994 إلى دولار واحد يساوي 18 كوبْ في عام 1996) واستقرّت عند 24 كوبْ مقابل الدولار الواحد. مع ذلك، في مؤسّسات الدولة، تقيّدت الحسابات وعمليات الصرف بسعر الصرف الرسمي، وهو كوب واحد للدولار الواحد. الأمر الذي خلق مشكلة لأنه حجب الخسائر والفوائض من حساباتهم، وأزال الحوافز لزيادة الصادرات.
في عام 1994، أدخلت الحكومة الكوبية البيزو الكوبي الجديد «القابل للتحويل» (الكوك) ليحلّ محل الدولار الأميركي المستخدم في كوبا بسعر صرف واحد إلى واحد. تمّت طباعة عملة الكوك والتحكم بها من قبل البنك المركزي الكوبي. تدريجياً، فاق استخدام عملة الكوك، الدولار الأميركي، ليتم لاحقاً إلغاء الدولار الأميركي كعملة قانونية في عام 2004 . جاء «إلغاء الدولرة» رداً على مجموعة استهداف الأصول الكوبية التي أنشأها بوش لوقف تدفق الدولار الأميركي من وإلى كوبا. قسّمت العملة المزدوجة، الاقتصاد، إلى قسمين. يعتمد الفرع الذي يعمل فيه أي كوبي، على ما إذا كان دخلهم حصرياً من راتب حكومي مدفوع بعملة الكوب، أو إذا كانت لديهم إمكانية الوصول إلى الدولار أو الكوك. كان للعديد من الكوبيين موطئ قدم في كل قطاع. ومع ذلك، فقد رسخ أيضاً عدم المساواة وقطع الصلة بين العمل والأجر. لم يعد الدخل يعكس مستويات المهارة، ولا كمية أو جودة العمل الرسمي. بإمكان أولئك الذين لديهم إمكانية الوصول إلى الدولار، شراء سلع البيزو المدعومة بجزء بسيط من سعر السوق واستهلاك سلع إضافية من متاجر الدولار. وأولئك الذين يعتمدون على دخل البيزو لا يستطيعون تحمل الأسواق غير المدعومة. موظفو الدولة، بمن في ذلك أصحاب المهارات العالية، كانوا يحصلون على أقل المداخيل. ترك العديد من الكوبيين المؤهلين مهنهم للحصول على وظائف مع إمكانية الوصول إلى عملة الكوك التي وفّرت لهم مستوى أعلى من الاستهلاك، مثل السياحة أو قيادة سيارات الأجرة أو المشاريع المشتركة.
لاقى هذا الإعلان الاستحسان. فقد استنتج معظم الكوبيين عدم المساواة في الدخل نتيجة النظام النقدي المزدوج، وبالتالي افترضوا أن التوحيد النقدي سيؤدي تلقائياً إلى اختفاء عدم المساواة. ورغم الاتفاق على ضرورة التوحيد، فقد تأخرت العملية نتيجة تعامل كوبا مع مشاكل أخرى ملحة، علماً بأنه تم القيام بأولى الخطوات. تم تحويل سعر الصرف الواحد في بعض الشركات الكوبية، إلى كوك واحد مقابل كوب واحد، وبعد ذلك من واحد إلى عشرة، ما أدى إلى خفض قيمة الكوب بشكل كبير، ورفع أكلاف الإنتاج المحلي، ما يتطلّب إعانات حكومية أكبر لتجنيب تحميل الشعب الكوبي الأكلاف العالية.
يكمن الحل في النهاية في زيادة الإنتاج وزيادة الإنتاجية. زاد الحد الأدنى للأجور الشهرية لموظفي الدولة (ثلثا إجمالي الموظفين) بنسبة 525% من 400 كوب (17 دولاراً) إلى 2100 كوب (88 دولاراً). الحد الأقصى الجديد، استناداً إلى ساعات العمل واستبعاد المدفوعات الإضافية المتاحة، هو 9510 كوبْ (396 دولاراً). سيتم ربط الرواتب العالية بالمؤهلات التعليمية والمعايير التخصّصية الأخرى. تم رفع الحد الأدنى للمعاش المرتبط بالسن أو معاش العجز بنسبة 450% إلى 1528 دولاراً. تحمي هذه الزيادات الكوبيين من ارتفاع الأسعار الذي لا مفرّ منه، والذي كان متوقعاً بمتوسط 160% ​​للأسعار التي تسيطر عليها الدولة و 300% للشركات الخاصة. لذا، كلما زادت نسبة الدخل التي ينفقها الكوبي في القطاع غير الحكومي، زاد تأثّره بارتفاع الأسعار. ومع ذلك، فإن فوائد زيادة الرواتب للأفراد ستتآكل إذا أدت ندرة السلع إلى دوامة التضخّم.
والغاية من رفع الأجور هي تحفيز الكوبيين على تحسين مؤهلاتهم ومهاراتهم. ستدفع هذه التعديلات طبقة كبيرة من المجتمع الذين يعيشون من دون عمل رسمي، نحو سوق العمل، وسيستفيدون من تقديمات الدولة والاستهلاك المدعوم. بحلول كانون الأول 2020، تقدّم آلاف الكوبيين لشغل وظائف في القطاع الحكومي. ومع ذلك، لا تزال الندرة عالية، وتلوح في الأفق دوامة التضخم.
في سياق العدوان الأميركي، والاعتماد التجاري، والأزمات الاقتصادية، والندرة، تهدف الحكومة الكوبية إلى تبنّي حوافز مادية أكبر في معركة طويلة الأمد لزيادة الإنتاج والإنتاجية في الإطار الاشتراكي


«البطاقة التموينية» ستبقى وسيلة لتوزيع المنتجات الغذائية المدعومة بشكل كبير، ولكن سيُرفع الدعم عن السلع الأخرى في سلّة الأسر تدريجياً مع تحوّل التركيز إلى «دعم الناس»، وليس المنتجات، بحيث سيستهدف دعم الدولة المحتاجين.
لم يحدث شيء دراماتيكي في يوم الصفر نفسه. أمام الكوبيين ستة أشهر للتخلص من الكوك أو تصريفه حسب سعر الصرف الحالي: الكوك الواحد يساوي 24 كوبْ. ومع ذلك، لن تكون عملة الكوب هي العملة القانونية الوحيدة في كوبا. في عام 2019، فتحت الحكومة «مؤقتاً» متاجر بعملة قابلة للتحويل بحرية (MLC)، بما في ذلك الدولار. اتّسعت سلسلة المتاجر هذه في تموز 2020. ورغم أنها لا تحظى بشعبية كبيرة، إلا أنها وسيلة لإمداد الدولة بالعملات الصعبة التي تشتد الحاجة إليها. تقبل متاجر MLC البطاقات المصرفية فقط، والتي تعتمد على الكوبيين الذين لديهم ودائع نقدية في المصارف الكوبية. يعتمد نجاح هذه المتاجر إلى حد كبير على التحويلات، لكنها تضرّرت من جراء العقوبات الأميركية والانكماش العالمي.
تعتمد جميع المؤسسات الحكومية الكوبية الآن سعر صرف 24 كوبْ مقابل الدولار الواحد، أيّ انخفاض في قيمة العملة بنسبة 2300% من سعر الصرف الواحد للواحد. من المفترض أن يجبرهم هذا على زيادة الكفاءة والإنتاجية من أجل التكيّف. التزمت الدولة بحماية الشركات من خلال تقديم الدعم والائتمان لمدة عام واحد. ومع ذلك، فإن الدافع لزيادة الإنتاجية لا بد أن يقلل من الأمن الوظيفي ويزيد من البطالة - وهو أمر صعب للقوى العاملة التي اعتادت على الحماية المكثفة بغض النظر عن الأداء.
حظيت مؤسّسات الدولة بسيطرة أكبر على قرارات الإدارة: تحديد الأسعار، ورفع الرواتب، وتوزيع الأرباح، وتأمين النقد الأجنبي. يمكن للكيانات الحكومية أو غير الحكومية التي تقوم بالتصدير الاحتفاظ بـ 80% من الإيرادات. أولئك الذين يزودون متاجر MLC يمكنهم الاحتفاظ بنسبة 100%. يجب أن يفيد «النظام النقدي» المصدّرين، لكنّ المستوردين سوف يعانون. يجب أن يكون هذا بمثابة حافز لاستبدال الواردات بالمنتجات المحلية، وتعزيز روابط الإنتاج الوطني، وتوفير العملات الصعبة النادرة، وزيادة إيرادات النقد الأجنبي.
بالنسبة إلى المستثمرين الأجانب، سيؤدّي توحيد النقد والصرف إلى تبسيط عملية التفاوض والتقييم وإدارة الأعمال في كوبا. لكنّ التأثير الإيجابي يضعف من حقيقة أن وزارة الخزانة الأميركية تهدّد بفرض غرامة على الأجانب الذين يتعاملون مع كوبا. تجهد الحكومة الكوبية لمكافحة الإجراءات الأميركية الرامية إلى تخويف المستثمرين الأجانب. في كانون الأول 2020، أعلنت أنه سيتم رفع القيود المفروضة على ملكية الأعمال الأجنبية (باستثناء الصناعات الاستخراجية والخدمات العامة)، ما يلغي التزام المستثمرين الأجانب بالدخول في مشاريع مشتركة مع الدولة الكوبية في مجالات السياحة والتكنولوجيا الحيوية وتجارة الجملة. تضمّنت محفظة الاستثمار الأجنبي السنوية لكوبا 503 مشاريع وتسعى الحكومة للحصول على 12 مليار دولار منها كجزء من استراتيجيتها للتنمية الوطنية.
رغم أن «النظام النقدي» يزيد من تعرّض الكوبيين لآليات السوق، إلا أنه لا يمثّل قطيعة مع النظام الحالي في كوبا. في سياق العدوان الأميركي، والاعتماد التجاري، والأزمات الاقتصادية، والندرة، تهدف الحكومة إلى تبني حوافز مادية أكبر في معركة طويلة الأمد لزيادة الإنتاج والإنتاجية في الإطار الاشتراكي. وبالعودة إلى تشرين الثاني 2005، تحدّث فيدل كاسترو عن «حلم أن يتمكن كل فرد من العيش على راتبه أو معاشه التقاعدي المناسب» من دون الحاجة إلى البطاقة التموينية ما يسمح لطبقة «طفيليّة» في المجتمع الكوبي برفض العمل مع الاستفادة من إعانات الدولة. منذ عام 2007، أشار راؤول كاسترو باستمرار إلى «المبدأ الاشتراكي» المتمثل في «كلٌّ بحسب استطاعته وكلٌّ بحسب عمله» باعتباره ما تطمح إليه كوبا. لقد كرّرها الآن في ما يتعلق بالنظام النقدي الجاري.
أجّلت كوبا يوم الصفر، على أمل خلق ظروف مؤاتية لتنفيذه. ولكن مع تفشّي الوباء والركود الاقتصادي العالمي الذي بدأ للتوّ، لم يكن هناك شيء يمكن كسبه من المزيد من التأخير. قد تثير هذه العملية قلق الكوبيين، لكن مع مرور التعديل عبر الاقتصاد، ومع وعد الدولة بعدم التخلّي عن أحد، يمكن أن تكون خطوة حيوية للتنمية الكوبية. ولكن حتى لو رفعت إدارة بايدن الجديدة بعض العقوبات، فإن هذا العام يعد بأن يكون عاماً قاسياً على كوبا.

* للاطلاع على المقال كاملاً: Day Zero: how and why Cuba unified its dual currency system

* محاضرة في الإقتصاد والتاريخ الإجتماعي في جامعة غلاسكو، لندن. مختصة في شؤون التنمية في كوبا وأميركا اللاتينية

تابع «رأس المال» على إنستاغرام

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا