خلال العام الماضي، أعاد رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي مشروع ربط العراق بالأردن ومصر إلى الواجهة السياسية. هذا المشروع، الذي أطلق عليه اسم «الشام الجديد»، أخذ طابعاً جدّياً بعدما تبنّاه الكاظمي رسمياً خلال زيارته لواشنطن في آب الماضي والتي انتهت بعقد قمة ثلاثية بين قادة الدول الثلاث (الملك الأردني، الرئيس المصري، ورئيس الوزراء العراقي) في العاصمة الأردنية عمّان. وفي ظلّ أزمات الدول الثلاث، بدت هذه القمّة ومخرجاتها كبداية لخريطة طريق تفتح آفاقاً جديدة ترفع الضغوط عن مصر والأردن، وتعيد نسبة من الازدهار إلى العراق. فالبيان الختامي للقمّة تمحور حول قضايا التعاون الاقتصادي والتجاري والاستثماري بين الدول الثلاث «للاستفادة من الإمكانات الوطنية والسعي لتكامل الموارد بين هذه البلدان»، بالإضافة إلى تحقيق الربط الكهربائي وإقامة مشاريع الطاقة وإنشاء منطقة اقتصادية مشتركة.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

مشروع «الشام الجديد» القديم
يفترض أن يربط مشروع الشام الجديد، العراق بمصر، اقتصادياً من خلال الأردن. بدأت الفكرة الأولى لهذا المشروع كتفاهمات سياسية واقتصادية بين مصر والعراق، وانضم إليهما لاحقاً الأردن. ومبدأ «الشام الجديد» هو الاعتماد على العراق كمصدر للنفط، وعلى مصر كمصدر كبير للطاقة البشرية، وعلى الأردن كحلقة وصل بين البلدين. وينصّ المشروع على مدّ خط أنبوب نفطي من ميناء البصرة جنوب العراق، وصولاً إلى ميناء العقبة في الأردن حيث سيُصدّر النفط منه إلى مصر. في المحصّلة سيتدفق النفط العراقي إلى الأردن ومصر بأسعار تفضيلية بحسومات تصل إلى 16 دولاراً للبرميل الواحد على أساس السعر المتداول، فيما سيستورد العراق، الكهرباء من مصر والأردن ويعمل على استقطاب الاستثمارات إليه أيضاً.
ما بدا إلى الآن من تفاصيل المشروع يُظهر أن الزخم الذي انطلق به هو زخم سياسيّ لا اقتصادي. يبدو أنّ المشروع أُعيد إحياؤه في عام 2020، فيما كانت فكرته أساساً وليدة حكومة العبادي الأخيرة، ومن واشنطن تحديداً بهدف تعويض العراق عن إسقاط العمل بالاتفاقات التي وقّعتها حكومة عبد المهدي مع الصين في تشرين الأول من عام 2019. ويظهر طغيان العامل السياسي على الاعتبارات الاقتصادية للمشروع لأنه يبدو كمحاولة للحفاظ على اصطفاف العراق في الحظيرة الاقتصادية الأميركية عبر ربطه ببلدين خاضعين للمنظومة الاقتصادية العالمية بشكل كليّ، سواء من خلال اصطفافهما السياسيّ -وهو العامل الأهم- أو انخراطهما الكليّ في برامج صندوق النقد الدولي. علماً بأن هذا الأخير هو إحدى أهم أدوات ممارسة الهيمنة الأميركية على منظومة الاقتصاد العالمي. ولغاية الآن لم يُكشف عن برامج أو مشاريع ضمن «الشام الجديد»، يمكن أن تُحدث تطويراً حقيقياً في العراق من النوع الذي يُعوّل عليه لإحداث تحوّلات في الاقتصاد السياسي. كلّ ما أُعلن عنه، إلى الآن، يقوم على استغلال النفط العراقي مقابل تصدير الكهرباء أو منتجات أو يد عاملة إليه.

ما بعد المماليك
استمرار العراق على هذا المسار يعني تجميد تطوير البنى التحتية فيه، وما يستتبعه هذا من محدودية القدرات الإنتاجية والدور في سلاسل التوريد العالمية. بصياغة أخرى، سيُحرم العراق من إمكانية تحويل دوره في سلاسل التوريد والإنتاج الإقليمية (وربما العالمية لاحقاً) من بلد عبور للبضائع قائماً على الاستهلاك فحسب، إلى بلد مشارك في الإنتاج والتصدير.
هذا المسار وظروفه السياسية يشبهان إلى حدّ كبير مسار العراق في القرن التاسع عشر، تحت حكم الإمبراطورية العثمانية التي كانت تتلمّس المسار الانحداري الذي دخلت فيه، وتنشد كل الوسائل الممكنة للحفاظ على هيمنتها على غرب آسيا. ففي بداية القرن التاسع عشر، كان العراق لا يزال تحت حكم نظام المماليك الذي نشأ في كنف العثمانيين منذ انتصاف القرن الثامن عشر. يشير أبو بكر جيلان، إلى تكوّن هذا النظام بعد سقوط الدولة الصفوية، إذ وجد العثمانيون أن وضع العراق استقرّ بما يكفي لمحاولة إقامة حكم عثماني نظاميّ، واستقدموا المماليك الأبخاز والجورجيين والشركس وقاموا بتدريبهم. ومع الوقت، نجح المماليك في ترسيخ وجودهم في المناصب العسكرية والمالية والإدارية في العراق وأصبح صعباً على العثمانيين تعيين ولاة من خارج صفوفهم. كذلك، يسهب تشارلز تريب في شرح شكل النظام المملوكي، لافتاً إلى أن حكم الباشوات المماليك كان قائماً على نظام الجزية، وهؤلاء شخّصوا مهمة حكمهم الرئيسية بالحفاظ على وجودهم وحاشيتهم من خلال استخراج الإيرادات التي تمكنهم من الدفاع عن النظام ضد جميع المنافسين، الداخليين والخارجيين. وهكذا، تم فرض الضرائب على المجتمعات الريفية القريبة من المدن الأساسية، بينما استمرّ زعماء القبائل بالحفاظ على شبه الاستقلال الذي تمتّعوا به، عبر بناء علاقات ودّية نفعية متبادلة مع المماليك. واستطاع المماليك توسيع جباية الرسوم من التجارة التي تمرّ عبر بلاد الرافدين، بالأخص مع نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر بسبب تطور التجارة مع شركة الهند الشرقية البريطانية.
لا يمكن للعراق أن يتحمّل المضيّ في أي مشروع من دون البحث في شموليته للتنمية والتطوير وفي خدمتهما لدور مستقبلي للعراق لا يكون فيه مجرّد محطّة استهلاك تموّله أموال النفط


وفي ظلّ النظام المملوكي كانت الحياة المدينية تتمحور حول النخب العثمانية والمملوكية والتجار. علماً بأن احتكار التجار الأوروبيين للتجارة عبر المحيط الهندي في القرن الثامن عشر أدّى إلى تحوّل بغداد إلى مركز أساسي للتواجد الغربي في الإمبراطورية العثمانية.
لكنّ هذا النظام المملوكي كان هشّاً، وبدأ آنذاك يشكّل هاجساً حقيقيّاً للإمبراطورية العثمانية، ولا سيما مع تزايد المصالح الغربية في الإقليم. فلم يكن النظام المملوكي هشّاً في ولائه للباب العالي فحسب، بل أظهر هشاشته بسبب طبيعة علاقته مع القوى الأجنبية التي كانت قد بدأت تتوافد إلى بغداد، وفق جيلان. فمن ناحية، كان المماليك يترددون في تنفيذ الأوامر العثمانية بالتصدي للخطر الوهابي. ومن ناحية أخرى، توسّع النفوذان البريطاني والفرنسي بشكل كبير تزامناً في بغداد واسطنبول. وعلى المستوى الاقتصادي والاجتماعي تبدّت هشاشة النظام من خلال تفشي الفقر وعدم كفاية الإنتاج الزراعي وضعف التجارة، التي اقتصرت على التجارة المحلية بين المدن، بينما لم تكن الحرف متطورة بما يكفي لاعتبارها مساهماً أساسياً في اقتصاد العراق.

استعادة المركزية
حكم المماليك انتهى في ثلاثينيات القرن التاسع عشر. فقد قرّرت السلطات العثمانية استعادة سلطتها المركزية على العراق إثر استقلال اليونان عام 1830، بمساعدة روسية-فرنسية- بريطانية مشتركة. وبعد ذلك، جاء الاعتراف بالحكم الذاتي لولايات البلقان والدانوب. وبالإضافة إلى هذا، فإن النزعة الانفصالية المصرية بقيادة محمد علي باشا، جعلت السلطة العثمانية تعيد النظر في أهمية العراق كمنطقة يمكن أن تعوّض خسائر الخزينة من خسارة الولايات المنتجة في شرق أوروبا، والتي كان العثمانيون قد استثمروا في تطوير بناها التحتية. لذا، بدأت في عام 1834 حملة العثمانيين لاستعادة السطلة المركزية للسيطرة على العراق وتفكيك دولة المماليك فيه.
وتزامنت استعادة العثمانيين السلطة على العراق مع إقرار السلطان العثماني «للتنظيمات» في عام 1839، بهدف فرض معايير قانونية وإدارية موحّدة على كل أراضي الإمبراطورية. بالتفصيل يسرد جيلان مراحل تطبيق الولاة العثمانيين للتنظيمات عبر إنشاء مجموعة من مشاريع البنى التحتية (سكك حديد وترامواي وتليغراف) التي تسهّل ارتباط المدن الرئيسية العراقية في ما بينها، والتليغراف الذي سهّل التواصل بين العراق واسطنبول. ولكن أهم قوانين «التنظيمات» التي طُبّقت وأثّرت في تركيبة الاقتصاد السياسي العراقي كان قانون إصلاح الأراضي ( قانون الأراضي لعام 1858)، والذي حرص مدحت باشا -والي بغداد (1869-1872)- على تطبيقه بسبب سوء حال القطاع الزراعي في العراق. وكان الهدف من تطبيقه، تحقيق بعض الانتظام في نظام حيازة الأراضي وخلق ضمان الحيازة (مع إعادة تأكيد ملكية الدولة للأرض) على أمل أن يشجّع ذلك على زراعة أكثر إنتاجية وعلى الاستقرار، وجذب الاستثمار وتوليد الإيرادات للخزينة. وحاول الولاة، قبل وبعد مدحت باشا، إعادة إحياء الزراعة عبر الاستثمار في مشاريع الريّ، ولكنّ هذه الجهود لم تتكلّل بالنجاح بشكل دائم أو مستدام بحسب جوخان سيتينسايا.
كل هذه الجهود كانت تفتقد إلى أهمّ عامل يساهم في نجاحها، وهو وجود رأس المال الكافي لاستدامة وتطوير هذه المشاريع حتى تتكامل وتصل بالعراق إلى مستوى كافٍ من التنمية يحوّله من طرف في الإمبراطورية إلى مركز تعتمد عليه اسطنبول لتوازن علاقاتها التجارية والاقتصادية المختلّة مع الغرب. وكتاب سيتينسايا مليء بالأمثلة عن المشاريع التي خطّط لها العثمانيون ولكن لم ينفذوا إلا جزءاً منها أو لم ينفذوها كليّاً، إمّا لعدم قدرتهم على تأمين التمويل من الخزينة أو لإحجام الممولين الغربيين عن ذلك. والسبب الرئيسي لعدم توفّر رأس مال كاف كان معاهدة «بلطة ليمان» (1838)، التي فتحت الأسواق العثمانية أمام البريطانيين وجعلت أراضي الإمبراطورية مجرّد ممر يستحصل على أقل رسوم الترانزيت الممكنة. لذا، مثلاً، كانت التجارة العراقية محليّة الطابع رغم حاجة الكثير من التجارة البريطانية الآتية من الهند إلى المرور في العراق، فكان العراق ممراً رخيصاً للترانزيت بدل أن تعتمد أسواق العراق على إعادة تصدير تحقق الحصول على تعرفات جمركية عالية مقابل مرور البضائع الهندية.
الجدير ذكره هو أن هذه الفترة التي شهدت محاولات لتطوير العراق، زخّمتها علاقة جدليّة غريبة. فالدافع الرئيسي للعثمانيين لتطوير العراق كان دائماً محاولة المحافظة عليه تحت سلطتهم خوفاً من الإطباق الغربي عليه، علماً بأنّه كان للبريطانيين والفرنسيين نفوذ كبير في ولاياته. في المقابل كان الغرب، وخصوصاً البريطانيين، يدفعون باتجاه تحديث وتطوير العراق لما في الأمر من أهمية لوصل الهند بالمتوسط عبر الأراضي العثمانية، أراضي الترانزيت الرخيص، فكان التمويل الغربي يتدفق على بعض المشروعات- بالأخص مشاريع التليغراف والسفن البخارية عبر دجلة والفرات، وهي المشاريع التي تفيد البريطانيين بشكل مباشر. بينما يذكر سيتينسايا عدداً من مشاريع سكك الحديد والري التي لم تنل التمويل الكافي لتطويرها. وفي النهاية كانت عملية التطوير في القرن التاسع عشر- التي حكمت بألا يتكامل التطوير العراقي مع مشروع كبير يتخطّى فيه العراق دور محطّة الترانزيت الرخيص- هي أيضاً التي أسّست البنى الأساسية للاقتصاد السياسي العراقي في بدايات القرن العشرين. أما اليوم فلا يمكن للعراق أن يتحمّل المضيّ في أي مشروع من دون البحث في شموليته للتنمية والتطوير، وفي خدمتهما لدور مستقبلي للعراق لا يكون فيه مجرّد محطّة استهلاك تموّله أموال النفط.

المصادر:
* «الأصول العثمانية للعراق الحديث»، أبو بكر جيلان
* «الإدارة العثمانية للعراق 1890-1908»، جوخان سيتينسايا
* «صفحات من تاريخ العراق»، تشارلز تريب

تابع «رأس المال» على إنستاغرام