بين عامَي 1997 و2019، مضت 22 سنة من تثبيت سعر الليرة مقابل الدولار. طوال هذا الوقت، كان السعر المعتمد في التعاملات الرسمية وغير الرسمية هو 1507.5 ليرات وسطياً. في بعض الأوقات، وفي ظل ظروف محددة، كانت المصارف تبيع الدولار بأعلى من ذلك قليلاً أو بأقلّ منه قليلاً، لكن من دون أي إشارة إلى غياب السوق الرسمية، بل باعتبار أن السوق حرّة في لبنان.بعد الانهيار الذي بدأت علاماته تظهر ابتداءً من عام 2017 -2018، ثم الانفجار في مطلع عام 2019 وصولاً إلى اليوم، لم يكن هناك سعر واحد للدولار في السوق المحلية. فالهندسات المالية التي نفّذها مصرف لبنان، كانت تخفي سعراً متدنياً لليرة مقابل الدولار، وفي مطلع 2019، كان سعر الدولار يرتفع تدريجاً من 1507.5 ليرات ليبلغ 2000 ليرة في كانون الأول. في ذلك الوقت، قرّر حاكم مصرف لبنان إبقاء سعر الدولار لاستيراد السلع الأساسية مثل المحروقات والقمح والمستلزمات الطبية والأدوية، ولاحقاً أضيفت إليها أسعار بعض المواد الغذائية، 1520 ليرة لكل دولار. فجأة كشف مصرف لبنان عن إنشاء منصّة إلكترونية لتداول الدولارات بسعر يبلغ 3000 ليرة، ثم صدرت تعاميم أبرزها التعميم الأساسي 13221 الذي يحدّد سحب ودائع الدولار بسعر 3900 ليرة، وأخيراً قرّر مصرف لبنان بتعميمه الأخير الرقم 158 أن يمنح المودعين نصف ودائعهم بالليرة بسعر المنصّة المحدّد بقيمة 12000 ليرة (قد يتعدّل لاحقاً).

أنقر على الرسم البياني لتكبيره


كلّ هذه التسعيرات لليرة مقابل الدولار، حدّدها مصرف لبنان وحده من دون أيّ سند قانوني. السند الظاهر في التعاميم الصادرة عن مصرف لبنان مرتبط بالمادة 70 من قانون النقد والتسليف، وبالمادة 174 منه أيضاً. المادة الأولى تتعلق بالمهمة العامة لمصرف لبنان (الحفاظ على سلامة النقد اللبناني، المحافظة على الاستقرار الاقتصادي، المحافظة على سلامة أوضاع النظام المصرفي، تطوير السوق النقدية والمالية)، أما الثانية فتشير إلى صلاحية مصرف لبنان بـ«تسيير العمل المصرفي السليم».
إذاً، من أتاح لمصرف لبنان تحديد سعر الليرة؟
ثمة الكثير من الإشارات القانونية التي تدفع إلى الشبهة بعمل حاكم مصرف لبنان وبقرارات المجلس المركزي. فالقرار الأخير الصادر عن مجلس شورى الدولة بشأن إبطال التعميم 13221 الذي يحدّد سعر الليرة مقابل الدولار بنحو 3900 ليرة، والذي تراجع مصرف لبنان بالتواطؤ مع المرجعيات السياسية عن تطبيقه بشكل سافر، يشير في الحيثيات التي تبناها إلى أن التسعير ليس من اختصاص مصرف لبنان طبقاً للمادتين 2 و229 من قانون النقد والتسليف. أصلاً يستند هذا القرار إلى قرار سابق لمجلس شورى الدولة أشار إليه المحامي انطوان مرعب في دراسة بعنوان «مقاربة قانونية للأزمة النقدية الراهنة» رقمه 881 /1985 وورد فيه ما حرفيته: «تجدر الإشارة هنا إلى أن تحديد سعر قانوني جديد لليرة يستوجب تدخّل المشترع كما نصّت المادتان 2 و229 من قانون النقد والتسليف». ويشير مرعب إلى أنه تلافياً لتواجد سعرين لليرة مقابل الدولار حدّد المشترع في المادة 229 المذكورة سعر الليرة القانوني المؤقت بـ «أقرب ما يكون إلى سعر السوق الحرّة».
إذاً، على أي أساس كان يعمل مصرف لبنان، وباقي مؤسسات الدولة، طوال السنوات الماضية وفق سعر ثابت ومحدّد بقيمة 1507.5 ليرات وسطي لكل دولار؟ الإجابة تأتي في دراسة مرعب أيضاً التي تشير إلى أن «الوسائل التي لحظها القانون لتثبيت سعر صرف الليرة تقتصر على تدخل مصرف لبنان في سوق القطع». بمعنى أوضح، أن تثبيت سعر الليرة مقابل الدولار هو تثبيت ناتج من عمليات التدخّل وليس ناتجاً من عملية تحديد سعر الليرة.
وقد ورد في رأي قانوني أعدّه الباحث القانوني محمد طي للمركز الاستشاري للدراسات والتوثيق بعنوان «الإيفاء بالليرة»، «إيفاء المستحقات بالدولار يجري بالليرة اللبنانية لكن على أساس قيمتها الفعلية بالنسبة إلى الدولار، كما ورد في الفقرة الثانية من المادة 356 من قانون التجارة البرية، أي «بحسب العرف المرعيّ في محل الإيفاء».
34.2 ألف مليار ليرة هي قيمة الارتفاع في كتلة النقد في التداول منذ تشرين الأول 2019 حتى منتصف حزيران 2021


في ظل هذه الآراء التي تمثّل أساساً صالحاً للادّعاء في وجه سلامة وقيامه بخلق أسعار متعددة لليرة أضرّت بقيمة الليرة نفسها وأتاحت القيام بعمليات مضاربة للاستفادة من الأسعار المتعددة المتوافرة، يمكن الادعاء بأن سلامة خالف مهمة الحفاظ على سلامة النقد اللبناني، ومهمة الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي، لا بل إن هذا الادعاء سيكون متاحاً في المستقبل طالما أن سلامة يطبع المزيد من الليرات على نحو لا ينسجم مع حجم الكتلة النقدية المطلوب وجودها في السوق، ويخلق متعمّداً أسعاراً متعددة لليرة بما يخلق قنوات لخفض قيمة المدّخرات وانتقالها من يد إلى أخرى بثمن بخس، وبما أنه يتمسك بيديه بمسألة الدعم الذي استنزف المدّخرات الوطنية على استيراد السلع الاستهلاكية، ثم بات يشعل الأسعار ومنها سعر الصرف في السوق الحرّة.
طبعاً المشكلة الأساسية أن المشترع المنوطة به مسؤولية تحديد سعر الليرة غائب عن الساحة كلياً، إلا في ما يتعلق بتقديم الدعم لمسار رياض سلامة لتوزيع الخسائر. تحديد سعر الليرة من اختصاص مجلس النواب. هل يمكن تمييز سلامة عن بقية قوى السلطة؟ هذا مؤشّر على أن سعر الصرف سيبقى بلا سقف وبلا حدود طالما أنهم في مواقعهم.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا

تابع «رأس المال» على إنستاغرام