يتفق اللبنانيون على أمرين: الأول أن هناك مسؤولية كبيرة تقع على عاتق فساد النسبة الأكبر من الطيف السياسي اللبناني. والثاني أن هناك مسؤولية، كبيرة أيضاً، على الجهاز التكنوقراطي الذي أدار السياسات المالية، والذي أساء الإدارة، سواء بسبب سوء النية أو بسبب قلّة الدراية ومحدودية القدرات المعرفية.
مينيكسي كام ــ تركيا

في الآونة الأخيرة، بدأت بعض الدول المؤثّرة، كفرنسا والولايات المتحدة، بتبنّي هذا الإستخلاص، واستخدامه ضمن خطاب جديد موجّه إلى الحياة السياسية اللبنانية بكل طبقاتها. جوهر هذا الخطاب هو أنّ المساعدات لن تُقدّم للبنان، إلاّ إذا نفّذ مجموعة من «الاصلاحات» التي تضّمن معالجة «فساد الطبقة السياسية» وسوء إدارة الجهاز التكنوقراطي. ولكن هل تنحصر المسؤولية عن الإنهيار في هذين السببين فعلاً؟ هل يحق لأي من هذه الدول في أن تضغط على اللبنانيين لأجل هذين السببين؟
الإجابة تكمن في تعريفنا للاقتصاد. فهل نُعرّف الاقتصاد على أنّه مجال قائم بذاته، منعزل عن المجال العام ويتواصل معه من خلال قنوات واضحة ومحدودة ومحدّدة؟ أم أن الاقتصاد جزء أساسي من المجال العام، منسوج في ثناياه، أي أنّ الاقتصاد ممارسة سياسية بحد ذاته؟ البحث هنا سيتمحور حول شرح الممارسة السياسية للاقتصاد، واستحالة فصله عن المجال العام.
ولأنّ الإنهيار اللبناني هو موضوع نقاشات محلية وعالمية، من الأفضل أن ندخل إلى هذا البحث من بوابة لبنان. ولنبدأ من التأكيد بأن العمل السياسي في لبنان ينقسم إلى مستويين: المستوى الأول هو المستوى المحلي، بينما المستوى الثاني هو المستوى الخارجي. وتظهر العلاقة المعقدة بين هذين المستويين وبين الاقتصاد، بشكل جليّ، في الأزمة المالية المصرفية لعام 1989، وهي ثاني أكبر الأزمات اللبنانية، بعد الأزمة الحالية التي أدت إلى الانهيار.

ثاني أكبر الأزمات: فعل سياسي
كانت جذور أزمة عام 1989 مالية، تتعلق بسوء إستثمارات المصارف اللبنانية في المضاربات على العملات في الأسواق المالية الخارجية، كما يروي نجيب حوراني- حوراني هو من أهم الباحثين في هذه الأزمة. ورغم أن مصرف لبنان، بقيادة حاكمه آنذاك الدكتور إدمون نعيم، تغاضى عن هذه الإستثمارات خلال الفترة الممتدة بين عامي 1983-1988، إلاّ أنه قرّر رفع الغطاء عن مصرفي «المشرق» و«كريديه ليبانيه»، علماً بأنّهما كانا يشكّلان العصب الأساسي للشبكة المصرفية التابعة لحزب الكتائب. ويربط حوراني هذا الإجراء بخروج أمين الجميّل من الحكم ونفيه خارج لبنان، على يدي سمير جعجع. إجراءات نعيم تبعها انهيار المصرفين، ما هدّد القطاع برمّته، بما أن شبكة الكتائب المصرفية كانت تسيطر على أكثر من ربع القطاع المصرفي في عام 1988. ولإنقاذ القطاع قرّر نعيم، بالتشاور مع الولايات المتحدة، بدء تنفيذ حزمة إنقاذ (Bailout) ضخمة للمصارف اللبنانية، كانت كلفتها النهائية في عام 1990 ما يقارب المليار دولار. علماً بأن موارد البلاد كانت محدودة، وما تبقى من احتياطي بالعملات الاجنبية كان يؤمّن الدعم الحكومي على المواد الغذائية والاستهلاكية الأساسية، وكان يُعوّل عليه للبدء بعملية إعادة الإعمار.
شرح أزمة عام 1989 بالذات يُظهر تداخل المستوى السياسي المحلي مع المستوى الدولي في ممارسة القرار الاقتصادي والمالي، كجزء من الفضاء السياسي العام.
يضيف حوراني أن الانهيار الكبير في سعر صرف الليرة اللبنانية في عام 1992، في زمن حكومة الرئيس عمر كرامي، لم يكن وليد ديناميات اقتصادية-مالية بحتة. في الظاهر كانت أحداث الحرب الأهلية في عامي 1989 و1990 والـ Bailout من الأقسى على المالية العامة للدولة وعلى الاستقرار المالي والنقدي. لكن، في الخلفية، هناك عاملاً آخر لعب دوراً رئيسياً في صناعة هذه الأزمة، هو المؤسسات المالية الدولية (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي). فبعد شهر واحد فقط من انتهاء حرب 13 تشرين الأول 1990، أعلن صندوق النقد الدولي أن المساعدات الدولية لإعادة الإعمار يجب أن تكون مشروطة، ببرنامج تقشّف وتجميد للأجور في القطاع العام ورفع الدعم عن المواد الغذائية والمحروقات، لأجل معالجة العجز في الموازنة، الذي هو السبب الرئيسي في عدم الإستقرار المالي. والحقيقة هي أن حكومة الرئيس عمر كرامي أذعنت لهذه المطالب، بداية من عام 1991.
لبنان مثال شديد الوضوح عن ممارسة القرار الإقتصادي كفعل سياسي بحت تتداخل فيه السياسات المحلية بالخارجية في نسيج واحد أدام استمرار منظومة الاقتصاد السياسي اللبنانية بما يخدم مصالح أهلها ورعاتها الخارجيين


لكن تلبية مطالب المؤسسات المالية الدولية لم تدفعها إلى تأمين الأموال اللازمة لإعادة الإعمار. وحُرم لبنان من المساعدة رغم مطالبة الرئيس كرامي، في الاجتماع الأول للمانحين الدوليين في عام 1991، بتقديم 4.45 مليار دولار. وبرغم هذه المطالبة قدم البنك الدولي دعماً فاتراً، وأيّد منح لبنان خُمس المبلغ المطلوب فقط. وعمد البنك الدولي إلى تأجيل اجتماعات المتابعة طوال عام 1992. وحتى بعدما سمح مصرف لبنان بتعويم سعر صرف الليرة، تماشياً مع مطالب صندوق النقد الدولي، بقيت أموال إعادة الإعمار محجوبة عن لبنان. وسرعان ما دفعت هذه السياسات المجتمع اللبناني، بقيادة القوى السياسية المحلية الخارجة من الحرب، إلى الإضطرابات التي أسقطت حكومة الرئيس كرامي.
ومن الواضح أن ضغط المؤسّسات المالية الدولية كان محورياً في صناعة الأزمة الاقتصادية عام 1992، بالأخص أن هذه المؤسسات عينها اعتبرت أن «الثقة» بالاقتصاد اللبناني وبنظامه المالي قد عادت بمجرد إجراء الانتخابات عام 1992، ووصول الرئيس رفيق الحريري إلى سدّة رئاسة الحكومة. ويأتي هذا الأمر، رغم التقارير الدورية لهذه المؤسسات التي تفصّل سوء إدارة حكومات الرئيس الحريري للسياسات المالية والاقتصادية. أول هذه التقارير صدر في عام 1993.
هذا التدخل الدولي عبر المؤسسات المالية الدولية، وهي الخاضعة للمشيئة الأمريكية بشكل تام، ليس سوى تعبيراً عن تأثير المستوى الثاني من السياسة في لبنان، أي السياسة الخارجية.
في الواقع، تمثّل الأزمة الممتدة من عام 1989 إلى عام 1992صورة واضحة ومكثّفة لتداخل الاقتصاد في نسيج السياسة بكل مستوياتها في لبنان، حيث أن كل مسار الأزمة كان عبر قرارات وممارسات سياسية واضحة تداخل فيها ما هو محليّ مع ما هو خارجي. وفي الوقت نفسه يظهر أن المستوى السياسي الخارجي أمضى في تأثيره من ذلك الداخلي أو المحلّي.

قوة الدفع بالضمانات
ولشرح هذا التأثير الغالب للمستوى الخارجي، من الأفضل الاستعانة بورقة عمل صادرة عن صندوق النقد الدولي نفسه، أعدّها أكسل شيملفينيغ وإدوارد غاردنر في عام 2008. تشرح الورقة أن لبنان يستفيد أولاً وقبل كل شيء من «الضمانات غير المباشرة» التي تنعكس على رغبة المانحين في تمويل لبنان، بالإضافة إلى سمعته في أسواق الائتمان بسبب عدم تخلفه عن السداد سابقاً (التقرير نُشر في عام 2008). والعامل الثاني هو نتيجة للعامل الأول، أي وجود «الضمانات غير المباشرة»، حيث يشعر المستثمرون والمودعون على حدّ سواء بالارتياح من التصور القائل بوجود «الضمانات غير المباشرة» بعدم السماح للبنان بالوقوع في أزمة مالية. وهذه «الضمانات» بقيت موجودة، كما تشرح الورقة، رغم سوء الإدارة المالية والاقتصادية في التسعينيات، وحتى بعد مؤتمرات باريس، لأسباب جيوسياسية خاضعة للتبدل والتغيير. ويعرض التقرير حالتان متقابلتان لشرح كيف تعمل «الضمانات» على المحافظة على سلامة الوضع المالي والنقدي:
- الحالة الأولى: ما حصل في عام 2005 إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري. يومها تعرّض الوضع المالي للإهتزاز، إلى درجة أن مصرف لبنان فرض عطلة مصرفية لمدّة خمسة أيام لدرء احتمال حصول حركة سحب مفرط من المصارف وتحويل الودائع إلى الخارج بكثافة. وانعكست التساؤلات، حول مصير لبنان وموقعه السياسي، ضغوطاً على الأسواق المالية عبر خروج الودائع المتسارع وغياب الدعم الغربي والخليجي، إلى أن تم تأليف حكومة الرئيس نجيب ميقاتي. ولم تنعكس الآية إلاّ بعد انتخابات حزيران من العام نفسه، التي حسمت أكثرية نيابية لفريق 14 آذار، حيث عادت التدفقات المالية إلى النظام المالي اللبناني، تعبيراً عن عودة «الضمانات غير المباشرة».
- الحالة الثانية: ما حصل إثر العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006. فقد سارعت الدول الخليجية إلى إيداع مليار ونصف مليار دولار في مصرف لبنان، بالإضافة إلى تقديم نحو مليار دولار أخرى على شكل مساعدات (كل هذا قبل نهاية تموز 2006)، بينما كانت حصيلة مؤتمر استوكهولم نحو مليار دولار من المساعدات. وهذا من دون أن ننسى أنّه في ظل الحصار المطبق على لبنان براً وبحراً وجواً في حينه، أعلن حاكم مصرف لبنان عن استقدام شحنة بانكنوت وصلت خلال الحرب. في هذه الحالة، لم تنقطع «الضمانات غير المباشرة» وبقي الوضع المالي بعيداً عن التأزم.
ما تشير إليه الورقة، هو أن ثقة المودعين والمستثمرين- وهؤلاء هم مصدر تدفق رأس المال الرئيسي- مدفوعة بوجود «الضمانات غير المباشرة» التي تؤكّد دعم النظام المالي اللبناني، وبمجرد غيابها سينقطع التدفق وتهرب رؤوس الأموال من لبنان.

الامتثال والمكافأة
في الحقيقة، إذا حاولنا تجميع ما حصل من أحداث ومسارات في السنوات الثلاثين الأخيرة، سنخرج بصورة ترسم الآتي: ممارسة القرار الاقتصادي والمالي، كجزء من نسيج الحياة السياسية، كان مشوباً بسوء الإدارة والفساد بما يسمح باستمرار منظومة الاقتصاد السياسي اللبنانية. لا بل أدارت الإرادة السياسية الخارجية (الولايات المتحدة) دخول لاعبين جدد إلى المنظومة، بما يخدم تصورها لموقع لبنان ضمن منظومتها الإقليمية. والإرادة السياسية الداخلية امتثلت للإرادة السياسية الخارجية، التي كافأتها بأن ضمنت تأمين تدفقات رأس المال الغربي إلى منظومة الاقتصاد السياسي اللبنانية، بشكل يعاند «طبيعة السوق» وضمنت إستمرارها. واستمرت هذه الإرادة في تقديم «الضمانات» اللازمة لاستمرار التدفقات، حتى عام 2016. ولكن لماذا التغيّر المفاجئ؟ بكل بساطة لأن موقع لبنان ضمن المنظومة الأميركية في المنطقة تغيّر.
أمّا حصر أصل المشكلة في سوء إدارة داخلية فقط، وعزل الأزمة عن كل أبعاده السياسة، في محاولة للإيحاء بأن للاقتصاد فضاء خاص به، فهو وصفة لإعادة إنتاج المنظومة بلاعبين جدد لا غير. يشرح المنظّر السياسي تيموثي ميتشل أن «الاقتصاد»- المجال القائم بحد ذاته- هو مفهوم مزيّف من إنتاجات القرن العشرين. فإنتاج المعرفة الاقتصادية وممارسات الحكم المستمدة منها هي التي تجعل الفصل بين «الاقتصاد» و«السياسة» تصوّراً حقيقياً. وفقط حين نُسقط تلك الحدود، التي تعطي «الاقتصاد» بعداً عقلانياً، تسقط مبررات مجتمع السوق وتتكشف الصورة الحقيقية لعالم من القوة السياسية والافتراس. لبنان مثال شديد الوضوح عن ممارسة القرار الاقتصادي كفعل سياسي بحت، تتداخل فيه السياسات المحلية بالخارجية في نسيج واحد أدام استمرار منظومة الاقتصاد السياسي اللبنانية بما يخدم مصالح أهلها ورعاتها الخارجيين.

المصادر:
«رأسماليون في نزاع»، نجيب حوراني
«المعونة وإعادة التنمية. التمويل الدولي وإعادة إعمار بيروت. الحرب بوسائل أخرى؟»، نجيب حوراني؛ من كتاب «بيئة ما بعد الصراع»
«لبنان - الصمود في وجه العواصف المثالية» أكسل شيملبفينيغ وإدوارد غاردنر، ورقة عمل صندوق النقد الدولي كانون الثاني 2008
«إعادة التفكير في الاقتصاد»، تيموثي ميتشل