بلغت خسائر مصرف لبنان في آخر حزيران الماضي، أكثر من 65 مليار دولار. تعزى هذه الخسارة الكبيرة إلى تراكم يزيد على 20 عاماً من السياسات النقدية التي هيمنت على السياسات المالية والاقتصادية حتى انهار النموذج بكامله. وقعت هذه الخسائر بعد الإفراط في تحويل الموجودات الخارجية إلى موجودات محلية واستعمالها لدعم القوّة الشرائية تعزيزاً للاستهلاك المستورد.
ديميترو سكاجينيك ــ أوكرانيا

سياسة تثبيت سعر الليرة تجاه الدولار هو التعبير الأكثر تداولاً عن هذه العملية. فقد كان على مصرف لبنان أن يمتصّ العملات الأجنبية من أجل استمرار النموذج، إلا أن الاستهلاك المستورد المدعوم كان يفاقم الحاجة إلى استهلاك المزيد من العملات الأجنبية إلى أن صارت الحاجة مفرطة لكميات إضافية كبيرة ترجمت عملياً في تنفيذ «الهندسات المالية». لكن مصرف لبنان لا يعترف بهذه الخسائر، بل يصنّفها «أصولاً أخرى» في ميزانيته. هذا الإجراء، هو حرفياً ما يحذّر منه صندوق النقد الدولي في حال تكبّد المصرف المركزي أي خسائر

18

ألف مليار ليرة أو 12 مليار دولار، هو مجمل ما هو مسجّل في بند «الأصول من عمليات تبادل الأدوات المالية» وهي خسائر عزلها مصرف لبنان في هذا البند لتخبئتها


إن الفشل في معالجة الخسائر المستمرة، أو معالجة سلبية القيمة الصافية (negative net worth) الناشئة عن خسائر مصرف لبنان، سيؤثّر في فعالية الإدارة النقدية للمصرف المركزي، وقد يعرض صدقيته للاهتزاز. كما أن هذا الأمر قد ينعكس سلباً على «استقلالية» المصرف التي أصبحت من الخصائص الأساسية للسلطات النقدية حول العالم. لذا، من المهم أن يعترف المصرف المركزي بهذه الخسائر، بشكل واضح، في ميزانيته، وتحمّل موجباتها وتبعاتها على المصارف التجارية والقطاع المصرفي بشكل عام.

هل يخسر المصرف المركزي؟
عادةً، تعمل المصارف المركزية على قاعدة الربح شبه المضمون. يعود ذلك إلى أنها تملك في يدها أداة حصرية تؤمّن لها الربحية، هي طباعة الأموال. ينتج من هذه الأداة ما يسمّى بعوائد سكّ العملة، أو الـ«seigniorage»، أي العوائد الناتجة من الفرق بين كلفة طباعة العملة والقيمة الاسمية (face value) للعملة المصدرة. كما يمكن للمصارف المركزية أن تحقق أرباحاً من خلال عمليات السوق مع المصارف التجارية من خلال الاقتراض بكلفة أقل من الكلفة السوقية، ومن الاستثمار، في الوقت نفسه، والحصول على العوائد المتاحة في السوق.
لكن يحدث أحياناً أن تصاب ميزانيات المصارف المركزية بالخسائر. هذه الخسائر، بحسب جون دالتون وكلوديا دزيوبك في ورقتهما البحثية بعنوان «خسائر المصارف المركزية وحالات سابقة في بعض البلدان المختارة»، تنتج من عدّة أنشطة يقوم بها بعض هذه المصارف، ومنها: عمليات السوق المفتوحة، الاستثمارات المحلية والأجنبية، والائتمانات والضمانات، الأكلاف المرتبطة بإعادة هيكلة القطاع المالي، دعم الفوائد المباشر أو الضمني، والأنشطة غير الأساسية ذات الطبيعة المالية أو شبه المالية.
تتحقق خسائر المصارف المركزية بطريقتين:
- من خلال تجاوز المصاريف التشغيلية للدخل التشغيلي، وهو ما يؤدي إلى خسائر تشغيلية.
- عندما يتجاوز صافي خسائر التقييم، الدخل التشغيلي، بعد إجراء عملية إعادة تقييم الموجودات والمطلوبات أو أي خسائر انخفاض في القيمة. وهو على سبيل المثال، في حال إعادة تقييم قرض أعطاه المصرف المركزي لجهة لم تعد قادرة على الدفع، يحتاج المصرف إلى إعادة تقييم هذا الأصل لمواجهة الخسارة الحقيقية التي حدثت. وهنا يتم إدراك الخسائر على الورق.

الفشل في معالجة الخسائر المستمرة يؤثّر في فعالية الإدارة النقدية للمصرف المركزي ويهزّ صدقيته


بالنسبة لمصرف لبنان، لا يمكن الجزم إذا كانت الخسائر التي لحقت به على مدى السنوات، ناتجة من تجاوز مصاريفه، للإيرادات المحققة، لأنه لا ينشر بيانات الدخل الخاصّة به بشكل دوري. إلا أنه يمكن الاعتقاد بأن هذه الخسائر لم تحصل بشكل مفاجئ. إذ لم يخسر المصرف موجوداته بالعملات الأجنبية بين ليلة وضحاها، بل ليس ممكناً أن تحدث هذه العملية إلا بشكل تدريجي. كذلك، تكبّد مصرف لبنان جزءاً من خسائره، أيضاً، من خلال خسارة جزء من استثماراته، وهذا يحتاج إلى إعادة تقييم من أجل إدراك الخسارة على الورق. ومن أهم هذه الاستثمارات، المليارات الخمسة التي كان قد استثمرها في سندات اليوروبوندز التابعة للحكومة اللبنانية.

أربعة أسباب
أعد مارتن ماندل وفلاديمير تومشيك ورقة بعنوان «أسباب ونتائج انكشاف المصارف المركزية على العملات الأجنبية على المدى الطويل» وهي نشرت في مجلّة «اقتصادات أوروبا الشرقية». تميّز الورقة بين أربعة أسباب أساسية تؤدي إلى خسائر في المصارف المركزية هي:
- خسائر مرتبطة بدور المصرف المركزي في الحفاظ على استقرار المصارف التجارية. فإذا لم تنجح جهود تحقيق الاستقرار، كلياً أو جزئياً، فإن البنك المركزي سيعاني من خسائر في قروضه للنظام المصرفي.

80

ألف مليار ليرة، أو 53 مليار دولار هي قيمة بند «الأصول الأخرى» التي يخبئ فيها مصرف لبنان خسائره في ميزانيته الخاصّة


- خسائر مرتبطة بالسياسات النقدية المعاكسة للدورة الاقتصادية التي تهدف إلى مواجهة التحديات الاقتصادية. ففي وقت الأزمات، تحاول المصارف المركزية تأمين السيولة في السوق من خلال شراء السندات الحكومية من خلاله، عندما تكون معدلات الفائدة السوقية منخفضة، الأمر الذي ينتج منه ارتفاعاً في سعر السندات. وتعود المصارف المركزية لاحقاً، بعد التعافي الاقتصادي، لتبيع هذه السندات في السوق، في الوقت الذي تكون معدلات الفائدة السوقية قد عادت إلى الارتفاع، وهو ما ينتج منه انخفاض في سعر السندات. بمعنى آخر تشتري المصارف المركزية السندات الحكومية من السوق بسعر مرتفع خلال الأزمات، ثم تبيعها بعد التعافي بسعر منخفض، ما يؤدي إلى خسائر في ميزانياتها.
- خسائر مرتبطة بسياسة سعر الصرف. وهي الخسائر الناتجة من تدخّل المصارف المركزية في السوق من أجل رفع أو خفض قيمة العملة المحليّة. ويحدث هذا الأمر عبر عمليات شراء العملة المحلية من السوق باستخدام الاحتياطات بالعملات الأجنبية، أي عندما يتدخل المصرف المركزي لرفع قيمة العملة المحلية مقابل الدولار. كذلك، قد يلجأ المصرف المركزي إلى شراء العملات الأجنبية من السوق باستخدام العملة المحلية، من أجل خفض قيمة العملة مقابل الدولار (عادة هذا الإجراء تقوم به الدول التي تعتمد على تصدير إنتاجها والتي تحرص على أن تكون قيمة عملتها منخفضة) من أجل تحسين قدرتها على المنافسة في الأسواق الخارجية. إن هذه العمليات تؤدّي إلى خسائر لدى المصارف المركزية، على السواء، إما بالعملات الأجنبية أو بالعملة المحلية.
- خسائر مرتبطة بالاحتفاظ باحتياطيات النقد الأجنبي، أي المرتبطة بانكشاف المصرف المركزي لحاجته إلى مطلوبات من العملات الأجنبية طويلة الأجل. قد تكون هذه الخسائر نتيجة إما للانكشاف على مخاطر التغيّر في سعر صرف العملات الأجنبية أو على مخاطر التغيّر في أسعار الفائدة.

«بونزي» مصرف لبنان
تلقى المصرف المركزي اللبناني أكبر خسائره من سياسة سعر الصرف الثابت التي اتبعها منذ نهاية التسعينيات، حين استقرّ سعر الدولار على 1507.5 ليرات وسطياً. ففي بلد غير منتج، يعتمد على الاستيراد، ويعاني من عجز كبير في الميزان التجاري والحساب الجاري، منذ أكثر من 20 عاماً، لا شكّ بأن الاعتماد على سياسة تثبيت سعر الصرف، يسبّب نزيفاً هائلاً في احتياطات العملات الأجنبية. تثبيت سعر الصرف يعني أن المصرف المركزي يغطّي حاجة السوق من الدولارات لإبقاء سعر الصرف مستقراً ضمن الحدود التي رسمها (1507.5 ليرات وسطياً). هذه الحاجة تغطى جزئياً عبر السيولة المتوافرة لدى المصارف التجارية (وهي أموال الناس)، بينما يغطّي المصرف المركزي الجزء المتبقي من الاحتياطات الموجودة لديه التي قد يكوّنها من خلال توظيفات المصارف لديه.
لم يكن لدى لبنان فائضاً في الميزان التجاري في أي وقت سابق، ولا هو دولة منتجة ومصدرة للنفط، أو لإنتاج غزير صناعياً أو زراعياً، ولا هو يتمتع بتدفقات شبه مضمونة من العملات الصعبة إلى المصرف المركزي. المصدر الوحيد للاحتياطي في مصرف لبنان كان من التدفقات الرأسمالية إلى المصارف اللبنانية والتي يعبّر عنها حساب رأس المال الذي حافظ على وجود فائض في ميزان المدفوعات في معظم السنوات التي سبقت عام 2011 أو بداية الحرب السورية. والعملات الأجنبية التي كانت تصرف في كل تلك الفترة من الموجودات في ميزانية مصرف لبنان، يقابلها مطلوبات بالعملات الأجنبية على المقلب الآخر من الميزانية. لذا من الطبيعي أنه كانت المطلوبات بالعملات الأجنبية أكبر بكثير من الموجودات، الأمر الذي يعني أن مصرف لبنان كان في حالة خسارة.

المصدر الوحيد للاحتياط في مصرف لبنان كان من التدفقات الرأسمالية إلى المصارف اللبنانية


إن تسجيل عجوزات متتالية في ميزان المدفوعات منذ عام 2011، أوصل المصارف اللبنانية إلى مكان خطير في عام 2016. حينها قرر حاكم المصرف إجراء ما سمّاه بـ«الهندسات المالية» في محاولة للحفاظ على استقرار المصارف التي تكبّدت خسائر هائلة بفعل استثمار أموال المودعين في الدين السيادي. هذه السلسلة باتت تسمى لاحقاً «مخطط بونزي اللبناني». كانت الهندسات قائمة على استجلاب الودائع بالدولار من الخارج. المصارف تغري المودعين بأسعار فائدة عالية ومصرف لبنان يغري المصارف بعوائد مرتفعة أيضاً. غاية مصرف لبنان تعزيز احتياطاته بالعملات الأجنبية. لذا، أجرى أيضاً عمليات تبادل سندات (bond swaps)، مع الحكومة اللبنانية من جهة، وبذلك حوّل ديونه على الحكومة من ليرة إلى دولار، ومع المصارف اللبنانية من جهة أخرى من خلال الحصول على أموال الودائع التي اجتذبوها. المصارف وضعت الأموال بين يدي مصرف لبنان عبر شهادات الإيداع وشراء سندات اليوروبوندز (التي استبدلها المركزي مع الحكومة). وفي المقابل اشترى مصرف لبنان سندات الخزينة بالليرة التي حملتها المصارف (لضخّ سيولة كانت تفتقدها المصارف).
كلّفت هذه العملية المصرف المركزي خسائر، جراء محاولته تأمين الاستقرار للقطاع المصرفي عبر عملية لم تتكلل بالنجاح. فهو حوّل سنداته بالليرة إلى سندات بالدولار، وأصبحت لاحقاً سندات متعثّرة، وفي المقابل زادت مطلوباته تجاه المصارف بالدولار (الهدف تعزيز احتياطاته التي استنفدها عبر إرساء سياسة سعر الصرف).

انتكاسة السياسة النقدية
تتحول الخسائر في المصرف المركزي إلى مشكلة عندما تبدأ في التأثير في سياساته النقدية. يحدث ذلك، عندما تنتكس احتياطات المصرف المركزي بالعملة المحلية وبالعملات الأجنبية. هذه الاحتياطات هي من أهمّ أسلحة المصرف في تطبيق سياساته النقدية. في هذه الحالة، ولأن الاقتصاد بحاجة إلى سياسة نقدية ملائمة ليعيد حالة استقرار، تجب مواجهة هذه الخسائر بطريقة أو بأخرى.
قد تكون إحدى هذه الطرق، أن تؤمّن خزينة الدولة سيولة تمكن المصرف المركزي من تغطية خسائره، أو تعطيه سندات حكومية يؤمّن من خلالها تدفقات مالية مستقبلية، وهذا ما يعرف بـ«إعادة رسملة» المصرف المركزي. لكن هذا الخيار ليس متاحاً في الحالة اللبنانية، إذ إن الموازنة الحكومية هي دائماً في حالة عجز وهي غير قادرة على تحويل أموال إلى مصرف لبنان. في هذه الحالة تكون إعادة رسملة المصرف، بالطريقة التقليدية، غير متاحة.
ما يقوله صندوق النقد الدولي في هذا الموضوع، هو أنه ما لا يجب أن يفعله المصرف المركزي في حالة الخسارة هو إظهارها كأصل مؤجّل أو غير مموّل في الميزانية العامة. لكن هذا بالضبط ما فعله مصرف لبنان ويستمر بفعله، إذ يسجّل هذه الخسائر في خانة «الأصول الأخرى» من دون أن يوضح ما هي هذه الأصول وطبيعتها. إلا أنه في الحالات التي لا تكون الحكومة قادرة فيها على إعادة رسملة المصرف، يقوم المصرف بالاعتراف بقيمته الصافية السلبية (negative net worth)، أي أن موجوداته هي أقل من مطلوباته. هذا ما ينطبق على مصرف لبنان لجهة الموجودات والمطلوبات بالعملات الأجنبية. ففي هذه الحالة، بحسب صندوق النقد، على المصرف أن يقوم بإعلان هذه الخسارات على «وجه الميزانية» الخاصّة به في إطار الشفافية اللازمة لعامّة الناس باعتباره المؤسسة القائدة في القطاع المالي، وباعتبار أن الشفافية عاملاً أساسياً لنجاح سياساته النقدية في تحقيق أهدافها.
ما إن يقوم المصرف المركزي بالاعتراف بهذه الخسائر، سيترتب على المصارف التجارية أن تعترف بخسائرها أيضاً. هذا الأمر سيفرض إعادة هيكلة للقطاع المالي كلّه، لأن الخسارات في الكثير من المصارف ستكون بمثابة إعلان إفلاسها. ورغم صعوبة تداعيات هذا الأمر، إلا أنه من المهم جداً عودة الحياة الاقتصادية إلى التعافي مجدداً، لأن بقاء القطاع المصرفي بحالة الموت السريري التي يعيشها، سيبقي الحركة الاقتصادية مشلولة، إذ إن هذا القطاع يعتبر العصب الأساسي لأي نوع من الاقتصاد.

تابع «رأس المال» على إنستاغرام