في آذار 2020 قرّرت حكومة لبنان الامتناع عن تسديد سندات اليوروبوندز، أو ديونها بالعملات الأجنبية. حتى الآن، تخلّف لبنان عن سداد نحو 8193 مليون دولار منها 4592 مليون دولار أصل السندات و3601 مليون دولار فوائد، أي أن احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية كانت ستتقلّص إلى 8 مليارات دولار تقريباً (إذا أخذنا في الاعتبار أن هناك التزامات غير مسددة على الاحتياطات بقيمة ملياري دولار حتى منتصف تموز الماضي). أي أن مجمل الاحتياطات كانت ستعادل ما يوازي 70 في المئة من مجموع واردات لبنان في عام 2020. بمعنى آخر، لم تكن هذه الاحتياطات لتغطي أكثر من سبعة أشهر من الاستيراد التجاري. ولو قمنا بتصفير العمليات التي حصلت بعد عام 2019، أي حين كان مصرف لبنان يملك في محفظته احتياطات بالعملات الأجنبية بقيمة 29.5 مليار دولار، وكان الاستيراد قد بلغ 19.3 مليار دولار مقابل قدرته على استقطاب ثلث التحويلات البالغة 7 مليارات دولار وصادرات بقيمة 3 مليارات دولار، فلم يكن سيبقى من هذه الاحتياطات في نهاية 2020 إلا 7.3 مليار دولار، أي نصف ما هو عليه حالياً، بالتالي كانت الاحتياطات ستتبخر خلال بضعة أشهر من عام 2021.
المصدر: وزارة المالية، مصرف لبنان، الجمارك اللبنانية | تصميم: رامي عليّان | أنقر على الرسم البياني لتكبيره

لو تبخّرت هذه الاحتياطات ما هو المصير الذي كان ينتظر المقيمين في لبنان؟ السؤال ضروري لأن التدفقات الآتية إلى لبنان كانت قد شحّت، وبسبب انعدام الثقة كانت تأتي نقداً عبر المسافرين إلى لبنان وتدخرها الأسر في المنازل، أو عبر التحويلات الإلكترونية المسحوبة نقداً، أو عبر ما يسمى حسابات «الفريش» في المصارف. لعلّه في هذه الحالة، كانت سرعة تدهور سعر الصرف قد تباطأت قليلاً خلال الموجة الأولى، غير أن تسارع التدهور لاحقاً سيكون كالبرق. عندها كان الأمر سيتحوّل إلى كارثة أكبر بكثير من تلك التي تحصل حالياً، خصوصاً أن قوى السلطة امتنعت عن إقرار قانون لتقييد حركة رأس المال واستعمالاته. فهي لم تحدّد لغاية اليوم ما هي وظيفة الاحتياطات بالعملات الأجنبية التي يحملها مصرف لبنان في محفظته، ولم تقرّر أي السلع التي يجب استيرادها أو الامتناع عن استيرادها. بكل بساطة قرّرت قوى السلطة أن تنحاز، كعادتها، لرأس المال، وأن تترك له حرية التصرّف بإشراف المصارف ومصرف لبنان. هكذا أقرّت المصارف بإشراف مصرف لبنان، القيود الاستنسابية على الودائع، وبات مصرف لبنان غارقاً في البحث عن سبل لإطفاء الخسائر المتراكمة في ميزانيته بالدولار وتحويلها إلى خسائر بالليرة تمتدّ على فترات طويلة من الزمن الآتي، وجرى ضخّ الكثير من النقود الجديدة بالليرة بين أيدي الناس، والأخطر لجوء مصرف لبنان، بشكل متعمّد، إلى تعدّدية أسعار الصرف لإطفاء الخسائر ما أدّى إلى تضخم الأسعار بنسبة تفوق 250 في المئة انسجاماً مع ارتفاع سعر الدولار.
في الواقع، كان قرار التوقف عن دفع اليوروبوندز مصيباً إلى حدّ ما، ولو أنه أتى متأخراً بأشهر. وليس ذلك فقط، بل إنه أتى في وقت كانت الحكومة تتعامل مع الأمر بشكل مقبول انطلاقاً من كونها بادرت إلى إعداد خطّة لتقييم الخسائر والتوصل إلى طريقة لإطفائها من أجل النهوض. لكن ما حصل يكمن في أن السلطة انقلبت على هذه الخطة، ولم تنقلب على الثغرات فيها، بل تملّصت من الأساس الوارد فيها الذي يتعلق بإحصاء الخسائر والإقرار بها تمهيداً لتوزيعها. لاحقاً، بدأت تظهر مفاعيل الانقلاب التي تمحورت في امتناع الحكومة عن أي تعديلات في رأس هرم السلطة النقدية، ثم بعد انفجار المرفأ في مطلع آب، استُقيلت الحكومة بقرار سياسي أخذ البلاد نحو هاوية أخرى. وفي هذا الوقت كان مصرف لبنان يتولى إدارة توزيع الخسائر بالطريقة التي نهاه عنها صندوق النقد الدولي، أي إفلات التضخّم ليأكل المدخرات والرواتب وكل الأصول بين أيدي اللبناني من أجل الحفاظ على المصارف وكبار المودعين. هذا المسار تضمن تشجيع عمليات المضاربة على العملة، وعلى الأصول الريعية أيضاً مثل تجارة العقارات التي شهدت خلال فترات نمواً في العمليات وتلاعباً بالأسعار، وانبرى مصرف لبنان إلى تحديد عمليات الدعم بقيمها أو بأصناف السلع المدعومة. وانتهى الأمر بمقترحات لاستبدال الدعم بالبطاقة التمويلية وفق آلية زبائنية بالكامل، ثم اعتذر سعد الحريري عن عدم تشكيل الحكومة وكُلّف نجيب ميقاتي.
ماذا سيفعل هذا الأخير وهو من صلب قوى السلطة وركناً من أركانها؟ في الواقع، لا يمكن التعويل على ميقاتي لتعديل المسار الذي رسمه سلامة، بل إن المشكلة الأساس تكمن في أنه قد يفعل العكس تماماً، أي العمل على إعادة إنتاج النظام المنهار بشكل جديد يضمن لأركانه أنه سيبقى دوماً منحازاً إلى جانبهم. أما بقية اللبنانيين، فليس لهم سوى الفقر والهجرة في مواجهة جهنم التي وُعدوا بها يوم تُرك الأمر بيد سلامة ومنظومته. هكذا أصبح أكثر من نصفهم فقراء، وهناك قسم آخر على شفا الوقوع في الفقر، وقسم يعاني من الفقر الغذائي. وهم اليوم لا يجدون الدواء، ويقفون في طوابير للحصول على البنزين اللازم لانتقالهم نحو العمل في سوق تطغى عليها التهريب والتخزين، وينامون في العتمة لأن مؤسسة كهرباء لبنان ليس لديها معامل إنتاج الكهرباء، ومولدات الأحياء باتت تبحث عبثاً عن المازوت.
حالياً، ليس لدى مصرف لبنان أكثر من 13مليار دولار من احتياطاته بالعملات الأجنبية بعد احتساب تراكم الفواتير غير المسددة بقيمة تفوق ملياري دولار، أي أن احتياطاته بدأت تؤول إلى النفاذ. هذه أزمة جديد ستواجهنا قريباً علماً بأن العلاج المرتقب يكمن في التسولّ من الخارج، والارتهان أكثر لقرار الخارج في تحديد مصيرنا.