لا يجب أن ننسى أن صندوق النقد الدولي هو مصرف أو تعاونية مصرفيّة دوليّة تمارس مهام المصرف المركزي الدولي. فالصندوق يقدّم نفسه، كما ورد في تقريره السنوي لعام 2021، بأنه منظّمة تهدف إلى «تعزيز التعاون النقدي العالمي»، وأن مهمّته «ضمان استقرار النظام النقدي الدولي». وفي سبيل هذه المهمة يُمارس الصندوق ثلاثة أدوار أساسية: «الرقابة الاقتصادية، الإقراض، التنمية». وبمعزل عن التفسيرات الأيديولوجية والسياسية لهذه المهمّة والأدوار، فمن الواضح أن عمل الصندوق مماثل لعمل الوسيط المالي في تعاملاته مع الزبائن، أي يقرض الدول ويموّل هذه العمليات من اشتراكات الأعضاء بعد ضمان استرجاع الأموال من خلال ممارسة دور رقابيٍّ على المقترضين لتنفيذ الشروط التي يراها مناسبة.هذا سلوك علني للصندوق أشار إليه في تقريره السنوي الأخير في فصل بعنوان «تقييم الضمانات الوقائية». يقول التقرير: «عندما يقدّم الصندوق تمويلاً لأحد البلدان الأعضاء، عادة ما تُجرى عملية تقييم للضمانات الوقائية للحصول على تأكيدات معقولة بأن البنك المركزي لهذا البلد قادر على إدارة الموارد التي يحصل عليها من الصندوق، وعلى توفير بيانات نقدية موثوقة عن البرنامج الذي يدعمه الصندوق». كما يلفت التقرير إلى أن الضمانات المطلوبة من المصارف المركزية تشمل خمسة مجالات: آلية تدقيق خارجي، آلية تدقيق داخلي، هيكلاً قانونياً، إطار إعداد التقارير المالية، الضوابط الداخلية.

إذاً، ضمان استرجاع الأموال هو أمر أساسي بالنسبة للصندوق، أو على الأقلّ هذا جزء حقيقي من عمل الصندوق. هنا يصبح محور النقاش مرتبطاً بموافقة الصندوق على طلبات الدول. وهذا مسار فيه الكثير من التعقيدات البيروقراطية والتقنية وصولاً إلى السياسية. فالصندوق، استناداً إلى معطيات ومؤشرات جمعها في بعثاته المنتشرة حول الدول، ومن تقارير التقييم المالي والمصرفي التي يعدّها عن الدول، لديه ما يكفي من المعرفة لتكوين رأي بأنظمة هذه الدولة وبأدائها النقدي والمالي والاقتصادي. وهذا الأمر يصبح جزءاً أساسياً في العلاقة بين الصندوق والدولة الراغبة في الحصول على تمويل منه. فبهذه الخلفية يبدأ تكوين الملف الذي يمرّ بمباحثات تمهيدية تنتهي إلى مفاوضات تقنية. وبمجرّد التوصّل إلى إتفاق حول التصوّر النهائي، يصبح الأمر مرتبطاً بإجراءات بيروقراطية داخل الصندوق، وإجراءات سياسية يقرّرها المجلس التنفيذي للصندوق لجهة الموافقة على منح التمويل للدولة العضو. وبهذا المعنى يصبح الملف جزءاً من سياسات الدول الأعضاء واستراتيجياتها خارج الحدود.
إذاًَ، قبل بلوغ مرحلة المجلس التنفيذي، هناك مرحلة تكوين الملف. وكما يحصل بين أي زبون وأي مصرف، فإن الزبون يتصل بالمصرف طالباً منه الحصول على التمويل. يبدأ الأمر بمباحثات تمهيدية. خلال هذه المرحلة، تقدّم الدول الراغبة في الاقتراض من الصندوق تصوّرها لما ستقوم به من أجل ضمان استدامة ديونها، واستعادة ثقة الأسواق المالية الدولية بها، بما يتيح لها الاقتراض مجدداً من هذه الأسواق وردّ قروض الصندوق. لكن الأمر ليس بهذه البساطة، وخصوصاً أن الدول تقترض من صندوق النقد الدولي باعتباره الملاذ الأخير، أي أنها بلغت مرحلة التوقف عن الدفع والإفلاس بالمعنى التقني. وبما أنه لدى الصندوق معرفة واسعة بالبلدان الأعضاء، ولديه أيضاً شروط وحدود واضحة لآليات التمويل المتاحة، يصبح النقاش في التصوّر مرتبط برغبة البلد فعلاً في الحصول على التمويل من الصندوق ومدى استعداده لتنفيذ شروط الصندوق، وبمدى مرونة الصندوق في تطبيق هذه الشروط.
طبعاً هذه هي حدود التفاوض، لكنها في الوقت نفسه تتضمن مساحة واسعة. منطلقات معاينة الأزمة وتشخيصها ستكون أمراً حيوياً في هذا النقاش. تحديد وتوزيع الخسائر أيضاً. القنوات والأهداف سواء في المالية العامة، وفي السياسات النقدية، وفي الاقتصاد من الدخل إلى الضريبة والتحفيز وشكل الشركات والمجتمع بشكل عام. كما أن استدامة الدين العام، كل هذه المسارات تتحوّل إلى مسارات يُبنى عليها سيناريوهات افتراضية. طبعاً الأمر يبدأ بتقديم الدولة الراغبة في التمويل، بتصوّرها للإجراءات والتدابير التي يفترض أن تعيد التوازن إلى ميزان المدفوعات، أي أن تعيد التوازن إلى مؤشراتها المالية والنقدية والاقتصادية ضمن المؤشرات المعيارية التي يقبل بها الصندوق. هنا تبدأ عملية التفاوض. ومن ضمن هذه العملية، تصبح التوجهات العامة للبلد في صلب هذا التفاوض. الإجراءات المنوي اتخاذها تصبح «إصلاحات».
ضمان استرجاع الأموال هو أمر أساسي بالنسبة للصندوق، أو على الأقلّ هذا جزء حقيقي من عمل الصندوق. هنا يصبح محور النقاش مرتبطاً بموافقة الصندوق على طلبات الدول


وفي هذه المرحلة، يكلّف الصندوق فريق عمل تقني معني مباشرة بالملف للتحاور مع ممثلي الدولة تجاه الصندوق، سواء البنك المركزي، أو وزارة المال. في الغالب يأخذ الحوار طابع الخضوع والفرض من قبل الصندوق على الدول. فالمؤشرات المطلوب تحقيقها ستفرض على الدول مسارات تقشفية مؤلمة اجتماعياً واقتصادياً. وبما أنه في غالبية البلدان، هناك فئات قوية وذات نفوذ يتيح لها الهروب من انعكاسات هذه المسارات وتصويبها تجاه الفئات الأضعف والأكثر هشاشة، فإن تداعيات التدابير التقشفية تصيب الأفراد الأكثر هشاشة. الصندوق يعلم ذلك، لكنها لا يفرض أي مسار على تعديل موازين القوى الداخلية، إلا بما يتناسب مع خلفيته الفكرية، أي من خلال عملية تجميل للتداعيات بواسطة فرض ما يسمّيه «شبكات الأمان الاجتماعي» وإعادة توجيه قسم من الموارد العامة لتمويل هذه الشبكة. المهم بالنسبة للصندوق، في هذه المرحلة، الإيفاء بالمعايير التي تضمن له استرجاع أمواله.
إذاً، من مباحثات تمهيدية، إلى مفاوضات تقنية متصلة بالسياسات العامة، إلى مرحلة التقييم الداخلي. فالسيناريو الذي يتم الاتفاق على أنه يناسب الطرفين في إطار هدف التمويل مقابل استرداد الدين ضمن الفترة الزمنية المحدّدة، يتم التفاوض عليه لتحويله إلى برنامج عمل أو تصوّر مقدّم من الحكومة إلى الصندوق. يتم تضمين هذا التصوّر في إطار ما يسمّى «خطاب النوايا» الموجّه من الحكومة إلى الصندوق. يُذكر في هذا الخطاب، الأهداف العامة التي يسعى لتطبيقها البلد الراغب في التمويل، ويذكر أيضاً ما يسمّى «إصلاحات مالية» تتضمن إجراءات ضريبية بالجملة غالبيتها يستهدف الوصول إلى المؤشرات المعيارية التي يحدّدها الصندوق، أي انطلاقاً من موازين القوى الداخلية القائمة ومن دون أي مساس فيها. كذلك، يتطرق خطاب النوايا إلى ما يسمّى «إصلاحات هيكلية» تتعلق بالقطاع الخاص بشكل إجمالي لتحفيزه عبر إجراءات مختلفة غالباً يطلب الصندوق أن تكون الخصخصة أداتها الأساسية بالإضافة إلى شعارات تتعلق بالحوكمة ومكافحة الفساد وسواها... وفي هذه المرحلة لا يكون هناك اتفاق على تفاصيل التمويل، بل يباشر الفريق التقني المكلّف بالتفاوض بنقاش داخلي مع المسؤولين الأعلى في الصندوق لدراسة هذا التصوّر. عند انتهاء النقاش، يرفع الفريق إلى المجلس التنفيذي، دراسته حول التصوّر مرفقاً بملف عن التمويل يحدّد فيه كل التفاصيل والمؤشرات التي يفترض أن يتم على أساسها التمويل سواء برنامج التمويل، وقيمته، والمدّة الزمنية، وتقسيم الدفعات وسواها.
في الغالب، لا يُرفع إلى المجلس التنفيذي أي ملف لا يتوقع أن يوافق عليه المجلس. في الفترة الفاصلة بين المناقشات الداخلية في الصندوق، وبين رفع الملف إلى المجلس التنفيذي، تنطلق أيضاً مباحثات داخلية في الصندوق على مستوى أعلى من الفريق التقني والمسؤولين عنه، لمناقشة الملف بشكل يضمن أن يحصل على 85% من الأصوات في المجلس التنفيذي. ضمانة أن يحصل ذلك، هي في مسارات التصويت في المجلس التنفيذي. إذ يمكّن الأعضاء من التصويت بـ«الموافقة»، أو بـ«الاعتراض»، أو بـ«لا اعتراض». حصول الملف على النسبة اللازمة لموافقة المجلس التنفيذي تتضمن تصويتاً بـ«الموافقة» أو بـ«لا اعتراض». أي تصويت من جهة كبيرة بـ«الاعتراض»، مثل الولايات المتحدة التي تملك حصّة في الصندوق توازي 17% تقريباً، يلغي موافقة الصندوق على التمويل حكماً.



لبنان بعيد عن «مرحلة التفاوض»
حالياً، ما زال لبنان في مرحلة المباحثات التمهيدية مع الصندوق. لم يصل بعد إلى مرحلة التفاوض. فهذه المرحلة تتطلب أن يقدّم تصوّراً واضحاً للإجراءات التي سيقوم بها من أجل إعادة التوازن إلى حساباته الخارجية والداخلية، سواء على مستوى ميزان المدفوعات، أو على مستوى الموازنة. لبنان ما زال في مرحلة إعداد الأرقام. المستشار المالي للحكومة «لازار» سيدرس الأرقام ويرسم سيناريوهات تستند إلى افتراضات تحددها الحكومة لمجموعة مسائل أبرزها يتعلق بتحديد السعر المستهدف لصرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار، تحديد خسائر القطاع المالي، آليات وقنوات توزيع الخسائر، نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي، حساب الناتج المحلي الإجمالي، استدامة الدين العام على المدى المتوسط نسبة إلى الناتج، عجز ميزان المدفوعات... ثمة الكثير من العمل الذي لم يطرأ عليه أي تقدم لغاية الآن سوى أن وزارة المال ومصرف لبنان أعطت «لازار» وصندوق النقد الدولي البيانات المالية التي سيتم على أساسها احتساب كل هذه البنود. المشكلة تكمن في الافتراضات والاحتساب والأهداف التي ليس هناك اتفاق عليها بعد. ما ينطبق على لبنان هو أنه في مرحلة إعدادية ولم يدخل في صلب الموضوع بعد التي تمكّنه من التفاوض على الأرقام والافتراضات والنتائج.


القرار السياسي... من مؤتمرات باريس إلى التـمويل المباشر
اعتاد لبنان في العقود الماضية أن ينال التمويل الذي يطلبه من المجتمع الدولي (وخصوصاً في مؤتمرات باريس 1،2،3،4) من دون المرور بعملية التوقف عن الدفع ومن دون المرور عبر علاقة تمويلية مباشرة مع صندوق النقد الدولي. هذا الأمر كان يعفيه من تقديم برنامج مفصّل يوافق عليه الصندوق مقابل كل دولار تمويل. كان التصوّر الذي تقدّمه الحكومة اللبنانية للدول المانحة تستند إلى رعاية ما من الصندوق، أو أن يكون البرنامج متوافقاً مع شروط الصندوق من دون أن يكون لهذا الأخير قوّة إجبارية على فرض تنفيذ الإجراءات التي تعهدت بها الحكومة. هذا الأمر كان يعفي المسؤولين في لبنان من القيام بأي شيء. وفضلاً عن أنهم استمرّوا بتوزيع الأموال التي حصلوا عليها كتمويل من الدول والمنظمات الدولية، عبر قنوات الريع والزبائنية، إلا أنهم أيضاً أعفوا أنفسهم من القيام بأي إجراءات جديّة لتعديل النموذج الاقتصادي. طبعاً لا يؤمل من أي علاقة مع الصندوق أن يكون هناك إصلاح جدّي ليصبح الاقتصاد في خدمة المجتمع، لأن الصندوق لا يهتم بتعديل موازين القوى، بل ربما يهتم أكثر بتجليس النموذج وأدواته وفق هوية فكرية كلاسيكية للرأسمالية. بهذا المعنى، يمكن أن تستمرّ الضرائب على الفئات الأكثر هشاشة ولو زيدت على الفئات الأكثر قدرة، وأيضاً يمكن أن تواصل قنوات التوزيع القيام بعملها التقليدي لتوزيع موارد المجتمع بنصيب أكبر للفئات الثرية إنما بأدوات جديدة ونظامية. لذا، قد لا نجد فرقاً حقيقياً بين ما يسعى إليه النظام الحالي القائم في لبنان، وبين شروط الصندوق، إلا لجهة وتيرة نهب المجتمع وكيفية تحويله إلى عامل مستدام في إنتاج الثروة للآخرين.


محمود محي الدين: لتقديم المشورة أو فرضها؟


من هو محمود محي الدين الذي زار لبنان وعامله المسؤولون في لبنان والإعلام اللبناني باعتباره يمثّل صندوق النقد الدولي؟
هو منذ تشرين الأول 2020 عضو في المجلس التنفيذ لصندوق النقد الدولي. يشغل هذا المقعد المخصص للمجموعة العربية. هو منتخب من هذه المجموعة التي تملك حصصاً في الصندوق، أي أنه يمثّل مصالح هذه الجهة تحديداً. لكن الإعلام اللبناني، والمسؤولون في لبنان تعاملوا مع محي الدين باعتباره يمثّل الصندوق إلى درجة أنهم استمعوا إلى آرائه حول رغبة لبنان في التعامل مع الصندوق باعتبارها فروضاً يجب التقيّد بها. في الواقع، ثمة خيط رفيع بين ما يمثّله هذا الرجل، وبين الانبطاح اللبناني تجاه التدخلات الخارجية. فهذا الرجل عليه أن يستمع إلى ما يريده لبنان من الصندوق، وعليه أن يدلّ لبنان على أقصر الطرق وأكثرها فاعلية في التوصل إلى ما يريده من الصندوق.
رُوّج كثيراً أن زيارة محي الدين إلى لبنان أتت لتتجاوز الفريق التقني المكلف بالتعامل مع ملف لبنان برئاسة مارتن سيريزولا. وصل الأمر إلى حدّ ترويج إشاعة بأن ممثلة مكتب الصندوق في لبنان نجلة نخلة لم ترافقه في جولته على المسؤولين باعتبار أن هناك تغييراً ما في جدول أعمال الصندوق تجاه لبنان. لكن الواقع، أن محي الدين لا يمكنه القيام بزيارات لتقديم النصح والمشورة للحكومة اللبنانية في علاقتها مع الصندوق في ظل حضور ممثلين عن الصندوق. مارتن يمثّل الصندوق في علاقته التفاوضية مع لبنان، وهناك تضارب في المصالح إذا تواجه مع الشخص الذي يُفترض أن يكون مرشداً للبنان في تجاوز العقبات التقنية والسياسية في العلاقة التي يسعى إليها مع الصندوق.