تُجمع الخطط التي تُطرح لحلّ الأزمة المالية على ضرورة إعادة هيكلة القطاع المصرفي للتأسيس لانطلاقة جديدة تهدف إلى تصويب نشاط هذا القطاع في تثمير الودائع التي تُعَهد إليه في تطوير الاقتصاد لا في تمويل فساد السلطة السياسية. نجاح هذا التوجّه يتطلّب أن يتضمن في أولوياته إعادة هيكلة مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف. بالنسبة لمصرف لبنان، إن إعادة الهيكلة مطلوبة ليس فقط بسبب الفجوة الكبيرة التي اكتُشفت في حساباته بين موجوداته والتزاماته بالعملات الأجنبية وكانت من المسبّبات الرئيسية للأزمة، بل أيضاً استجابة لمقتضيات التطورات العديدة والمتنوّعة التي حصلت بعد إنشائه لخلافة بنك سوريا ولبنان في إصدار وإدارة النقد في منتصف ستينيّات القرن الماضي. التطوّرات بدأت في مطلع السبعينيات بإعلان الرئيس الأميركي نيكسون فكّ الارتباط بين الذهب والدولار، ما نجم عنه انهيار نظام سعر الصرف الثابت المستند عليهما بمقتضى اتفاقيات «بريتن وودز» وولوج العالم في ما اصُطلح على تسميته نظام سعر الصرف العائم. تلاه نموّ مضطرد في الأدوات والأسواق المالية مع اتجاه لعولمتهما. كما حصلت اكتشافات مدهشة في مجالات الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات وتبلورت نزعة عالمية متنامية في اتجاه تبنّي آليات السوق دعمها انهيار العديد من الأنظمة الاشتراكية وانضواء عدد متزايد من الدول في منظمة التجارة العالمية التي انطلقت من فكرة تخفيف ورفع القيود أمام انتقال السلع لتنتهي إلى تشجيع تحرير القيود أمام تأدية الخدمات في مقدّمتها الخدمات المصرفية والمالية.
أفرزت هذه التطورات تغيّرات عميقة في بيئة عمل وفي أهداف ومهام ومسؤوليات وصلاحيات وإدارة ورقابة المصارف المركزية، ودفعت العديد من الدول، ولا سيما في أوروبا الغربية والشمالية إلى إعادة هيكلة مصارفها المركزية لتتناسب مع التغييرات.
بالنسبة لمصرف لبنان، الأمور الملحّة في إعادة هيكلته تتضمن التالي:
1- ضرورة توضيح الإطار القانوني الذي يحكم مهمّته الأساسية والتي يجب أن تكون تحقيق «الاستقرار في الأسعار».
2- ضرورة فصل نشاطات مصرف لبنان المتعلّقة بالتنظيم والإشراف على المصارف، وأيضاً نشاطات لجنة الرقابة على المصارف وهيئات أخرى وإلحاقها بهيئة جديدة يتم إنشاؤها لترعى جميع شؤون المصارف والمؤسسات المالية وشركات الضمان وغيره... أي على النمط الذي اعتمدته الدول الأوروبية (في ألمانيا الـBAFIN، في سويسرا الـFINMA، في انكلترا الـFSA، في بلجيكا الـCBFA، وفي فرنسا الـACP... وغيرها) .
3- إرساء حوكمة جديدة في إدارة مصرف لبنان محورها تعديل الإطار القانوني لعمل المصرف وإدارته ورقابة عملياته وأعماله على النحو المعتمد في المصارف المركزية الرائدة.
أولاً، في ضرورة توضيح الإطار القانوني الذي يحكم مهمة مصرف لبنان الأساسية والتي يجب أن تكون «الاستقرار في الأسعار»، تنصّ المادة 33 من قانون النقد والتسليف على أن المجلس المركزي لمصرف لبنان هو الجهة صاحبة الصلاحية «بوضع السياسة النقدية للمصرف»، لكن المادة 65 من الدستور تشير إلى أن مجلس الوزراء هو السلطة المخوّلة «بوضع السياسة العامة للدولة في جميع المجالات» من دون أي استثناء، ما يعني ضمناً أن المجلس هو صاحب الكلمة الأولى في ما خصّ السياسة النقدية على الأقل بعناوينها وخطوطها العريضة.
التباين السابق عكس تبايناً في المواقف على صعيد التطبيق العملي. فرئيس الحكومة السابق السيد حسان دياب أعلن في إحدى تصريحاته «إن مصرف لبنان هو المسؤول عن السياسة النقدية»
وقبل عدّة أيام ذكر رئيس الجمهورية السيد ميشال عون «أن حاكم مصرف لبنان هو المسؤول عن حماية العملة الوطنية». واضح أن همّ الاثنان في ما أعلناه، كان تبرئة كلّ من الحكومة والعهد من أي مسؤولية عن انهيار سعر صرف الليرة. لكن في المقابل، أعلن حاكم مصرف لبنان في إطلالة تلفزيونية من مكتبه مطلع العام الماضي، للتعليق على انتقادات الرئيس دياب لمصرف لبنان «إن المصرف اعتمد سياسة الاستقرار النقدي عملاً وتقيداً بـ«بيانات طلب الثقة» لجميع حكومات ما بعد 1993» ما يعني ضمناً: 1) إن مجلس الوزراء هو المعني بالتقرير المبدئي بموضوع الاستقرار النقدي، 2) وليس هناك قرار صريح صادر عن مجلس الوزراء بخصوص هذا الموضوع.
أخيراً، أشار السيد سعادة الشامي نائب رئيس الحكومة وعضو الوفد المفاوض مع صندوق النقد الدولي في حديث لصحيفة «السهم» «إن لمصرف لبنان استقلاليته في تقرير السياسة النقدية وسياسة سعر الصرف».
هذا الالتباس بين المسؤولين وغيرهم في تحديد من هو صاحب الصلاحية بموضوع الاستقرار النقدي بكلّ مفصل من مفاصله يمكن فهمه وتفسيره على أنه بسبب استعمال نصوص أُدرجت في قانون النقد والتسليف للتعامل مع متطلّبات تحقيق الاستقرار النقدي وفقاً لنظام «سعر الصرف الثابت» ويتم استعمالها حالياً في ظل سيادة «نظام سعر الصرف العائم» ومتطلّبات هذا النظام أكثر تنوّعاً وتعقيداً.
من هنا يمكن إدراك لماذا أن معالجة الالتباس السابق تأتي في رأس الأولويات عند إعادة هيكلة مصرف لبنان. ففي هذا المضمار يمكن التمييز بين ثلاث فئات من الدول في موضوع تحقيق الاستقرار في الأسعار؛ فهناك دول تُطلق يد المصرف المركزي بوضع الأهداف والسياسات النقدية وتطبيقها ليتحمّل المصرف المركزي وحده النقد والتجريح عند أي اختلال في استقرار الأسعار. في مقدمة هذه الدول يأتي المصرف المركزي الأوروبي.
يجب تعديل قانون النقد والتسليف لتوسيع مهمة مصرف لبنان من المحافظة على النقد المصدر منه نحو النقد المصرفي أيضاً


لكن هناك دول تنصّ قوانينها على ضرورة تشاور الحكومة والمصرف المركزي باستمرار في القضايا الاقتصادية والنقدية قبل اتخاذ أي منهما قرارات ذات صلة بهذه القضايا. على رأس هذه الدول تأتي سويسرا حيث يكرّس الدستور لا القانون، استقلالية مصرفها المركزي في مجال السياسة النقدية. والأخير يمارس هذه الاستقلالية بشكل مسؤول أي باستقلالية «مع with» وليس «عن of» الحكومة السويسرية (المادة 99 من الدستور والمادتان 6 و7 من قانون المصرف السويسري).
وهناك دول تحرص على حفظ مهمة تحديد هدف وسياسة استقرار الأسعار للحكومة بعد استشارات وثيقة مع المصرف المركزي، نظراً لانعكاسات هذا الأمر وتأثيراته على الحياة السياسية، وتُحفَظ للمصرف المركزي مهمة اتخاذ الخيار المناسب في مجال التنفيذ (المملكة المتحدة البريطانية وكندا).
الخيار الأوروبي لا يمكن الأخذ به في لبنان لأنه يجعل من مصرف لبنان جزيرة مستقلّة عن السلطات الأخرى ولا أحد يرغب في ذلك راهناً. بينما الخيار السويسري لا شكّ بأنه هو الأفضل نظرياً، لكنّه يتطلّب إدراج استقلالية مصرف لبنان في الدستور لكي تكون معتبرة فعلاً. وهي، أي الاستقلالية، وإن كانت مطلوبة عموماً من قبل صندوق النقد الدولي (كما أعلن ذلك صراحة في قضية كوريا الجنوبية) لكن من المؤكّد أن لا أحد يحبّذ راهناً ترسيخها في لبنان بنص دستوري لأسباب عدة أهمها تجنّب الاخلال بتوازن السلطات.
الخيار الأنكلوسكسوني يبقى الأكثر توافقاً مع الحالة اللّبنانية ومع متطلّبات الدستور والقانون، لأنه يقوم على فكرة مشاركة الحكومات مصرف لبنان بحدود معينة بموضوع أهداف وسياسات استقرار الأسعار، فلا تكتفي بترداد عنوان الاستقرار النقدي في بيانات طلب الثقة من المجلس النيابي من دون أخذ المبادرة بما هو مطلوب منها عملاً بأحكام المادة 65 من الدستور.
استناداً لما سبق فإن المطلوب في بداية عملية إعادة هيكلة مصرف لبنان هو التالي:
1- إعادة صياغة نص المادة 71 من قانون النقد والتسليف، وهي المادة الأساس التي يرتكز عليها مصرف لبنان في إصدار غالبية تعاميمه، وذلك بتعديل المهمّة العامة للأخير، والتي هي راهناً «المحافظة على النقد وسلامته» على وجه يُؤخذ فيه برأي صندوق النقد الدولي الذي أشار في أحد تقاريره إلى أن نصّها يحمل طابعاً إنشائياً أكثر منه قانونياً ويغلب فيه أن المقصود هو فقط النقد المصدر من مصرف لبنان monnaie fiduciaire بمقتضى الامتياز الممنوح له حسب المادة 10 من قانون النقد والتسليف وليس أيضاً النقد المصرفي monnaie scripturale وغيره...
والبديل المقترح لنص المادة 71 هو تركيز مهمة مصرف لبنان على «تحقيق الاستقرار في الأسعار». هذه المهمة هي المفضّلة والمعتمدة راهناً من قبل القوانين الأوروبية وتضبط بشكلٍ أفضل النجاحات والإخفاقات. وقد صنّف حاكم المصرف المركزي الألماني Karl Otto Pöhl مهمة «تحقيق الاستقرار في الأسعار» من ضمن أسمى المهام الإنسانية، ودعا إلى إدراج حقّ الإنسان باستقرار الأسعار ضمن لائحة الأمم المتحدة المعدّدة لحقوق الإنسان الطبيعيّة.
2- تعديل المادة 33 من قانون النقد والتسليف على نحو يتم فيه إيضاح مشاركة الحكومة مصرف لبنان سنداً للمادة 65 من الدستور، بإجراء درس مستفيض للأوضاع الاقتصادية والمالية من أجل تحديد الأهداف النقدية المتوجّب استهدافها لتحقيق الاستقرار في الأسعار على أن يُترك للمصرف كامل الصلاحيّة في تحديد سُبل تحقيق هذه الأهداف من دون أي إملاءات من الحكومة.
إن التعديل المقترح للمادة 33 هو على سبيل تأكيد الدّور الدستوري للحكومة في إعداد الأهداف والسياسات النقدية، وهو دور لو التزمت به حكومات ما بعد الـ1993 لاكتشفت مبكراً الكلفة العالية لعملية تثبيت سعر الليرة اللبنانيّة إزاء الدولار بعدما تمّ تمويل جزء مهم من هذه الكلفة بعمليات Ponzi scheme قام بها مصرف لبنان مع المصارف وغيرها وكانت موضوع انتقاد من الرئيس الفرنسي Emanuel Macron ومن الأمين العام للأمم المتحدة António Guterres.

* محاضر في قانونَي النقد والمصارف المركزية