المتتبّع لتطوّر الأمور منذ تأسيس مصرف لبنان في الستينيّات، يلفته كمّ المهام التي كُلّف بها هو وحاكمه لاحقاً. ففي البداية كانت مهمّته تقديم المشورة للحكومة قبل أن تمنح (الحكومة) التّرخيص بتأسيس مصرف، أو تعديل نظامه الأساسي، كما أُنشئت لدى المصرف مديريّة منفصلة عن مديريّاته مهمّتها رقابة المصارف وترتبط بالحاكم مباشرة.بعد سقوط بنك انترا المُريع، نحَت الأمور منحاً مغايراً. ففي حينه أطلق العميد الراحل ريمون إدّه، كلمة شهيرة تحت قبّة البرلمان، جاء فيها: «لقد كان المطلوب من مصرف لبنان رقابة المصارف وقد أخفق في هذه الرّقابة لذا يقتضي سحب هذه المهمّة منه».
وهذا ما حصل بالفعل. فقد تمّ فصل رقابة المصارف عن مصرف لبنان، وأُنيطت بلجنة مستقلّة عنه. في المقابل، وبهدف الإبقاء على التّوازن الذي هُدر، أُنشئت هيئة مصرفيّة عُليا أُنيطت رئاستها بالحاكم للنّظر بمخالفات المصارف لقانون النقد والتسليف ونظامه الأساسي وتدابير المصرف وغيره... ثمّ تتالت قرارات توسيع صلاحيات المصرف وحاكمه ومن أهمّها نقل صلاحيّة منح التراخيص بإنشاء المصارف الجديدة من مجلس الوزراء إلى مصرف لبنان، وأيضاً تعيين الحاكم (أ) رئيساً لهيئة التحقيق الخاصة التي أُنشئت لتعقّب حالات تبييض الأموال ثمّ حالات تمويل الإرهاب وإتيان الفساد من عمليّات إثراء غير مشروع وغيره، و(ب) رئيساً لهيئة الأسواق المالية التي أُنشئت لتنظيم ورقابة هذه الأسواق.
التوجّه التراكمي في مهام وصلاحيّات المصرف المركزي نوّه بهما الحاكم رياض سلامة في كلمة ألقاها في المقرّ الرئيسي للمصرف المركزي الإيطالي كـ«ضيف شرف» ومتكلّم رئيسي في مؤتمر بعنوان: «الشروط والمقاربات لدعم الاستقرار المالي». وقد نشرت جريدة «النهار» مقاطع من كلمة الحاكم في عددها رقم 24180 السبت 02 تشرين الأول 2010 ورد فيها الآتي: «من أهمّ الدروس التي يجب تعلّمها من الأزمة العالمية (أي أزمة الرهونات العقارية الأميركية 2008)، هي أن توضع المسؤوليات والصلاحيات للإشراف وحماية الاستقرار المالي في يد سلطة واحدة هي المصارف المركزية التي عليها أن تتمكّن وتنجح في استعمال الأدوات التي تملكها، لمنع حصول الأزمات المالية ولحسن إدارتها». وعدّد الحاكم خمسة أمور اعتبرها «حجر الزاوية لحماية قطاع المصارف، وتالياً مصالح الناس»، الثانية منها هي: «توحيد مؤسّسات الإشراف بحيث تعمل لجان الرقابة والمؤسسات المالية وهيئات التحقيق الخاصة لمكافحة تبييض الأموال بإشراف جهة واحدة هي المصرف المركزي، مما يثبّت عنصر الاستقرار وينمّي الثقة».
في الواقع، تماهت توجّهات حاكم مصرف لبنان مع ما هو قائم في دولة رائدة في النشاطات المالية هي سنغافورة، وأيضاً مع آراء أخصّائيين عدّة تُثمّن إدراج نشاطات الإشراف والرقابة المالية من ضمن مهام المصرف المركزي أو وضعها تحت عباءته. ملخّص حجج هذه الآراء:
1- يمدّ المصرف المركزي، باستمرار، وبمعطيات متنوعة عن منحى النشاط الاقتصادي في البلاد وعن الاتجاهات التضخمية المحتملة، وكلّها أمور ضرورية لحسن تحقيق مهمته الأساسية التي هي «الاستقرار في الأسعار»، ولمهامه الأخرى الثانوية في مجال تطوير أنظمة الدفع والتسوية وأيضاً تطوير الأسواق المالية.
إنّ توحيد هيئات الإشراف والرّقابة على القطاع المالي في إطار هيئة مستقلّة عن المصرف المركزي يُساعد في تحقيق إشراف ورقابة أكثر فاعليّة ويُسهّل تقييم المخاطر العامة


2- يفيد المصرف المركزي في إرساء القواعد الاحترازية المناسبة التي يتعيّن على المصارف اعتمادها في أعمالها وذلك من المعطيات التي تتكوّن لديه من جرّاء تمرّسه بمهام السياسة النقدية وتنفيذها.
بيد أن الموضوعيّة تقضي بالاعتراف بوجود اتّجاه دوليّ راجح معاكس لما سبق عرضه يركّز على أهميّة حصر النشاط الأساسي للمصرف المركزي بأمور النقد وينئيه عن أمور الإشراف والرّقابة على القطاع المالي، وأهمّ حججه التالي:
1- إنّ جهود المصرف المركزي يجب أن تكون مركّزة على هدف أساسي واحد هو «استقرار الأسعار»، وتكليفه بأي مهمة ضاغطة أخرى سيكون وفقاً لمقال ورد تحت عنوان «مهام المصرف المركزي» في الصفحة 68 من مجلة «إيكونوميست» العدد 28 آب – 3 ايلول 1993، على حساب حسن قيامه بمهمّته المحوريّة. وأضاف المقال، إنّ أفضل وسيلة لإضعاف أيّ مصرف مركزي هي بتكليفه مهمة أخرى غير مهمة «استقرار الأسعار». فهذا الأمر سيفرز تأثيرات سلبيّة على مجمل نشاط المصرف المركزي. والمثال الذي يُساق في هذا المضمار هو أن المصرف المركزي المولج بالإشراف وتنظيم النشاط المصرفي أو حتّى الرقابة الاحترازية على المؤسّسات المصرفية والمالية سيكون مضطراً لمعالجة أيّة انتكاسة في الأداء المصرفي أو المالي عبر انتهاج سياسة نقديّة غالباً ما لا تكون مطلوبة أو مبرّرة على صعيد «استقرار الأسعار» لا بل تكون ضاغطة له.
2- هناك خشية من حصول تمويه في النجاحات والإخفاقات في حال ضمّ النشاط المصرفي والمالي إلى النشاط النقدي للمصرف المركزي. فنتائج القرارات التي تُتّخذ في المجالَين الأوّلَين هي أكثر وضوحاً وتُصيب حقوق الملكية (المساهمين والمودعين) مباشرة أكثر من القرارات التي تصدر في الشؤون النقدية والتي غالباً ما تتأخّر نتائجها في الظهور.
3- إنّ المؤسّسات المصرفيّة يستهويها عادة، فكرة تكليف المصرف المركزي مهمّة الإشراف على شؤونها ورقابتها لأنّ الأمر هو بمثابة دعوة غير مباشرة لها للقيام بالعمليّات الأكثر ربحيّة، وبالتالي الأكثر مخاطرة، معتمدة على أنّ المصرف المركزي لا بدّ أن يتدخّل لمساعدتها عند الضرورة لجبه أيّ اتّهام له بالتّقصير في أعمال الإشراف والتّنظيم أو الرقابة (ولبنان أكبر مثال على ذلك حيث تُجيز المادة 102 نقد وتسليف للمصارف الحصول على شريحة واسعة من التسهيلات من مصرف لبنان لا تعرف مثيلاً لها المصارف في الدول المتقدّمة والتي جلّ ما بإمكانها الحصول عليه عادة هو سيولة ظرفيّة عابرة لمدد قصيرة من الزمن نسبياً).
4- إنّ توحيد هيئات الإشراف والرقابة على القطاع المالي في إطار هيئة مستقلّة عن المصرف المركزي يساعد في تحقيق إشراف ورقابة أكثر فاعلية ويسهّل تقييم المخاطر العامة كما يخفّف من الفجوات والازدواجية والتشابك في عمليات الرقابة، ويُتيح تطوير ترتيبات تنظيميّة أكثر مرونة ويخفّض الأكلاف من خلال إرساء بنية تحتيّة واحدة للرقابة والإشراف، كما يوفّر إحصائيات موحّدة مفيدة للسياسات النقدية والمصرفية والمالية، ويحقّق أنظمة مساءلة أفضل بيد السياسيّين والجمهور وأصحاب الصلة بالقطاع المالي بجميع فروعه.
التوجّه الأخير القاضي بإنشاء هيئة منفصلة عن المصرف المركزي للإشراف والرقابة المالية تأخذ به حاليّاً، ومنذ نحو عقدين، غالبيّة الدول الغربية: النروج، الدانمارك، السويد، بريطانيا، إيطاليا، كندا، ألمانيا، وفرنسا، مع تمايز ما بين هذه الدول في المؤسّسات التي تخضع لهيئة الإشراف والرقابة: مصارف ومؤسّسات مالية شركات التأمين وغيرها... وتأتي سويسرا في رأس القائمة لجهة اتّساع عدد المؤسّسات الخاضعة للهيئة وتنوّعها إذ تضمّ زيادة على ما سبق، صناديق التّوظيف والثروات وتجار القيم المنقولة، كما أنشئ قسم خاص لدى الهيئة لمكافحة تبييض الأموال في القطاعَين المصرفي المالي ولرقابة نشاط الوسطاء الماليّين الناشطين في القطاع شبه المصرفي ومكاتب الصرافة والمحامين الذين يمارسون أنشطة مالية معينة، وكتّاب العدل وأندية القمار وغيره...
أي زائر لمصرفيّين مركزيّين رائدين في النجاح، هما البوندسبنك الألماني والمصرف الوطني السويسري، يسمع من كبار المسؤولين فيهما أن من المرتكزات الأساسية لنجاح مصرفيهما في أدائهما، هو: (أ) تركيز قوانينهما على تأمين مهمّة محورية هي «الاستقرار في الأسعار»، و(ب) حصر مهمّتي الإشراف والرقابة الماليّتين بهيئتين متخصّصتين مستقلّتين هما الـBAFIN في ألمانيا، والـFINMA في سويسرا. وقد تم الاستناد إلى العنصر الجغرافي في تحقيق الاستقلالية الصارمة لكل منهما عن المصرف المركزي. ففي ألمانيا يوجد مقرّ البوندسبنك في فرانكفورت، ويبعد الـBAFIN مئات الكيلوميترات في برلين. وفي سويسرا يوجد مقرّ المصرف الوطني في العاصمة برن، بينما المكتب الرئيسي للـFINMA بعيداً في زوريخ.
بالعودة إلى لبنان، أظهرت الأزمة الحادّة التي سقط فيها الأخير، والتي صنّفها البنك الدولي من بين أشدّ ثلاث أزمات شهدها العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر، إنّ توحيد العمل الحالي لمؤسّسات الإشراف والرقابة المالية وهيئة التّحقيق الخاصة لمكافحة تبييض الأموال من خلال مصرف لبنان أو تحت إشرافه، والذي نوّه به الحاكم في كلمته في المصرف المركزي الإيطالي، لم يرسّخ أبداً، كما ذكر، عنصر الاستقرار ولا تنمية الثّقة وحماية البلد من السقوط المريع، لا بل كان من أسباب هذا السقوط وفقاً لبعض التحليلات.
والأمور في ما وصلت إليه راهناً، تدفع إلى إطلاق صرخة مشابهة لصرخة المرحوم العميد ريمون إدّه بعد انهيار بنك انترا، وإن كانت خلاصتها تختلف مضموناً لجهة ضرورة إعادة هيكلة مصرف لبنان في اتجاه إعفائه من أعباء مهام وصلاحيات الإشراف والرقابة الماليّتين وإلحاق الأخيرتَين بهيئة مستقلّة متخصّصة لتأديتهما على النحو المعتمد في الدول الغربية التي سبق تعدادها.
هذا الأمر يحرّر مصرف لبنان من ضغوطات أعباء مهام مرهقة له في سعيه لتحقيق سياسة نقدية مستقبلية واعدة تضبط الكتلة النقدية ونموّها بشكل سليم يقتضيه «الاستقرار في الأسعار»، ويحمي المجتمع بالمقابل، من أي انحراف في ممارسة المصرف لمهامه. إذ توفّر هيئة الإشراف والرقابة المالية المقترح إنشاءها لتنقل إليها صلاحيات كل من مصرف لبنان في الإشراف ولجنة الرقابة على المصارف، كما لجنة التحقيق الخاصة وهيئة الأسواق المالية وغيرها، مرجعية صالحة للتصدّي لأي انحرافات قد تحصل في تنفيذ السياسة النقدية وتستند إلى تفسيرات غير مقنعة لنصوص قانون النقد والتسليف.

* محاضر في قانونَي النقد والمصارف المركزية