«لم تعد الحكومة في تركيبها الشخصي لجنة البورجوازية ككلّ، بل أصبحت لجنة العنصر الحاسم من البورجوازية، ألا وهو الشركات المحتكرة فردياً أو بواسطة أقليّة»
بول باران، الاقتصاد السياسي للتنمية


لم تكن النظرية الكينزية، وضرورة تدخّل الدولة في السوق من خلال الإنفاق العام، حلّاً بنيوياً للنظام الرأسمالي بقدر ما كانت حلاً لمشكلة بعينها (أزمة الكساد الكبير 1929). إلا أنه في تلك الفترة (ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي)، كما يوضح بول باران في كتاب «الاقتصاد السياسي للتنمية»، تنحّت الشركات الاحتكارية الكبرى عن قيادة الحياة الاقتصادية - الاجتماعية ومنحت جهاز الدولة حقّ التدخل والقيادة للخروج من الأزمة. هذا التنحّي لم يكن لولا ضغط الموجة الشعبية التي سئمت الأوضاع الاقتصادية المتردية. إلا أنّ هذا الحال لم يستمرّ طويلاً، ففي الولايات المتحدة، وأذكرها على سبيل المثال، عَجز الرئيس روزفلت، في حينه، عن مقاومة سلطان الشركات الكبرى التي بدأت تستعيد دورها القيادي تدريجاً بعدما هدأت الأحوال. على الرغم أنّ الشركات الاحتكارية الكبرى تتفادى الظهور على المسرح السياسي علانية، إلا أنها هي من يقف خلف جهاز الدولة وهي من يصنع مؤسّساتها.

جبروت الشركات الكبرى
في حديثه عن تطهير الوحدات الإنتاجية المتخلّفة والعديمة الكفاءة، يتحدث بول باران عن التطهير الذي تم في مرحلة «الرأسمالية التنافسية». تلك المرحلة، كما اعتبرها من قبله كارل ماركس وفريدريك أنغلز، كانت مرحلة «الطور العقلاني للرأسمالية» حيث كان السعي نحو التراكم والتوسّع هو الدافع الأساسي لتحسين أساليب الإنتاج وزيادته، وهذا ما أسهم في النموّ الاقتصادي آنذاك. وفي تلك المرحلة أيضاً كان التنافس بين الشركات الصغيرة والمتعدّدة في السوق بمثابة آلية فعّالة لتطهير الإنتاج من الوحدات المتخلّفة والعديمة الكفاءة والتي لا تسهم في النموّ الاقتصادي بشكل فعال. أي لقد كان النمو الاقتصادي هو الهدف الأساسي.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

إلا أنه مع ازدياد التراكم والتوسّع اختفت معالم الطور العقلاني للرأسمالية - «الرأسمالية التنافسية» - وظهرت معالم جديدة تدل على «الطور اللاعقلاني»، ألا وهو «الرأسمالية الاحتكارية» التي يسود فيها نمط الإنتاج الرأسمالي الاحتكاري. في هذا الطور اللاعقلاني للرأسمالية، تكون الهيمنة في الأسواق المتعدّدة إما لشركة احتكارية كبرى (احتكار كامل) أو لعدّة شركات كبرى (احتكار القلّة). وفي هذه المرحلة تستمرّ المنافسة، لكن هذه المرّة في كنف قلّة من الشركات الاحتكارية العملاقة. ويقلّ عدد المستثمرين الجدد في هذه الأسواق بسبب غياب الرغبة بالاستثمار في سوق تتحكم بها شركة كبرى أو عدة شركات. ولذلك تتربع الشركات الكبرى على عرش الاقتصاد. وفي هذه الحالة لا تَعود الأولوية بالنسبة إلى نمط الإنتاج الرأسمالي الاحتكاري تتمثّل في التخلّص من الوحدات الإنتاجية التي تُعيق النمو الاقتصادي. فالشركات الكبرى لا يمكن التخلص منها ببساطة حتى وإن جمّدت النمو الاقتصادي. نعم، لا يعود النمو هدفاً مبتغى. فقد تسلك هذه الشركات الكبرى سلوكاً ضارّاً بالنمو الاقتصادي، وقد تؤخّره أو تجمّده في بعض الأحيان، كأن تمنع استخدام آلات إنتاجية متطورة ذات كفاءة إنتاجية أعلى لأن أكلاف إحلال الجديد مكان القديم سيسبب نقصاً في الأرباح! كما أن جبروت هذه الشركات لا يقف عند الحدود السياسية والاقتصادية لبلد ما بل يمتدّ ليشمل العالم ككل. وهو جبروت مدعوم بالعسكر أيضاً. الجبروت العسكري لا يقف عند حدود الدولة بل يمتدّ ليطال كل من يعارض مشيئة الشركات الكبرى في العالم ككل. يكفي أن تسعى أي دولة من دول العالم المتخلّف، على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، لخوض غمار التنمية، ويكفيها أن تقرر ذلك فقط حتى تظهر أنياب الشركات العملاقة ممثلة بجيوش دول إمبريالية تحاول منع وإعاقة هذه الدولة الثائرة من خلال إسقاط وتغيير الطبقة الوطنية الحاكمة بأي ثمن كان.

قوّة الدولة في النموذج الصيني
في الصين نموذج مختلف عن الموجود في الرأسمالية الاحتكارية. لدينا في النموذج الصيني نوعان من أنواع الشركات والمؤسّسات المالية بشكل عام:
- النوع الأول هو الشركات والمؤسسات المالية المملوكة من قبل الدولة (GOE’s) وهي التي تهيمن فيها الدولة على اتخاذ القرارات وعلى توجيه نشاطها سواء كانت هذه الشركات مملوكة بشكل كامل من قبل الدولة أو جزئياً. أي حتى ولو كانت ملكية الدولة 1% فقط، إنما لديها موظفون يشغلون مناصب تتعلق باتخاذ القرارات، فإن للدولة تأثير وهيمنة على توجيه النشاط في هذه الشركة من خلال موظفيها، لذا تعدّ مملوكة من قبل الدولة. وللعلم فإن أكبر خمس شركات في العالم ككل، من بينها ثلاث شركات (أو أربع شركات في بعض الفترات) صينية مملوكة من قبل الدولة (يمكن مراجعة موقع Fortune). وللتوضيح، يمكننا القول أن هناك جزءاً كبيراً من الاقتصاد العالمي اليوم تديره الدولة الصينية.
- النوع الثاني، هو عبارة عن الشركات الخاصّة (POE’s) والمؤسّسات المالية الخاصة: وهي المملوكة من قبل أفراد وعائلات ولا يكون للدولة أي هيمنة أو تأثير على نشاطها. وكمعلومة تفيد السياق لا بد من ذكر أن شركة «إيفرغراند» العقارية التي سمعنا عن أزمتها أخيراً تتبع للنوع الثاني كونها مملوكة من قبل عائلة.
يلعب دور الدولة الصينية في التملّك والتوجيه تأكيداً لهيمنة علاقات الإنتاج الاشتراكية على علاقات الإنتاج الرأسمالية. إذ تعيش الأخيرة إلى جوار الأولى من خلال وجود الشركات الخاصة. وهذا يعني أن ملكية وسائل الإنتاج في الصين هي ملكية عامة وملكية خاصة تديرهما الدولة الاشتراكية في الصين (رأسمالية الدولة الاشتراكية) وفق ما تقتضيه حاجات الشعب الصيني وحركة الأسواق معاً.

التعامل مع «إيفرغراند» نموذجاً
شركة «إيفرغراند» هي ثاني أكبر الشركات العقارية في الصين. لا يقتصر نشاط الشركة الاقتصادي على سوق العقارات فقط، بل يتعدّاه إلى أسواق أخرى، كأسواق السيارات الكهربائية والتكنولوجية والمصارف والإنتاج الفني والموسيقي والرياضة والرعاية الصحية. لم نكن نسمع في الصين عن وجود أزمة اقتصادية محتملة، ولم يكن أغلبنا يعلم الكثير عن شركة «ايفرغراند» العقارية وديونها، إلا أنّ شروطاً ثلاثة (سُمّيت بالخطوط الحمراء) أصدرتها الدولة الصينية لتنظيم إقراض الشركات في الصين أدّت إلى تهديد «إيفرغراند» التي قيل في الإعلام العالمي أنّ انهيارها هو بداية انهيار الاقتصاد الصيني! فبعد تراكم ديون الشركة إلى 309 مليون دولار، قررت الدولة الصينية من خلال المصرف المركزي، إصدار الشروط الثلاثة (الخطوط الحمراء) التي تنظّم عملية إقراض البنوك للشركات العقارية ككل من دون استثناء. وهذه الشروط هي: 1) أن تكون التزامات الشركة لا تزيد عن 70% من قيمة أصولها. 2) أن يكون صافي الديون لا يزيد بأي حال عن حقوق الملكية. 3) أن تكون حيازات الشركة من النقد قادرة على إيفاء التزاماتها قصيرة الأجل.
ويتم التعامل مع الشركات العقارية على الأساس التالي: 1) من يحقّق الشروط الثلاثة يحقّ له أن يقترض لما يصل إلى 15% من إجمالي ديونه الحالية. 2) ومن يخرق شرطاً واحداً من هذه الشروط فيحقّ له أن يقترض ما يصل إلى 10% من إجمالي ديونه الحالية. 3) ومن يخرق شرطين اثنين يحقّ له أن يقترض ما يصل إلى 5% فقط. 4) أما من ينتهك الخطوط الحمراء جميعها فلن يحقّ له الاقتراض. وشركة «إيفرغراند» هي من الشركات العقارية الكبرى التي لم تحقّق ولا أي شرط من هذه الشروط! وانهيارها لا يعني أزمة في سوق العقارات فقط، بل إن هذه الأزمة ستمتدّ لتصيب قطاعات أخرى وقد تؤدي إلى انهيار الاقتصاد الصيني بكامله.

كيف استطاعت الدولة الصينية لجم شركة كبرى وتنبيه مثيلاتها؟
صحيح أن «بول باران» تحدّث عن مدى سطوة الشركات الكبرى، إلا أن للصينيين نموذجاً مختلفاً في إدارة الاقتصاد. فِعل الإدارة هذا، يظهر في البنك المركزي وفي المصارف الأربعة الكبرى في الصين وهي: البنك الصناعي والتجاري الصيني، بنك الزراعة الصيني، بنك الصين، وبنك الإنشاء والتعمير. هذه المصارف الكبرى مملوكة جميعها من الدولة، وهي بمجموعها تعدّ أداة مالية للدولة للسيطرة على الاقتصاد الصيني ككل، كما أنها تسهم في توجيهه. فلو طلبت شركة مملوكة من الدولة قرضاً من بنك مملوك من قبل الدولة (الدولة تقترض من الدولة أي أن الدولة تقرض نفسها)، فقد توافق المصارف أو ترفض. وإذا وافقت، فهذا يعني أن هذه الشركة المُقترِضة ذات كفاءة إنتاجية جيدة، ويُعتقد بأنها قادرة على سداد القرض. وقد لا توافق المصارف على إقراض شركات الدولة، وهذا يعدّ بمثابة إقرار من الدولة بالتخلّي عن شركتها كونها وحدة إنتاجية ذات كفاءة متدنية. وفي بعض الأحيان تقوم المصارف بإقراض شركات مملوكة من الدولة لكنها مُتعثرة ويُعتقد أنها غير قادرة على سداد القرض، إنما يتم إقراضها بسبب الحساسية العالية لهذه الشركة وأهمية استمرار عملها بالنسبة للاقتصاد الصيني، مثل الشركات المعنية بإنتاج المواد الأساسية في الصين.
الدولة الصينية فرضت شروطاً تهدّد بقاء الشركة في السوق وتنبّهها لتعديل سلوكها

المسؤولية بالنسبة للدولة في الحالة الثالثة هي مسؤولية اجتماعية وليست اقتصادية، ولذلك قد تعفي مصارف الدولة، شركات الدولة، من سداد القرض. أما بالنسبة للشركات الخاصة المملوكة من قبل أفراد أو عائلات فالتعامل معها يُبنى على أساس حماية النمو الاقتصادي في الصين ودعمه. فالدولة الصينية لم تكتف بمسائل الإقراض في التعامل مع «إيفرغراند» ومثيلاتها، بل وصل الأمر معها إلى حدّ فرض شروط تهدّد بقاء هذه الشركات في السوق وتنبّهها لتعديل سلوكها. أي أن الدولة لا تهيمن على الاقتصاد الصيني فقط، بل تحميه وتدافع عن نموّه من خلال الرقابة الاقتصادية ورقابة أداء الشركات جميعها (العامة والخاصة) ومن خلال أداة المؤسّسات المالية المملوكة من الدولة أيضاً. فما يحكم العملية الإنتاجية في الصين أولاً وأخيراً هو النمو الاقتصادي.

المسؤولية الاجتماعية
بمقارنة بسيطة مع الأزمة المالية السابقة في عام 2008 والتي سبّبها انهيار أسواق العقارات في الولايات المتحدة، والتي أدّت إلى إفلاس اليونان، والتي لم نسمع أي تحذير مسبق عنها، بل واحتاج العالم إلى أسابيع لفك طلاسمها، يمكننا القول أن الدولة الصينية تقدّم نموذجاً فريداً يختلف عن النموذج الذي تقدمه الرأسمالية الاحتكارية. تقدّم نموذجاً يلعب فيه النموّ الاقتصادي دوراً جوهرياً بالإضافة إلى المسؤولية الاجتماعية التي تتبناها الدولة الصينية من خلال تعاملاتها الاقتصادية. وهذا لا يعني أن الاقتصاد الصيني محميّ تماماً من الأزمات فقد يحصل حدثاً ما مفاجئ بالنسبة إلى الدولة وجهازها الرقابي والتخطيطي وقد يؤدي إلى أزمة اقتصادية. أما بالنسبة لأزمة «إيفرغراند» فقد تعلّم الصينيون الكثير من أزمة انهيار سوق العقارات في الولايات المتحدة، وها هم قد تعاملوا مع شركة عقارية بحسم قبل أن تتدهور الأمور.