لم تمض دقائق على إعلان القاضي سمويل اليتو في المحكمة الدستورية العليا، نقض قرار سابق صدر عن هذه المحكمة في عام 1973 بحق المرأة بالإجهاض، حتى عمّت شوارع المدن الكبرى تظاهرات معارضة بتشجيع من أعضاء الكونغرس الديموقراطيين. القرار يزيد الانقسام القائم بين مكوّنات المجتمع الأميركي، لأن تداعياته خطيرة، وليس فقط على تماسك الولايات المتحدة بل على مستقبل الكيان. إذ إن خطر الانقراض السكّاني في الولايات المتحدة أمر واقع وحتمي لولا الهجرة، ولو أنها تخلق مشكلات من نوع آخر. قرار كهذا يؤكّد حصول هجوم على الأسرة كوحدة أساسية للتماسك الاجتماعي، ويجعل الفرد يتحوّل من مواطن إلى مستهلك تتقلّص حقوقه وتزيد واجباته خدمة لمصالح أقلية تتحكّم بمقدرات البلاد والعالم، وترفض الخضوع لأي مساءلة أو محاسبة. لماذا يحدث ذلك؟يمكن مقاربة هذا القرار في سياق حركة انطلقت في السبعينيات لإعادة الاعتبار للملتوثيانية، أي للنظرية التي أطلقها القس روبرت مالتوث (1766-1834) أحد الاقتصاديين الكلاسيكيين في بداية القرن التاسع عشر. فهذه الحركة أصبحت تتحكّم بذهنية النخب الحاكمة في الغرب، وتشير إلى أن موارد العالم تتقلّص بسبب تزايد السكان بمعدّلات هندسية (geometric progression) في مقابل زيادة الموارد الغذائية بمعدّلات رياضية (arithmetic progression). وبالتالي، فإنه في وقت ما، لن تكفي موارد العالم الغذائية لتغطية حاجات السكان، ولا بد من استباق الأزمة القادمة عبر تحديد النسل. لذا، اعتبرت الحروب والجائحات «مفيدة» إن لم تكن «ضرورة» للوصول إلى الهدف.
(أنجل بوليغان ــ المكسيك)

التطوّرات العلمية والتقنية أسهمت في زيادة إنتاجية الموارد التي تنتج المواد الغذائية ونقضت هذه النظرية. فأصبحت الندرة التي أشار إليها مالتوث من الماضي. واللافت أنه برزت ندرة جديدة مصطنعة كلّياً، أوجدتها النخب الاقتصادية الحاكمة والمتحكّمة بمقدّرات العالم عبر الاحتكارات والتركيز الاقتصادي. ما نريد أن نقوله هو أن النيوليبرالية حوّلت الرأسمالية الإنتاجية التي تستغل اليد العاملة إلى رأسمالية ريعية مالية تستغل كل البشرية. لكن لتمكين الاستغلال، كان لا بدّ من ضبط إمكانية المساءلة والمحاسبة. فتحوّلت النظم السياسية التي كانت تحمل شعار الديموقراطية وحكم القانون والمؤسّسات، إلى دول أمنية بامتياز. إذ لم يعد القانون حامياً للمواطنين، بل أداة للنخب الحاكمة بدليل مطاردة الضابط السابق في وكالة الأمن الوطني (NSA)، إدوارد سناودن، الذي كشف عن وجود تنصّت على المواطنين الأميركيين خلافاً لأحكام الدستور والقانون الأميركي. كذلك الأمر بالنسبة لجوليان أسانج الذي يقبع في سجون المملكة المتحدة قبل ترحيله وتسليمه للسلطات الأميركي بتهم واهنة، لأنه فضح فساد السلطات الأميركية عبر تسريبات ويكيليكس. وللمزيد من المعلومات حول الدول الأمنية الجديدة، فإن كتاب وليم انجلهاردت «دولة الظلّ» يشرح كل ذلك بالتفاصيل.
إفساد الأنظمة الديموقراطية التي من واجبها ضبط سلوك الحكم، حصل عبر تدخّل المال في العملية الانتخابية التي هي قاعدة الديموقراطية. فالقوانين أصبحت تُسنّ في مكاتب مجموعات الضغط المعروفة باللوبيات التي تدفع الأموال الطائلة للنوّاب في حملاتهم الانتخابية. والإنفاق المالي غير المحدود أصبح «وسيلة عن التعبير» كما جاء في حكم مشين للمحكمة الدستورية العليا في عام 2010 التي اعتبرت الإنفاق المالي في الانتخابات حقّاً يصونه الدستور لأنه «وسيلة للتعبير». الإفساد المالي اخترق كل المؤسسات الليبرالية التي شكّلت ركائز الديموقراطية بما فيها مؤسّسات الدفاع والأمن الداخلي. فأصبحت أداة للنخب الحاكمة الشمولية تحت شعار الليبرالية.
لكن ما يدفع هذه النخب الليبرالية للتسلّط وقمع كل من يعارضها، هو خشيتها من الناس الذين يتكاثرون. ليس لدى هذه النخب حلول لمواجهة حاجات الناس إلاّ بإشراك الناس في الأرباح والامتيازات، وهذا ما لا تقبله. بالنسبة إليها، الحلّ يكمن في إلغاء الناس جسدياً وسياسياً وثقافياً. والملتوثية الجديدة بدأت تظهر في عام 1980 بعدما نُشرت مذكّرة هنري كيسنجر رقم 200 الموجهة إلى مجلس الأمن القومي في عام 1974. اعتبرت هذه المذكّرة أن مشكلة العالم هي في وجود سكّان أكثر ممّا تسمح الموارد الطبيعية. هذا التفكير الخاطئ يريد تبرير هيمنة الرجل الأبيض بشكل عام والإنغلوساكسونيّين بشكل خاص، على مقدّرات العالم. فبعد حصول معظم دول العالم على استقلالها تبخّرت إمكانية استيراد المواد الأولية بأسعار منخفضة وإعادة تدويرها عبر المنتجات الصناعية وبيعها بأسعار مرتفعة. هذا ما أشار إليه الاقتصادي الأرجنتيني راوول بريبيش في عام 1947. العديد من الدول المصدرة للمواد الأولية اعتمدت هذه النظرية بعدما كانت محرومة من استغلال ثرواتها. هنا نود التذكير بعملية تدمير القاعدة الصناعية للنسيج في مصر على يد البريطانيين في القرن التاسع عشر والتي بناها محمد علي. يومها، فُكّكت المصانع ورُميت في جزيرة موريشيوس التي كانت مستعمرة بريطانية.
ما يدفع النخب الليبرالية للتسلّط وقمع كل من يعارضها هو خشيتها من الناس الذين يتكاثرون


أما في القرن العشرين والحادي والعشرين، فقد تغيّرت موازين القوّة وأصبحت الدول التي كانت سابقاً خاضعة للنفوذ الأوروبي والأميركي، مستقلّة تدريجياً في قراراتها الاقتصادية، ما هدّد «رفاهية» الغرب. غير أن الامبراطوريات لا تتخلّى بسهولة عن مكاسبها وتعمل بشتّى الوسائل للحفاظ على سيطرتها إلى أن تستنفذ إمكاناتها كافة. بناءً على ذلك، تحوّل التفكير من السيطرة المباشرة، إلى وسائل تُفرض على الدول التي حصلت على استقلالها، الالتحاق بمنظومات اقتصادية تكون بمثابة اليد العليا للإمبراطوريات السابقة. هذا هو مفهوم مشاريع «الشراكة المتوسطية، أو الأورومتوسطية، أو الشرق الأوسط الجديد...» كلّها تسميات بمضمون واحد يكمن في السيطرة الاقتصادية والسياسية على هذه الدول. وشهدنا إقامة مؤسسة دولية على هذا الأساس، كالحلف الأطلسي الذي يهدف رسمياً إلى الدفاع عن أوروبا من الخطر السوفياتي، فتحوّل إلى مؤسسة للهيمنة الأميركية على حساب أوروبا. هذا ما يُظهره إصرار الأطلسي على إطالة الحرب في أوكرانيا، وليس بالضرورة لإضعاف روسيا، كما صرّح وزير الدفاع الأميركي، بل لجعل أوروبا خاضعة كلّياً للولايات المتحدة ووأد أي محاولة استقلالية كالتي أظهرها سابقاً الرئيس الفرنسي الراحل شارل ديغول. وكذلك الأمر بالنسبة إلى منظمة الدول الأميركية التي هدفها سيطرة الولايات المتحدة على دول أميركا اللاتينية.
تُجابه هذه المحاولات من الدول الحريصة على تحصين سيادتها بعدما استطاعت عبر نضال طويل الحصول على حيّز من الاستقلالية. وهذا لا يتماهى مع مصالح الغرب بشكل عام والنخب الحاكمة الأميركية. وهي ترى أنه لا بد من إضعاف العالم الثالث أو الجنوب الإجمالي لاستمرار سيطرتها على المواد الأولية في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. فالغرب بنى رفاهيته على حساب دول الجنوب خلال الحقبة الاستعمارية وحتى بعد حصول دول الجنوب الإجمالي على استقلالها. علماً بأن هناك دول قاومت ذلك، مثل مصر والعراق وسوريا والجزائر وكوبا، ما أدّى إلى حروب مفتوحة معها أو إلى افتعال حروب داخلية أو محاصرتها اقتصادياً أو مالياً. واليوم نرى هذه الحروب المتعدّدة الأشكال تطال دولاً كالجمهورية الإسلامية في إيران وروسيا والصين وكل دولة تُعرب بشكل أو بآخر عن رغبتها في تثبيت استقلاليتها. ويمكن القول إنه في داخل الغرب صراع مرير، إذ لا مجال لقطبين في الغرب نفسه، أن يستمرّا. فالولايات المتحدة تريد تحييد ألمانيا التي تنافسها كقوّة اقتصادية، وبالتالي لا مانع لديها أن يُدمّر الاقتصاد الألماني وحتى الأوروبي في المواجهة مع روسيا لأن خطر الشيوعية لم يعد قائماً. وهذه المسرحية ما زالت قائمة، إذ إن الاتحاد الأوروبي، ورغم أنه الخاسر الواضح، ما زال في الخندق نفسه مع الولايات المتحدة.
ما يهمّنا هو مدى تأثير ذلك على دول الجنوب الإجمالي، وخاصة في الوطن العربي. فمحاولات «إضعاف» الجنوب الإجمالي وإخضاعه للسيطرة الغربية عبر تحديد النسل ضمن هدف انقراض النسل الأفريقي والعربي مستمرّة، وإن كان ذلك بعيد المنال. ففي أفريقيا الغربية التي تخضع للهيمنة الفرنسية ما زال النقد المتداول بيد فرنسا. أما محاولات معمّر القذافي لإنشاء عملة أفريقيّة تستند إلى الذهب فقد جوبهت بتدمير ليبيا وقتل القذافي وتسليم ليبيا إلى جماعات التعصّب والغلو والتوحّش. لكن السلاح الأكثر فتكاً هو تفشّي الجائحات المختلفة. في الماضي القريب كانت جائحة «إيبولا» تفتك بأفريقيا الوسطى، وقبلها الفيروس الذي هاجم البقر في أوروبا، ثم فيروس الخنازير في آسيا، واليوم جائحة كورونا التي أصابت كل القارات دفعة واحدة وأفرزت لقاحاً غربياً قد يؤثّر في الخصوبة وإنجاب الأطفال. ناهيك أن الجائحة كانت تجربة خاضها الغرب للسيطرة القسرية على الشعوب ومنع أي معارضة لهذه الإجراءات تحت طائلة التجريم والتسخيف والعزل. فهناك شخصيات طبّية مرموقة في أوروبا تمّ تحقيرهم وعزلهم عن أعمالهم لأنهم انتقدوا طريقة معالجة الجائحة التي فرضتها الحكومات الغربية على مؤسّساتها الطبّية والصحّية. أما في الوطن العربي، فالحروب الداخلية تسهم في إفقار الدول وتمنع الوحدة وبالتالي النهضة. الحروب تضرب معدّلات النمو السكاني وعلينا أن ندرس تداعيات الحرب على العراق وسوريا واليمن والجزائر.
وقعت الصين في فخ تحديد النسل الذي خطّط له الغرب تحت شعار «التخطيط الأسري»، فحدّدت عدد الأطفال في كل أسرة بطفل واحد. وجاءت النتيجة، خلل بين ولادات الذكور والإناث لصالح الذكور ما أدّى إلى تراجع معدل نمو السكان بشكل ملحوظ ونمو معدلات الشيخوخة. الصين استدركت وتحاول تعديل ذلك ومعها روسيا التي أصابتها ظاهرة الشيخوخة أيضاً. في الواقع، سرعان ما انتبهت الدول التي خاضت تجارب تحديد النسل من خطورة هذا الإجراء الذي يخلّ بموازين القوّة والاستقرار. روسيا التي تخوض حرباً باسم عدد من الدول الرافضة للهيمنة الغربية، تجد نفسها مضطرة إلى استيراد يد عاملة أجنبية للبناء وإعادة تأهيل البنى التحتية. الحرب الغربية الاقتصادية على روسيا، تحوّلت إلى فرصة ذهبية للتنمية في روسيا ولحلفائها، إنما ذلك يتطلّب يداً عاملة، لذا، يمكن تفهّم ما قاله الرئيس الروسي في خطاب موجّه إلى الشعب الروسي في عام 2021، حول دعم الأسرة وتشجيع النسل.
هنا يكمن الفرق الكبير بين تفكير النخب النيوليبرالية وبين نخب دول الجنوب الإجمالي بما فيها الصين وروسيا. هذه الأخيرة تعتبر أن الإنسان قيمة أساسية، وأن السكّان ثروة على عكس النخب النيوليبرالية التي تعتبر أنهم عبءٌ على رفاهيتها. الفرق كبير في منظومة القيم بينهما. ويعود ذلك إلى الموروث التاريخي للمجتمعات العربية حيث القيم الروحية والاجتماعية ما زالت متجذّرة في الوعي الجماعي والفردي. فالنظرة الثابتة للأمور تتحكم بالعقل النيوليبرالي الذي يتبنّى الملتوثية الجديدة. صحيح أن التطوّر التكنولوجي استطاع منذ القرن الماضي مواجهة قضية الندرة، لكن سلوك النظام الرأسمالي عموماً، والريعي المالي خصوصاً، خلق ندرة مصطنعة تهدّد التماسك الاجتماعي. وبدلاً من تغيير السلوك وإلغاء الندرة المصطنعة الناتجة من الممارسات الاحتكارية والتمركز الاقتصادي، وجدت النخب النيوليبرالية طريق خلاصها عبر التخلّص من السكّان. كما أن النظرة النيوليبرالية للتطوّر التكنولوجي هي أنّ الذكاء الاصطناعي سيكون البديل من الإنسان، بينما نعتقد أنه مهما تتطوّر الذكاء الاصطناعي فالإبداع والتطوّر سيبقى من صنع الإنسان. لكن خشية الرأسمالية الريعية من أنها ستضطر إلى توزيع فائض الثروة على ناس لا ينتجون، وبالتالي لا مبرر لوجودهم.
التنظير ضد التناسل وصل في الولايات المتحدة إلى ذروته بعد قرار المحكمة الدستورية العليا الذي نقض قراراً سابقاً لها صدر في عام 1973 والمعروف بقضية «رو ضد وايد» (Roe vs Wade). «رو» في اللغة الإنكليزية تعني الجنين الذي لم يصبح «إنساناً». قرار النقض يعيد للولايات حقّ التشريع في ما تراه مناسباً على عكس قرارها السابق الذي سلخ حقّ الولايات في تقرير التحكّم بجسد المرأة، وبالتالي حقّها في الإجهاض. ومنذ ذلك الحين تحوّلت القضية إلى قضية خلافية عميقة بين الأميركيين. وسائل إعلام الشركات المهيمنة يُشير إلى أن حالات الحمل تشكّل عبئاً على الاقتصاد، والشركات الكبرى تفضّل تحمّل كلفة الإجهاض بدلاً من كلفة الأمومة. الإعلام الأميركي الذي أصبح شمولياً لا يقبل النقد والنقض. لذا، نرى عداء النيوليبراليين للدين وللأسرة، وهم يريدون إعادة هندسة المجتمع لصالح أقلّية نخبوية على حساب الغير. النيوليبرالية ليست عدواً للعدالة والمشاركة والمساءلة والمحاسبة فحسب، بل أيضاً لمجمل القيم الإنسانية. وهذه الأفكار تحملها مؤسّسات دولية تسهم في صنع القرار في الدول الغربية، ويمكن نعتها بمؤسسات الدمار الاجتماعي الشامل كالمنتدى الاقتصادي العالمي أو منتدى دافوس وأخواتها، كمؤسسة المجتمع المفتوح لجورج سوروس، ومنتدى بيلدبرغ، واللجنة الثلاثية للقارات، ومؤسسة بيل ومليندا غاتس.

* باحث وكاتب اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي وعضو الهيئة التأسيسية للمنتدى الاقتصادي والاجتماعي