المأزق الذي تقبع فيه الرأسمالية منذ فترة، هو من النوع الذي لا يُناقَش سياسياً. فالمحظورات على النقاش عديدة، أهمّها الموقع المتعالي الذي تحظى به السياسات النقدية لدى كل الفاعلين السياسيين في الغرب، ولا سيّما في الولايات المتحدة. وهذا لا يصعّب على الهياكل التمثيلية هناك، مهمّة المساءَلة النقدية، بل على العكس، يجعل منها حائط الصدّ الذي يُضفي على الموقع المتعالي للمؤسّسات النقدية، شرعية إضافية. لا بل يمكن اعتبار ما تقوم به على هذا الصعيد، من الأسباب التي حالت دون تعميق الأزمة وانتقالها من المستوى الاقتصادي إلى المستوى السياسي الذي تعبّر عنه الديمقراطية التمثيلية على صعيد التمثيل المحدود حزبياً، إنما الواسع شعبياً.
(أنجل بوليغان ــ المكسيك)

هذه الصيغة التي حكمت الحياتين الحزبية والسياسية في الغرب، لأكثر من قرنين، نزَعَت الطابع السياسي عن استفحال الأزمة، اقتصادياً، وبالتالي أحالت الدورات المتكرّرة من الركود والتضخّم، إلى الخبراء، لكي يتعاملوا معها، خارج إطار السياسة، وبما تتيحه أو توفّره، الأدوات الاقتصادية فحسب، من حلول تقنية وإجرائية. الاستقلالية التي تحظى بها المصارف المركزية الكبرى هناك، والمنصوص عليها دستورياً حتى، دفعت بهذا الاتجاه أكثر، إلى حدود اعتبار ما تقوم به أثناء الأزمات، من رفعٍ لأسعار الفائدة أو خفضها، شأناً يخصّها، بذاتها.

الإجماع حول السياسة النقدية
الفصل على هذا النحو بين السياسي والاقتصادي، بدا كأنه تعزيز لنظرية آدم سميث عن آلية عمل السوق في النظام الرأسمالي، حيث الدولة لا تتدخّل أبداً، ولا سيّما في السياسة النقدية، وأن كل ما يحصل من صعود وهبوط هو بمثابة تصحيح تلقائي تقوم به السوق، لحماية التدفقّات الرأسمالية من أيّ تدخّل يحصل من خارجها. الأزمات الدورية، بحسب هذا المنطق، لا تظهر كأزمات، وإنما كآليات تصحيح مستمرّة، إن لم نقل، لا متناهية، إذ إن انعكاس الأزمة على الاقتصاد، يقتصر على ما تقوله المصارف المركزية وما تفعله. وحين تحصل أزمة كبرى، نتيجة الانسداد في قنوات المعالجة النقدية، وبالتالي تصبح الحاجة ماسّة إلى تدخل الدولة كما يحدث الآن، يُعدّ ذلك بمثابة استكمال لعمل السوق، وليس العكس. النقاش السياسي وحتى على المستوى الشعبي هناك، أثناء الأزمات، لا يطاول الأدوات النقدية إلا نادراً، لأنّ الحماية التي تتمتع بها هذه السياسات، على المستويين الدستوري والسياسي، أقوى من الحصانة الخاصّة بالسياسيين والمشرّعين. في أزمة عام 2008، لم تُطرَح أسئلة من أيّ نوع، على رئيس الاحتياطي الفيدرالي آنذاك، بن برنانكي، حتى حين اُستدعي للشهادة في الكونغرس، حول مقاربة البنك المركزي الأميركي لأزمة الرهون العقارية. الأموال التي رُصِدت حينها لإنقاذ المصارف المفلسة على حساب المواطنين الذين خسروا منازلهم وعقاراتهم، كانت بمثابة هندسة مالية للتدخّل، للحدّ من خسائر القطّاع المالي. انعدام المساءلة على أيّ مستوى، لهذا النوع من السياسات، هو من ضمن الإجماع السياسي المُتفق عليه بين الأحزاب هناك، وهو ما يضعها باستمرار، خارج إطار الصراعات حول السياسة الاقتصادية لهذا الحزب أو ذاك. نزع السياسة عن المقاربة النقدية بهذه الطريقة، ينزّهها إلى حدود كبيرة، فتصبح بمثابة حَكَم بين الأطراف المتنازِعة اقتصادياً، أكثر منها طرفاً. وهذا يتعارض مع كونها بالفعل، الجهة التي تصوغ السياسة الاقتصادية لهذه الدولة الرأسمالية أو تلك، قبل أن تلحق بها الأحزاب، من على يمينها ويسارها.

قصور النقاش الاقتصادي السائد
هذا يجعل النقاش هناك حول السياسات الاقتصادية، ذا محدودية كبيرة، إلى درجة اقتصاره على مناقشة السياسة الضريبية أو أزمة التوظيف والبطالة... وهي مسائل أساسية في الاقتصاد، ولكنّ الخوض فيها من دون معاينة أَثَر السياسات النقدية عليها، يجعلها غير ذات جدوى، فعلياً. يشبه ذلك إلى حدٍّ كبير، تفسير التقلّبات التي تحصل في أسعار السلع والخدمات بمنطق العرض والطلب وحده، إذ تحصل ارتفاعات كبيرة فعلاً بالاعتماد على عامل القوّة الشرائية من عدمها، ولكن ليس حين يصل التضخّم إلى معدلات كبيرة تفوق الـ10% أو أكثر، إذ نصبح هنا، إزاء سياسات دولة وليس مجرّد تقّلبات عشوائية لهذا القطاع الاقتصادي أو ذاك.
في السياسة، يتحوّل الأمر إلى مبارزة، وأحياناً إلى صراع صفري، فمن دون معرفة الأسُس التي تُصاغ انطلاقاً منها، السياسات النقدية لهذه الدولة الرأسمالية أو تلك، يستحيل إيصال أيّ نقاش في السياسات الاقتصادية الواجب اتباعها، إلى خواتيمه. حتى عندما أتى الرئيس السابق، دونالد ترامب، بأجندة مختلفة جذرياً، على الصعيد الاقتصادي، لجهة تشجيع الحمائية والحدّ من العولمة، لم يكن من بين طروحاته ما يَمسّ، أسُس السياسة النقدية للبلاد، والتي كانت حتى ذلك الوقت، الجهة المسؤولة عن معالجة تبعات الأزمة في عام 2008. لم يطرح أحدٌ في ذلك الحين، لا من ضمن فريق ترامب ولا من مروحة خصومه في اليسار، مسؤولية هذه السياسة عن أزمة التضخّم، التي كانت قد بدأت في الولايات المتحدة وأوروبا، حتى قبل أزمة كورونا ومن بعدها الحرب في أوكرانيا. والحال أنّ الحجج التي ساقها ترامب في مواجهة خصومه الديمقراطيين، لتلميع صفحة عهده، في ما يخصّ معدّلات التوظيف المرتفعة، بدت خالية من الإشارة، إلى الفائض الكبير من السيولة الذي أُتيح لقطاعات الأعمال حينها، بفعل سياسات التيسير النقدي المتبعة منذ بداية عام 2018. معدلات النموّ المرتفعة حينها، لم تصل إلى هذا الحدّ، سواءً في أميركا أو في أوروبا، بالاعتماد فقط على سياسة خفض الضرائب أو حماية الرساميل التي أتى بها ترامب، بل لأنّ تداعيات أزمة عام 2008 كانت لا تزال مستمرّة، ومن ضمن شروط احتوائها، الاستمرار في ضخّ السيولة وسحبها، من جانب البنوك المركزية الكبرى هناك، بحيث تبقى سياسات التحكُّم بدورات التضخّم والركود المتعاقبة، تحت السيطرة. عدم فهم طبيعة هذه السياسة، يقود إلى اعتبار ما يحصل نتاجاً لسياسات الأحزاب، وحدها. وهو منظور للاقتصاد السياسي، لا يفصل فحسب بين السياسة الاقتصادية الخاصّة بالإنتاج والتجارة والاستثمار ونظيرتها النقدية المتعلّقة بإدارة السيولة وتوزيعها، بل لا يفهم، أيضاً، طريقة عمل الاثنتين معاً، إذ يتعذّر الفصل بينهما، ويستحيل تفسير الظواهر الاقتصادية، بما في ذلك الأزمات الدورية للرأسمالية، من دون الإدماج بين أدواتهما، في العمل.

جذور أزمة التضخّم
معرفة ذلك تتيح فهماً أفضل لتأثير التقلّبات النقدية على سياسات الإنتاج والتبادل التجاري، وحتى الاستهلاك. وبالتالي تضع بين يدَي المتابعين للشأن الاقتصادي، أدواتٍ تعينهم على رصد التحوّلات الخاصّة بالاقتصاد السياسي للرأسمالية، على نحوٍ أكثر دقّة. ومن ضمن هذا الفهم، متابعة تطوّرات أزمة التضخّم، التي بدأت تأخذ في كلّ مرحلة من المراحل التي أعقبت أزمة عام 2008، شكلاً مختلفاً. ففي حقبة أزمة ديون منطقة اليورو، كانت معدّلات التضخّم منخفضة بفعل تشديد السياسة النقدية، ومعها الطلب على السلع والخدمات الذي بلغ أدنى مستوياته، مع أزمة الدين في اليونان، ما أدخَلَ أوروبا والعالم لاحقاً في حقبة من الركود، لم تخرج منها، إلا مع معاودة تيسير السياسة النقدية، بُعيد عام 2018. النموّ الكبير الذي شهدته الولايات المتحدة، ابتداءً من ذلك العام، يُعزى في جزء كبير منه إلى هذه السياسة، أكثر منه إلى نجاحات إدارة ترامب الاقتصادية، بحدّ ذاتها. ومنذ ذلك الحين، لم تتغيّر مقاربة المصارف المركزية الكبرى كثيراً، فقد أبقت لسنوات أربع تقريباً، على أسعار الفائدة منخفضة، دافعةً بذلك، التضخّم إلى الحدود التي تسمح باستمرار النموّ الاقتصادي، بوتيرة منتظمة، في الدول الرأسمالية المركزية.
كان يمكن لهذه السياسة أنّ تستمرّ، لولا أزمة انتشار الفيروس، مع أواخر عام 2019 انطلاقاً من الصين، قبل أن تنتقل لاحقاً إلى كلٍّ من أوروبا والولايات المتحدة، وتبدأ بالتالي، بالتأثير على سياسات النموّ المتبعة، منذ عام 2018. انهيار الطلب على قطاعات أساسية في الاقتصادات الرأسمالية الكبرى، مثل السياحة والخدمات والنقل، بفعل حظر التنقّل والسفر، دَفَع بالمصارف المركزية الكبرى إلى تعديل سياستها الخاصّة بالتيسير النقدي، من دون المساس بوجهتها الرئيسية. فبقيت أسعار الفائدة كما هي، عند حدود الصفر، ولكن مع إضافة رئيسية، تمثّلت في معدّلات الإنفاق الهائلة التي عُرِفت لاحقاً، بعد إقرارها في كلٍّ من أوروبا والولايات المتحدة، بسياسة رزم التحفيز. الرزم التي أُقرَّت بمعدّلات مليارية، كانت تستهدف، خلافاً لأزمة عام 2008، حين أُنقذت المصارف فحسب، الحفاظ على خطوط الإنتاج الأساسية، ولا سيّما تلك التي انهارت بفعل شلّ حركة التنقّل والسفر. وهو ما تطلَّبَ إضافة بنودٍ على الإنفاق، تخصّ الطبقة العاملة نفسها، حتى لا يؤدّي تسريحها، أو صرفها من الوظائف بأعدادٍ كبيرة، إلى زيادة كلفة الإنتاج، حين تعود وتيرة النموّ إلى سابق عهدها، وتُستأنف العملية الإنتاجية. فصُرِفت لها أموال، إما للعمل من المنازل، أو للبقاء في الوظائف، حتى من دون عمل أو إنتاج. وكانت هذه هي المرّة الأولى التي يجري التعامل فيها، مع الطبقة العاملة نقدياً، كأولوية، لا تقلّ بالنسبة إلى المصارف المركزية، عن القطاعات التي تستحوذ على اهتمامها عادةً، كالمصارف وشركات التأمين والتكنولوجيا... إتاحة السيولة بهذه الطريقة، وبهذا الكمّ، حتى للأفراد، جعلت الطلب على السلع والخدمات يصل إلى مستويات قياسية. وبالتالي شهدت معدّلات التضخّم، التي كانت قد بدأت بالارتفاع منذ عام 2018، منعطفاً كبيراً، سيكون من الصعب عكسه لاحقاً، كما كان يحصل من قبل، حين تبدأ مرحلة تجفيف السيولة المعتادة، عبر رفع أسعار الفائدة وتعميم سياسات التقشّف.

«تعطّل» أدوات السياسة النقدية
والحال أنّ المزاوجة بين سياسة التيسير المعتادة وإقرار الرزم المليارية، قد أخلّت بالتوازن القائم، ليس فقط بين سياستي التيسير والتشديد، بل أيضاً بين التضخّم والركود، بحيث لم يعد ممكناً الانتقال بين المرحلتين بيُسرٍ وسهولة، كما كان يحدث سابقاً. فكمّية الأموال الضخمة التي ضُخّت في الأسواق، من دون أن تكون مغطاة بسياسة إنتاج أو حتى تبادل، واضحة، أفضت إلى حصول التدخّل لاحقاً على نحو غير مسبوق. بمعنى، أنّ معدلات التضخّم الكبيرة في معظم الدول الرأسمالية التي حصلت فيها الأزمة، اقتضت من المصارف المركزية أن ترفع أسعار الفائدة بمعدّلات قياسية بدورها، وغير مسبوقة منذ عقود. وذلك، لكي يصبح ممكناً إعادة التضخّم إلى معدّلاته المعتادة، وبالتالي «خلق ركود» يسمح، لاحقاً، بمعاودة رسملة الاقتصاد، عبر المصارف، حين يبدأ الإقراض، مجدّداً، للشركات والأفراد، على نطاق واسع. لكنّ المعادلة حالياً تبدو ممتنعة، إذ تخشى أوساط الأعمال، وخصوصاً في وول ستريت، من استمرار المصارف المركزية، ولا سيّما الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، في رفع أسعار الفائدة، وهو ما يجعل التباطؤ في الاقتصاد العالمي مُستداماً، ما يصعّب مهمّة السياسات النقدية المعتادة، في احتواء الركود المقبل.
المزاوجة بين سياسة التيسير المعتادة وإقرار الرزم المليارية أخلّت بالتوازن القائم ليس فقط بين سياستي التيسير والتشديد بل أيضاً بين التضخّم والركود


كلّ ذلك، لا يشي بقُرب انتهاء الأزمة التي لم تبدأ، كما يُشاع، مع الحرب في أوكرانيا، ولا حتى مع أزمة كورونا، بقدر ما كانت نتاج إعادة هندسة السياسات النقدية في المرحلة التي أعقبت أزمة عام 2008. منذ ذلك الحين، يشهد العالم تدخّلاتٍ غير مسبوقة من المصارف المركزية الكبرى، لتصحيح ما تقول إنه اختلالات في التدفقّات الرأسمالية. وقد اختزل الاقتصاديّ اليوناني الماركسي، يانيس فاروفاكيس الأمر، في مقال نُشِر له أخيراً، بالقول إن أدوات المصارف المركزية الكبرى للتحكّم بالسيولة، الناجمة عن التدفقات الرأسمالية واختلالاتها الهيكليّة، لم تعد تعمل كما يجب، ولا سيّما بعد أزمة الرهون العقارية. وهذا يعني أنه، حتى مع المزاوجة بين سياسة أسعار الفائدة وإقرار رزم التحفيز، سيبقى التقلّب الشديد في الأسعار، ومعها الأرباح الرأسمالية، قائماً، لا بل ستتزايد حالة «عدم اليقين» مع تقلّص قدرة أسعار الفائدة على كبح التضخّم، وبالتالي سيصبح الوصول إلى الركود المطلوب متعذّراً، قياساً بالفترات الاعتيادية. وهو، على الأرجح، ما سيُدخِل النموّ الرأسمالي العالمي، الذي يعتاش على دورات الركود والتضخّم المتوالية، في نفق يصعب الخروج منه، قريباً.